لبنان .. ولبنان

بين ما تروج له كليباته الدعائية والواقع على الأرض.. فرق كبير

TT

حال ما تبرز قصة في عالم أخبار التلفزيون، من الأفضل لك ان تكون مستعدا أن تحزم حقائبك وتتجه الى أقرب مطار.

كنت أستعد بهدوء لرحلة الى دبي حيث كنت أخطط لتقديم برنامج «انسايد ذا ميدل ايست» (من داخل الشرق الأوسط) من هناك عندما ارغمنا اغتيال وزير لبناني على اعادة نظر جذرية بخططنا. ولهذا توجهت الى لبنان ثانية بعد اقل من ثلاثة أشهر على انتهاء النزاع ـ الحرب بين حزب الله واسرائيل، لأقدم تقارير حية من مكتب «سي إن إن» في بيروت. وكانت البلاد تعيش وقتا عصيبا، فمقتل السياسي المسيحي بيار الجميل كان قد أدى الى تدهور للوضع السياسي في لبنان. وكان ستة من الوزراء المؤيدين لسوريا قد استقالوا من الحكومة قبل اسابيع قليلة، بينما أثار قرار حكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، المدعوم أميركيا (والمناهض لسوريا)، بشأن المصادقة على محكمة دولية لمحاكمة المتهمين في عملية اغتيال رفيق الحريري العام الماضي مخاوف من نزاع داخلي. وكان لبنان قد التقط انفاسه بعد حرب الصيف هذه ومع ذلك فان مستقبله معلق، مرة اخرى. وعلى متن الطائرة المتجهة الى بيروت حاولت متابعة شريط فيديو دعائي على جهاز تلفزيون صغير معلق فوق رأسي. كان فيلما قصيرا يروج للسياحة والاستثمار في لبنان. وتشير العناوين الظاهرة على الشاشة الى أن «ودائع البنوك زادت بنسبة 12.5 % خلال الأشهر الـ 12 الماضية»، وفقا لمقابلة مع رئيس بنك لبنان.

والرسالة هي: حرب هذا الصيف وأعمال الاغتيال السياسي والمخاوف من تجدد الحرب الأهلية لم تبعد المستثمرين ولا يتعين ان تثير الرعب لديك، ايها الزائر الأجنبي، من وضع اموالك في البنوك اللبنانية. وانتهى الفيديو الذي يحمل عنوان «زورا لبنان» بلقطات لمحلات السوق الحرة في المطار وإعلان عن جراحات التجميل وامرأة تحقن وجهها بالـ«بوتوكس». ولكن عند الوصول الى مطار بيروت الدولي كان مكان وقوف السيارات، المزدحم عادة، فارغا تقريبا. وابلغني سائقي، عبد الله، ان الحجوزات على الفنادق كانت تلغى يوميا. واضاف بلهجة المتحسر «حتى المهاجرون اللبنانيون يؤجلون رحلات العودة الى الوطن بسبب الوضع». وفكرت في أن ذلك مشكلة كبرى بالنسبة لبلد يعتمد نموه الى حد كبير على السياحة والاستثمار الأجنبي والأموال التي يجلبها الى البلد الأثرياء اللبنانيون الذين يعيشون في الخارج، وهو ما يختلف عن الواقع الذي يروج له الفيديو المعروض في رحلة «طيران الشرق الأوسط». وفي ذلك المساء، وبعد لقاء حي حول الزلزال السياسي في لبنان، سألت وزير الاقتصاد سامي حداد حول الودائع في البنوك اللبنانية. أجابني ان «قطاع البنوك كان يعاني بالتأكيد خلال الحرب. ومن المستحيل حساب الرقم الآن، ولكن الودائع كانت اقل من 5 % خلال الصيف الحالي»، مضيفا ان «ذروة الموسم السياحي تلاشت تماما هذا العام وما يزال الاستثمار الأجنبي أضعف بكثير بالمقارنة مع الفترة ذاتها من العام الماضي». واذا ما أخذنا في الحسبان ان السياحة والمصارف تشكلان ما يصل الى ربع الدخل الوطني هنا لرأينا ان لبنان يواجه مصاعب. فبينما يركز العالم على القضايا السياسية يجري نسيان الاقتصاد، وكل ضربة تتلقاها البلاد تتطلب من اللبنانيين ما يقرب من 15 عاما لإعادة بناء ما تعرض الى التدمير منذ انتهاء الحرب الأهلية وبقايا الخراب الذي خلفته حرب الصيف المهلكة.

ومن المفهوم ان هناك قضايا مقلقة اكثر الحاحا: من قتل بيار الجميل؟ هل ستبقى حكومة السنيورة؟ وهل سيقوم حزب الله، الذي تعهد زعيمه حسن نصر الله بتشكيل حكومة «نظيفة»، بعمل متهور ويعيد الانقسام الحالي بين السياسيين المؤيدين لسوريا والمناهضين لها الى واجهة الأحداث؟ ومن المحتمل أن تؤدي حقيقة دعوة الزعماء السياسيين، بمن فيهم أمين الجميل والد الوزير المغدور، الى احتواء الأوضاع في الوقت الحالي، بل ان نصر الله دعا مؤيدي حزب الله الى مغادرة الشوارع الأسبوع الماضي. وابلغني صحافي محلي قائلا انه «لو أن هذه الدعوات لم تصدر، لانفلت الوضع وفتحت ابواب جهنم». وهكذا فان الوضع هادئ في الوقت الحالي، ولكنه يغلي تحت السطح. وما يزال المستقبل هنا يعتمد على زعماء الأطراف في لبنان وما اذا كانوا سيتجهون الى الحوار أو، في الأقل، عدم ايصال خلافاتهم الى نقطة اللاعودة.

وفي اي حال، فان الأموال التي يحتاجها البلد لاعادة الاعمار وتوفير فرص العمل لمواطنيه الشباب، وابعادهم عن الشوارع، تستمر الى النزيف خارج حدود هذا البلد الذي يعاني من المشاكل.

* مقدمة برنامج «من داخل الشرق الأوسط» على شبكة «سي إن إن»، تبث حلقة هذا الشهر اليوم في الساعة 11 صباحا ومن ثم الساعة 17.30 بتوقيت غرينتش