.. بقي من الزمن 4 أيام

«الشرق الأوسط» تطلع على استعدادات الأسبوع الأخير لانطلاق القناة الإخبارية الفرنسية الجديدة

TT

في الخارج حركة غير عادية. فالشارع الصغير الذي سيكون منه المدخل الرئيسي للشبكة الإخبارية الفرنسية الوليدة سمي حديثا «شارع الأمم المتحدة»، مما يعطي «فرنسا 24»، أي الشبكة الجديدة دلالة رمزية في محلها لأنه يبرز الطابع الدولي بل قل الكوني لطموح القائمين على المشروع الجديد.

البناء الواقع في إيسي ليه مولينو، ضاحية باريس الجنوبية الغربية لم ينجز بعد أو لم يكن قد أنجز عندما زارته «الشرق الأوسط».

العمال في الخارج يفرشون الشارع «زفتا». وفي الداخل، الفنيون والعمال يجهدون ويكدون في الطبقات الثلاث التي تشغلها الشبكة الجديدة. هم في سباق مع الزمن. الكابلات الكهربائية في كل مكان. العلب الكرتونية الكبيرة حاضرة هنا وهناك. المصعد الحديث «بدائي» و«الموكيت» على الأرض ما زالت مغلفة بالنيلون. ومع ذلك، فالمكان أشبه بخلية نحل. رجل الأمن الواقف قريبا من المدخل المفضي الى داخل مقر التلفزيون الجديد «مدمن» على الابتسام، وكذلك موظفتا الاستقبال اللتان تتنقلان بسهولة بينة بين اللغات. وفي الداخل، الحركة جيئة وذهابا لا تتوقف. فالقناة الإخبارية الفرنسية أو القنوات الثلاث الفرنسية والانجليزية والعربية هي في مراحل التحضير الأخيرة بل إنها تعمل بانتظام ولكن من غير أن تبث الى الخارج منذ عدة أسابيع. غير أن أعين الجميع وأذهانهم مشغولة بتاريخ وحيد: السادس من ديسمبر (كانون الأول) الحالي حيث ستنطلق الشبكة الجديدة عبر العالم عن طريق شبكة الإنترنت لتكون، كما يقول مسؤولوها، في متناول العالم أجمع قبل أن «تصعد» الى الأقمار الصناعية وتتوافر بعد 24 ساعة من التاريخ المذكور على شاشات التلفزيون العالمية. وستغطي الشبكة في المرحلة الأولى أوروبا وأفريقيا والحوض المتوسط وكل العالم العربي وأجزاء من آسيا وعددا من المدن الأميركية على الشاطئ الشرقي، وتحديدا نيويورك (مقر الأمم المتحدة وعاصمة المال في العالم) وواشنطن (مقر المؤسسات والصناديق الدولية) وغيرهما.

وتؤكد إدارة الشركة أن «فرانس 24» يمكن أن تصل منذ إطلاقها الى 250 مليون نسمة عبر العالم. وتهدف الإدارة إضافة الى ذلك، الى إيصال الشبكة في مرحلة أولى الى 500 فندق رئيسي عبر العالم تتمتع بـ 130 ألف غرفة في 130 مدينة عالمية كبرى. أما «هدف» الشبكة الجديدة فهم صناع الرأي في السياسة والاقتصاد والمال والإعلام والمؤسسات الدولية والجامعات.

إنها، بالنسبة لفرنسا ولصناعة الإعلام فيها، لحظة «تاريخية» تمثل ولوجها باب المنافسة الإعلامية على مستوى العالم.

فالطموح الفرنسي بإيجاد شبكة تلفزيونية عالمية ينافس الشبكات الأميركية والبريطانية والعربية وغيرها يعود الى التسعينات. وفي أدراج المسؤولين تراكمت مجموعة متكاملة من الدراسات والخطط والتصورات التي بقيت قابعة مكانها بدون أن ترى طريقها الى النور لسببين متصلين؛ غياب التمويل في مراحل شد الأحزمة وضغط المصاريف، وثانيا غياب الرؤية الواضحة لما يراد من الشبكة الجديدة وكيفية توليدها لتتناسب مع الأهداف. غير أن المشروع اتخذ منحى آخر عندما جعله الرئيس الفرنسي أحد أهداف ولايته الرئاسية الثانية. ومع ذلك، تقاذفت الوزارات الطموح الرئاسي ثم رسا المشروع على صيغة جديدة، إذ أنه اسند لهيئة جديدة تتشكل بالتساوي من القناة التلفزيونية الأولى (الخاصة) TF1 ومن التلفزة العمومية (فرانس تلفزيون) وتستعين لتحقيق الشبكة المذكورة بموارد وطاقات الشبكتين المذكورتين وبإمكاناتهما البشرية في الداخل، وخصوصا في الخارج التي ستوضع بموجب اتفاقات موقعة في خدمة التلفزيون الجديد. وعقدت الإدارة اتفاقات مع وكالة الأنباء الفرنسية AFP ورويترز والتلفزيون الفرنكفوني TV5 والإذاعة الفرنسية لما وراء البحار RFO فيما تستمر المناقشات مع الإذاعة الفرنسية الدولية RFI للوصول الى صيغة مقبولة من الجانبين. وتعتمد الشبكة الإخبارية الجديدة على 35 مراسلا خاصا بها عبر العالم. يضاف الى هؤلاء مجموعة واسعة من المراسلين الذين ستلجأ اليهم «عندما تدعو الحاجة» مما يمكن تسميتهم بـ«المراسلين الموسميين» فضلا عن اتفاق مع مراسلين يندرجون تحت مسمى Global radio news ووظيفتهم مد الشبكة الجديدة بما تحتاج اليه من أخبار ومراسلات وتحقيقات وخلافها. وآخر ما توصلت اليه الإدارة هو شخص «الصحافي المصور وصانع الريبورتاجات» ويشار اليه بالفرنسية بالحروف الأولى JRI. وبحسب داميان أمادو، أحد مسؤولي القسم الإعلامي، فإن عدد هؤلاء يبلغ عشرة أشخاص ويمكن إرسالهم أينما كان بفضل تمتعهم بقدرة عالية على العمل والإنتاج بشكل شبه مستقل.

كل هؤلاء ومن خلفهم من فنيين وإداريين مولجون ببث الحياة في هذه الشبكة الإخبارية الفرنسية المنشأ، الدولية الطابع التي ستبث باللغتين الفرنسية والانجليزية 24 ساعة في اليوم انطلاقا من الأسبوع القادم. أما القناة العربية فستطلق موقعها على الإنترنت بداية من السادس ديسمبر الحالي. لكنها لن تظهر على الشاشات إلا الصيف القادم والأرجح في شهر يوليو (تموز) المقبل بمعدل أربع ساعات في اليوم في المرحلة الأولى. لكن طموح أنياس لوفالوا، المديرة المساعدة المسؤولة عن القسم العربي هو أن تزيد من البرامج العربية سريعا لتصل الى 24 ساعة في اليوم. وتطمح الشبكة الى إطلاق قناة رابعة بالإسبانية والموعد المرجح لذلك، إذا سارت الأمور على ما يرام هو بحر عام 2009. وحتى الآن، يتوافر للقناة العربية عشرة صحافيين غالبيتهم من الشباب ولبعضهم تجربة تلفزيونية سابقة. وتسعى إدارة القسم العربي الى الاستفادة من فترة «السماح» قبل بدء البث الحقيقي لإتقان تدريب الفريق واستكماله وتحقيق الانسجام في العمل مع الفريقين الفرنسي والانجليزي. وفي المرحلة الأولى ستكون البرامج العربية على القناة العربية لأربع ساعات أما الوقت الباقي فستشغله البرامج الانجليزية بانتظار أن تتكثف البرامج العربية شيئا فشيئا. يقودني داميان أمادو الذي أخذ على عاتقه تعريفي بالمكان والمسؤولين والقنوات الفرنسية والعربية والانجليزية بداية الى الأقسام الفنية، بادئين بغرفة الأخبار متواصلة من غير حائط أو باب أو غرف مغلقة يروح ويجيء فيها 170 صحافيا ينتمون الى 28 جنسية ويتقن كل منهم في الأقل لغتين. إنه «النموذج الأميركي» الذي أصبح القاعدة المعمول بها في الشبكات التلفزيونية: استوديوهات الأخبار الثلاثة (الفرنسية والعربية والانجليزية) نفسها مفتوحة. المذيع يقدم نشرته الإخبارية ووراءه وعلى جوانبه الحركة لا تهدأ. ولمزيد من «الشفافية» وإظهار أن التلفزيون ليس برجا عاجيا إنما هو من واقع الحياة، فقد حرصت الإدارة على أن يكون أحد استوديوهات البرامج الحوارية والبرامج الأخرى باستثناء النشرات الإخبارية في الطابق الأرضي ويطل مباشرة على الشارع، مما سيمكن المارين من إلقاء نظرة على ما يحصل في الداخل. وسينقل شريط ضوئي عناوين الأخبار الرئيسية الى جهة الشارع مما سيساعد على توفير ملامح الشخصية «المجددة» والمنفتحة للشبكة التلفزيونية «فرانس 24». من حسنات إطلاق تلفزيون جديد هو توافر الفرصة الذهبية لاقتناء آخر المستحدث في التجهيز إن بالكاميرات أو بالكومبيوترات أوالإنتاج أو التخزين أو البث الذي سيكون بطبيعة الحال رقميا. وبحسب الأرقام التي حصلنا عليها من مسؤولي الشبكة، فإن كلفة التجهيزات بلغت 26 مليون يورو. وتبلغ ميزانية الشبكة السنوية 80 مليون يورو ستوفرها الحكومة الفرنسية بالكامل من الميزانية الحكومية العامة. ورغم أن قانون إنشاء الشركة قد سمح لها بأن يكون لها طابع تجاري وقبول بث الإعلانات التجارية، إلا أن التقديرات الأولى تفيد أن العائدات الإعلانية ستكون في المرحلة الأولى شبه غائبة. والسبب في ذلك أن الشركتين ـ الأم (فرانس تلفزيون) و(تي إف 1ْ)، خصوصا أن الشركة الثانية عارضت السماح للشبكة الجديدة بتقبل الإعلانات مخافة أن ينعكس ذلك سلبا على عائداتها الإعلانية الخاصة، لذا تم التوصل الى تسوية تمنع الشركة الجديدة من تقبل الإعلانات «المحلية»، ويسمح لها بالإعلانات ذات الطابع الإقليمي أو العالمي. والواقع أن «ولادة» الشبكة الجديدة لم تصبح ممكنة إلا بفضل صيغة تكوينية جديدة، إذ أن القناة الأولى الخاصة وفرانس تلفزيون، أي التلفزيون الحكومي، يتقاسمان ملكية الشبكة التلفزيونية الجديدة بالتساوي، ويتوليان الإدارة لكنهما لا يساهمان في الميزانية بل في رأس المال المتدني للغاية. وتمويل الشبكة مؤمن للسنوات الخمس القادمة مما يعين قدرتها على العمل والاستمرار بعيدا بعيدا عن الهموم المادية المباشرة. واستثناء، وفرت للشركة الجديدة ميزانية 86 مليون يورو للسنة التشغيلية الأولى، فيما الميزانية العادية هي 80 مليون يورو.

من الواضح أن إدارة التلفزيون الجديد راهنت على عنصر الشباب والعنصر الإنثوي حيث المعدل الوسطي للأعمار لا يزيد عن 30 عاما. وقال غريغوار دينيو، مدير الأخبار في القنوات الثلاث إن «الانسجام» بين الصحافيين الآتين من آفاق مختلفة «لا يعتبر مشكلة البتة» وسيكون بالطبع متوافرا. ولكن هل تستطيع الشبكة الجديدة أن تفرض نفسها في عالم يزخر فضاؤه بمئات القنوات التلفزيونية وما هو الجديد الذي ستحمله، والذي من شأنه أن يغري المشاهد بترك قناته أو قنواته «التقليدية» ويدعوه لمشاهدة الشبكة الفرنسية بقنواتها اللغوية الثلاث؟

يقول مدير الأخبار «إن جديد قناة «فرانس 24» سيكون في نظرتها الى الحدث والخبر وفي تحليله وتفسيره وإيصاله الى المشاهد، إذ أن الخبر الخام متوافر للجميع وما تتميز به الوسائل الإعلامية عن بعضها بعضا هو في قراءة الخبر. شبكتنا الناطقة بلغات ثلاث ليست شبكة حكومية وليست قنوات الدولة الرسمية ولنا ضمانات حول استقلالنا في العمل. نحن لسنا صوت فرنسا ولكن في عملنا ستكون هناك «نظرة فرنسية. وبالإضافة الى المواعيد الإخبارية الثابتة مطلع كل ساعة وفي منتصفها، ثمة برامج إخبارية تنكب على الحدث وتأتي بجديد حوله سيكون مختلفا عما تأتي به الشبكات المنافسة». وتذهب أنياس لوفالوا في الاتجاه عينه عندما تؤكد أن تجربة «فرانس 24» «رائدة وفريدة»، إذ أنها الوحيدة في العالم حيث ستنطلق ثلاث قنوات إخبارية في الوقت عينه مع ثلاث نشرات إخبارية وبثلاث لغات وبحسب برمجة واحدة».

وتخطط الشبكة الجديدة بقنواتها الثلاث لتوفير حيز واسع للجوانب الثقافية والفنية والحياتية الفرنسية ما من شأنه أن يعكس ما يسمى «اللمسة الفرنسية» French toutch المتميزة، والتي جلبت لباريس السمعة العالمية في الفن والملبس والمأكل وطريقة الحياة. وسيكون الاقتصاد والرياضة حاضرين بقوة في شبكة البرامج. ويقول دينيو إن أولوية الشبكة تذهب لما هو حاصل في العالم من أخبار وتطورات ولكن من غير أن تنسى ما هو جارٍ في فرنسا. غير أن الجديد هو طريقة المعالجة، إذ سيتم التركيز على ما يهم العالم الخارجي بشكل عام. وبمناسبة الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية والتشريعية القادمة سيكون هناك موعد «ثابت» يخصص للحملة الرئاسية في بعدها الدولي وبما له تأثير على ما سيكون عليه حضور فرنسا وسياستها في العالم.