الخيار الصعب

صحافيون يعشقون عملهم.. لكن ماذا يحدث عندما لا تبادلهم «مهنة المتاعب» الحب؟

TT

في أحد مباني الأعمال بمدينة جدة، تجتمع شركة علاقات عامة بمؤسسة صحافية، وعلى الرغم من ان ما يفرق بينهما هو طابق واحد... فإن الكثيرين على الطرفين يشعرون بأنه مثل «الفرق بين السماء والأرض»، وذلك على أكثر من صعيد.

الفروقات تبدأ بالظهور بمجرد وصولك الى موقف السيارات، ففي الجهة المخصصة لشركة العلاقات العامة تجد أحدث السيارات الفارهة واقفة تنتظر عودة ملاكها، فيما تمر الأيام سريعا على أسياد الجهة المقابلة (الصحافة) ذوي السيارات الأقل رفاهية والأقدم موديلا وهم يرددون ناظرين الى الجهة المقابلة «يوما ما»، وعندما يطيل غياب ذلك اليوم يبدأ كثير من الصحافيين بالتفكير انه حان الوقت للانتقال للجانب الآخر، سيما وأن حاجات الموظف وتطلعاته تنمو كلما عمل اكثر في مكان ما، وفي هذا السياق فإن اللافت هو أنه عندما تقارن الصحافي برجل العلاقات العامة، فإن «الإحباط» يكون لصيق الأول و«الطموح» يكون سمة الثاني، فتسمع الأول يردد على الدوام «لا أحد يُقدر عملي» فيما الثاني يكون على الأرجح يتباهى بترقية حصل عليها مؤخرا.

وعلى كل فإن «هجرة» الصحافيين إلى مجال الأعمال، وتحديدا قطاع العلاقات العامة، ليست أمرا جديدا وليست حكرا على السعودية أو البلدان العربية... فعدد من أكبر شركات العلاقات العامة حول العالم أسست على أيدي صحافيين وتطمع دائما في استقطاب اصحاب الخبرة الإعلامية، ولا عجب في ذلك.. فمن أعلم من أبناء ما يفترض ان تكون «السلطة الرابعة» قدرة وخبرة على التعامل مع الرأي العام ومن أكثر من الصحافيين غنى في ما يخص «شبكة» العلاقات على مختلف الصعد؟

إلا أن الأمر يأخذ بعدا آخر في السعودية، وربما ينطبق الحال على كثير من البلدان العربية كذلك، فالهجرة في هذه الحالة ليست بحثا عن كنوز «الدورادو»، وان كان ذلك هو السبب في كثير من الأحيان عندما يقوم الصحافيون بفتح شركاتهم الخاصة، وانما هي محاولة للخلاص من وضع اشبه بـ «الرمال المتحركة»، ولا بد من التنويه أن هذه الرمال تختلف عما يعرفه أهل المهنة بـ «حقل ألغام» المواضيع الصحافية التي تفرض على الصحافي اتقان مهارات التزام الموضوعية والتوثيق والموازنة وادراك لعبة الحسابات.... فمن لا يحسن السير بين الألغام الإعلامية أو لا يرغب في ذلك فمن الأجدر له على الأرجح ألا يعمل في «مهنة المتاعب»، وانما المقصود هو حال من الفوضى المؤسساتية التي تعم كثيرا من الصحف والتي أودت ولا تزال تودي بالمستقبل المهني للكثير من الكفاءات السعودية والعربية في الحقل الإعلامي.

ولكن لماذا يكون الخيار هو العلاقات العامة تحديدا لمن ييأس من الصحافة؟ الاجابة تكمن لدى الصحافي السابق/ رجل العلاقات العامة الحالي... صالح فريد. ويوضح فريد ان سبب اختياره لمهنته الجديدة هو انها «الأقرب لسابقتها»، أما لماذا اختار مغادرة الصحافة فيجيب فريد موضحا انه عمل لدى مؤسسة إعلامية سعودية محلية في مطبوعات مختلفة تابعة لها... ويضيف صالح انه كان متحمسا للغاية في البداية، ولكن بعد أن لم يزدد راتبه سوى 1000ريال خلال 8 سنوات... كان لا بد من «نقلة استراتيجية»، ووقع الاختيار على شركة العلاقات العامة «هيد لاين» التي يعمل معها حاليا، والتي يقول انه يتقاضى فيها ضعفي الراتب الذي كان يأخذه في المؤسسة الصحافية، مع حصوله على فرص تدريب وتطوير للذات، علما بأنه تراجع عن استقالته منها مرتين بعد أن وُعد بتحسين وضعه فورا.. إلا أن الوعود لم يتم ايفاؤها.. فكان ما كان.

إلا أن المادة لم تكن السبب الوحيد الذي غادر من أجله فريد الصحافة، فهو يقول ان المعاملة التي يصفها بالسيئة التي كان يتلقاها تلعب دورا كبيرا.

ولكن ماذا إن كان فريد غير صالح للمهنة أو أقل كفاءة من غيره، والحديث مهني وليس عن مخالفات اخلاقية او ما شابه، فلماذا يلوم المؤسسة على عدم تحسين وضعه؟ يرد بقوله «فلنفترض للحظة انني كنت سيئا ولم استحق اي تحسين في وضعي طوال تلك الفترة، لم يقل لي أحد انك تفتقر لمهارة معينة وبإمكانك ان تطور وضعك اذا ما طورت ذلك الجانب، كما لم تقدم لي المؤسسة دورة تدريبية واحدة لتحسين قدراتي... هذا الى جانب غياب الدعم المعنوي حتى بأقل درجاته ككلمة شكر». ويضيف «لقد قدمت كل ما لديّ للصحافة.. لكنها للأسف خذلتني عندما احتجت لها».

ولكن هل كان ذلك هو الحال مع الجميع؟ يجيب صالح فريد بالنفي موضحا أن هناك فئة «المقربين» ويوضح ان الموظفين بالواسطة لدى مالك المؤسسة او رئيس تحريرها او كبار صحافييها أو مديري المكاتب المقربين منهم هم الاستثناء الوحيد، فهؤلاء يتمتعون بالزيادات والانتدابات والميزات.. ويكون ذلك في بعض الاحيان بغض النظر عن كفاءتهم. وهذه هي النقطة التي يحذر منها بشدة د. غازي زين عوض الله ـ أستاذ الإعلام بجامعة الملك عبد العزيز بجدة. ويقول عوض الله «خلال تدريسي للطلاب أجد أن أكثر ما يشغلهم هو قلقهم على استقرارهم المهني في ظل غياب الأنظمة والقوانين وغياب النقابات في بعض الدول لوضع ضوابط».

إلا أن غياب وجود جهة تعنى بحقوق الصحافيين بشكل يقارب طريقة عمل النقابة لا يمكن ان يكون السبب الوحيد، فلا نقابة لرجال العلاقات العامة ولا لموظفي البنوك في السعودية.. ومع ذلك فإن أوضاعهم ممتازة وتسير إلى الأفضل على المستويين المهني والمادي، مقارنة بالصحافيين. وكذلك فإن النقابات حاضرة في مصر وفي لبنان مثلا ومع ذلك فإن أوضاع أبناء «مهنة المتاعب» الوظيفية متعبة! يعلل د. عوض الله ذلك بقوله: إنه في كثير من النقابات يطغى عامل «البرستيج» على من هو في منصب القيادة (أي أن عمل النقيب يتحول الى تلميع صورته وظهوره هو أكثر من خدمة الصحافيين والوقوف على احوالهم).

أما نائب رئيس جمعية الإعلام والاتصال بالسعودية، د. عبد الله الحمود فيوضح نقطة ثانية تتمثل في أن غياب السلم الوظيفي الذي من خلاله فقط يتمكن الصحافي السعودي من الحفاظ على حقوقه يعود إلى كون المؤسسات الصحافية المحلية هجينة ما بين الإدارة الخاصة أو الملكية الخاصة (القطاع الخاص) والمؤسسات الحكومية (الرسمية) وبالتالي فهي لا تخضع لوزارة الخدمة المدنية باعتبارها مؤسسة حكومية أو لنظام مؤسسة التأمينات الاجتماعية باعتبارها قطاعا خاصا.

واعتبر الحمود المؤسسات الصحافية المحلية مؤسسات «شبه مدنية» لم يحن الوقت نتيجة لذلك لاستقرار نظامها الوظيفي بالشكل المرغوب، مطالبا بضرورة دعم المؤسسات المدنية تأصيل البعد المدني للمؤسسات «الشبه مدنية».

هذا فيما يعود الدكتور عوض الله ليقول «على الرغم من الانتقادات الكثيرة الموجهة للصحافة المصرية، فلا بد من النظر الى امر ايجابي موجود لدى الصحف القومية وهو حجم المساعدات وبرامج اعانة الموظفين التي تخصصها لهم... ونحن نتحدث عن صحف ليس لديها الدخل الاعلاني الذي يحققه كثير من صحفنا في السعودية».

هذا ويقر الدكتور الحمود بعدم إعداد الجمعية لأي دراسات أو بحوث تتعلق بالسلم الوظيفي في المؤسسات الصحافية الأمر الذي عزاه لأسباب عدم الاختصاص، مشيرا إلى أن دور الجمعية يتعلق بالجانب الإعلامي الأكاديمي. من جهته يعلق المتحدث الرسمي لهيئة الصحافيين السعوديين عبد الله دحلان أن الهيئة مجرد جهة رقابية و«مظلة» للصحافيين أي أنها لا تستطيع إصدار قرارات ملزمة.

وأشار دحلان الى أن الصحافيين يخضعون لوزارة العمل والعمال والتي حددت الحدود الدنيا للأجور، مضيفا أنه يرى أن توحيد سلم وظيفي للصحافيين في مختلف المؤسسات إنما من شأنه أن يظلم الصحافيين كافة، وأن الأمر يجب أن يترك لكل مؤسسة صحافية كي تضع النظام الذي تراه مناسبا. ويبين عبد الله دحلان مطالبة هيئة الصحافيين باستمرار كافة المؤسسات بتحديد سلم وظيفي لمنسوبيها إلى جانب تقديم العلاوات السنوية.

ويكرر دكتور عوض الله دعوته لاستحداث وتطبيق انظمة تضمن للصحافيين حقوقهم، مضيفا «الصحافة مهنة مظلومة جدا» وما يحدث حاليا هو أن الصحافين يتعبون ويعملون ليلا ـ نهارا لتوفير المواد للصحيفة، ومن ثم يرون الارباح المترتبة عن سعيهم (الذي يؤمن المنتج النهائي) تذهب لمندوبي الاعلانات ومديري التسويق ومسؤولي التحرير وأعضاء مجلس الإدارة، ويضيف «في النهاية الصحافة سلعة والصحافي ساهم في انتاجها ولا بد ان تكون له حصة من الربح الوارد من بيعها» (انطلاقا من مبدأ المشاركة، بمعنى أنه كلما وضع جهدا أكبر كان الأمر لمصلحته). أما طريقة مكافأة الصحافيين فلذلك طرق عديدة، ففي حين يقر كثيرون أن الصحافة ليست مهنة تقليدية كالعمل في بنك مثلا، وبالتالي فإن طبيعة ساعات العمل وأوقاتها تختلف اعتمادا على الخبر ومواعيد تسليم القصص... ويقترح د. عوض الله وجود آلية لمكافأة القصص التي تطلبت مجهودا استثنائيا والـ «خبطة» صحافية... إلا أن عوض الله يعود ليحذر من موضوع «المزاجية» (مما يعني ضرورة تعريف مفهوم «الجهد الاستثنائي» و«الخبطة» في كل مؤسسة إعلامية) ولذلك يقول ان من الافضل ان تكون مسألة المكافأة في يد «مراقب مستقل» يكون التقويم الموضوعي عمله الفعلي. من جهته يعلّق شبّاب الحارثي، عضو الجمعية السعودية للإدارة، موضحا انه في ظل غياب «الإرضاء الوظيفي» من خلال «الحوافز» سيصعب على المنشآت و المؤسسات كافة الحفاظ على كوادرها ومنسوبيها. ويوضح الحارثي أن تجاهل «المسميات الوظيفية» في المؤسسات الصحافية إنما هو عائد إلى غياب الجهة الإدارية المعنية وذلك باشتراط التخصص الإعلامي لكافة منسوبي المؤسسات الصحافية دون التركيز على توظيف خبراء في الشؤون الإدارية.

ويبين الحارثي افتقار المؤسسات الصحافية للدراسات والبحوث المتعلقة بالمسميات الوظيفية و الإرضاء الوظيفي للإعلاميين لتجنب فرار الإعلاميين من المؤسسات الصحافية إلى قطاع العلاقات العامة أو أي قطاع آخر.

وبالعودة إلى نقطة كون اعتبار البعض بأن المؤسسات الصحافية «عالقة» في هويتها بين الخاص والحكومي، فإلى جانب ذلك فإنه يمكن الاعتبار بأن الصحافة السعودية وأخرى عربية تأثرت كثيرا بالأوضاع السياسية المحيطة بها و«المدارس» التي وفدت اليها من الخارج، وكان ان غالبية هذه «المدراس» كانت مسيسة وحزبية، فغُيب مفهوم الصحافة كتجارة (مما يترتب عليه جعل السوق تنافسيا وهو ما فيه مصلحة للقارئ من حيث المعلومة والصحافي من حيث الدخل والصحيفة من حيث المصداقية والربح) فاستحدثت عبارات مثل أن «الصحافة رسالة» ومفاهيم تعتبر بأنه لا بأس بأن يعاني الصحافي من أجل مؤسسته، ولا أحد يتحدث هنا عن المعاناة من أجل الحصول على معلومة او «خبطة» أو مقابلة.. فذلك أمر مفروغ منه وهو من معايير نجاح الصحافيين، وانما المقصود هو انه لا بأس بأن يتغاضى الصحافي عن حقوقه (كراتبه وتثبيته وعقده واجازاته) في سبيل «الرسالة». وحتى لا يختم الموضوع بشكل سلبي، فإن مؤشرات إيجابية عدة تكمن في إعلان «ولادة» عدد من الصحف المحلية الجديدة في السعودية قريبا ومحاولاتها العلنية لجذب اكبر عدد من المهارات بمضاعفة رواتبهم، هذا الى جانب مع ما يحدث من «انتعاش» في القطاع في بلدان عربية عدة، اضافة الى إعلان تحول مؤسسات إعلامية سعودية وعربية الى نظام مؤسساتي يتمتع بأنظمة وقوانين شفافة ومحاولات تكرارها لنجاح طرق ادارة الصحف الغربية. والخلاصة هي القول انه إن كانت الصحافة تقتضى على من يمتهنها السير في «حقل ألغام» ليكون صحافيا بحق... فذلك لا يعني أن عليه القبول بـ «الغرق» في «الرمال المتحركة».

إلا أن سؤالا بديهيا لا بد من طرحه في النهاية، وهو: ألا يستحق الصحافيون ظروفا مهنية سيئة ان كانوا يمرون بكل ما تم ذكره ولم يسبق لأي منهم أن كتب عن هذا الموضوع ، وهم الذين لا يتركون صغيرة او كبيرة في العادة دون التعليق عليها؟ يجيب الدكتور عوض الله بقوله «لعلهم يخجلون ان يكتبوا عن وضعهم لكي لا يفهم انهم يكتبون من اجل مصلحتهم»، داعيا الكتاب والصحافيين إلى «شن حملة» من أجل تحسين حال المهنة. ويبدو كلام أستاذ الاعلام منطقيا.. ولكن ربما على الصحافيين ان يدركوا أولا أنه فعلا «من يستحي.. تروح عليه».

* شارك كل من هدى الصالح وعبد القادر الزهراني في إعداد هذا الموضوع