المغرب.. قضية مجلة «نيشان» تفتح ملف «محاكمات» الصحافة

سلسلة القضايا المماثلة رافقت تطور البلاد منذ استقلالها في خمسينات القرن الماضي

TT

اعادت محاكمة مجلة «نيشان» المغربية بسبب نشرها ملفا عن النكات، التي قالت إن المغاربة يتبادلونها عن الدين، موضوع حرية الصحافة في المغرب الى مائدة النقاش، كما سلطت الاضواء من جديد على تاريخ المحاكمات الصحافية التي عرفها البلد منذ استقلاله عام 1956. وفي هذا السياق، يقول على كريمي، المختص في قانون الصحافة، لـ «الشرق الأوسط» إن محاكمات الصحف في المغرب بدأت منذ الاستقلال، مشيرا إلى أن المحاكمة أهون في نظره بكثير من التعرض للمنع الإداري والتوقيف دون محاكمة، وهو اجراء راح ضحيته عدد من الصحف المغربية خلال عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي.

فالمحاكمة، بحسب ما يوضح كريمي، تتضمن على الأقل وجود سلطة مستقلة تبت في الجنح المرتكبة من طرف الصحافة، مضيفا أن تاريخ المغرب عرف سلسلة من المحاكمات ابتداء من سنتي 1958 و 1959.

ومن جهته اعتبر محمد العربي المساري، نقيب الصحافيين المغاربة السابق، ووزير الاتصال (الإعلام) الأسبق، في حديث مع «الشرق الأوسط» أن الحكم الصادر في حق مجلة «نيشان» الأسبوعية لا يحترم بنود الفصل 66 من قانون الصحافة الذي منعت بموجبه المجلة، لكون هذا الفصل برأيه يتحدث عن منع العدد الذي يتضمن المواد التي أثير حولها نقاش، مضيفا أن القانون في جميع الاحوال لا يخول للمحكمة وفق الفصل نفسه منع المجلة مدة شهرين. هذا فيما يعتبر محمد نبيل بن عبد الله، وزير الاتصال (الإعلام) والناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية إن ما يجب التأكيد عليه هو أن محاكمة الصحف صارت أمرا نادرا في المغرب، إذ يلاحظ وجود اتساع هامش حرية التعبير بالنسبة لمختلف المنابر الإعلامية المغربية، مضيفا أنه قد تكون هناك في بعض الأحيان محاكمات بيد أن جزءا يسيرا منها هو الذي تحركه النيابة العامة، أما باقي المحاكمات فإنها عادية ومرتبطة بخلافات بين أشخاص ذاتيين أو معنويين والمؤسسات الصحافية.

واعتبر بن عبد الله، في تصريح لـ «الشرق الأوسط»، أن المغرب يسير تدريجيا نحو نوع من التوازن الذي يكرس حرية التعبير، كما أن المسؤولية ستفرض ذاتها انطلاقا من احترام دقيق لأخلاقيات المهنة، مبرزا أن مشروع قانون الصحافة الذي تحضره الحكومة سيشكل دون شك تتويجا لهذا المسار ويجعل الحقل الإعلامي يتوفر أكثر من ذي قبل على إطار قانوني لممارسة تعتمد على احترام دقيق للأخلاقيات. وبشكل عام يمكن التمييز بين ثلاث مراحل في تاريخ الممارسة الصحافية المقترنة بالمحاكم في المغرب. تبتدئ الأولى منذ نهاية عقد الخمسينات وما تلاها، حينما احتدم الصراع بين حزب الاستقلال والجناح الذي انفصل عنه وشكل ما سمي آنذاك «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية»، الذي تحول إلى أكبر تجمع يساري معارض، مناوئ للحكم وللحزب المساند له في فترة، على السواء. وأدى الخلاف مع الحكم إلى القطيعة بينهما والتي توجت بإعلان ما يدعى في الحوليات السياسية المغربية بـ «مؤامرة يوليو (تموز) 1963» أعقبتها سلسلة اعتقالات ومحاكمات لمئات المنتسبين للاتحاد الوطني، على خلفية ضلوعهم في المؤامرة المزعومة. لكن أهم إجراء عقابي طال الحزب إضافة إلى التضييق التام على أنشطته، هو منع جريدته «التحرير» التي كان يديرها الراحل الفقيه محمد البصري، المتهم بالتآمر على النظام، بينما كان يرأس تحريرها عبد الرحمن اليوسفي، الذي لم توجه له تهمة المشاركة في المؤامرة ولكنه أحس بالخطر يداهمه، فانسل في صمت وبدأ رحلة النفي إلى الخارج ثم التحق به البصري بعد الإفراج عنه إلى أن عاد الاثنان في فترتين متباعدتين وتم تكليف اليوسفي بتشكيل حكومة التناوب الاتلافية الأولى عام 1998. التي تحفظ الفقيه في دعمها.

لم يسمح الملك الراحل الحسن الثاني بمعاودة صدور «التحرير»، كون الاسم يذكره كما كان يقال، بأحداث مواجهة لا يريد استحضارها، فاضطر الحزب المعارض إلى الصدور باسم جديد هو «المحرر» التي سيطالها نفس المصير، إثر اندلاع أحداث شغب في عدد من المدن المغربية بداية الثمانينات من القرن الماضي، وجهت للحزب الذي غير اسمه فاصبح «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، تهمة إشعال نار العنف وتحديدا إلى جناحه النقابي، الذي كان يتزعمه محمد نوبير الأموي، الأمين العام الحالي للديمقراطية للشغل، التي ابتعدت بدورها عن خط الاتحاد وأسست تنظيما سياسيا موازيا لها. آثر الحزب بعد أن حصل التقارب مع الحكم أن يبتعد عن الجذر اللغوي «حرر» وبعد نقاش واستعراض عدة أسماء، أعار اسمه إلى الجريدة المعبرة حتى الآن عن خطه السياسي. غير أن الصحافة الاتحادية لم تكن الوحيدة التي عانت من ألوان التضييق، فقد نالت جريدة «العلم» لسان حزب الاستقلال نصيبها وخاصة بعد تحول الحزب إلى المعارضة عام 1963 ليجد نفسه في نفس الجبهة مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. لم يصدر قرار منع في حق «العلم» وإنما سلط عليها سيف الرقيب الذي حرم القراء من تصفح جريدتهم أحيانا. تميزت المرحلة الثانية التي تغطي تجاوزا، عقدي السبعينات والثمانينات، باستمرار التضييق على الصحافة الذي امتد إلى المجلات الثقافية. وهكذا أوقف عدد منها بينها على سبيل المثال: «الثقافة الجديدة»، التي كان يصدرها الشاعر محمد بنيس، و«الجسور»، ذات التوجه الإيديولوجي اليساري بإدارة عبد الحميد عقار، الرئيس الحالي لاتحاد كتاب المغرب، إضافة إلى مطبوعات ثقافية أخرى مثل مجلة «الزمان المغربي». حرص الملك محمد السادس منذ توليه حكم البلاد صيف 1999 على إعطاء إشارات بداية عهد جديد، يتميز بإطلاق الحريات وفي مقدمتها حرية التعبير فرفع المنع عن عدد من الـ «تابوهات» السياسية والاجتماعية في أفق مراجعة أخطاء الماضي، فكان طبيعيا أن يقترن العهد الجديد الأكثر انفتاحا مقارنة بسابقه، بتوسيع هامش الحريات، فتوالى صدور الصحف والمطبوعات التي عودت القارئ المتعطش على جرعات متصاعدة من النقد الموجه للسلطة ورموزها واختياراتها وأسلوب مباشرتها للشأن العام، سرعان ما تم تخطيها إلى معدلات جديدة وإن لم تكن متعارضة مع قانون الصحافة إذا ما أريد تطبيقه نصا وروحا بل يمكن القول إن السلطات كثيرا ما غضت الطرف عن تجاوزات صحافية حرصا منها على إنجاح مرحلة الانتقال الديمقراطي.

وحيث إن الذين استطابوا طعم الحرية، أصروا على المزيد منها لمبررات تداخل فيها العامل التجاري بالرغبة في التنفيس عن الذات وأحيانا تصفية الحساب مع أشخاص كانوا موالين للعهد السابق، ما اضطر الحكم كرد فعل، إلى التلويح بعصا القانون، فكان أن ثارت ثائرة الصحافيين أفرادا أو منتظمين في نقابتهم.

وفي ظل أجواء التصعيد تلك، لجأت حكومة اليوسفي، وهو الصحافي بامتياز، الذي ذاق مرارة المنع، إلى إصدار قرار توقيف أسبوعية «لوجورنال» بالفرنسية، كونها اقترفت مخالفة نشر حديث صحافي مع محمد عبد العزيز، أمين عام جبهة البوليساريو المطالبة بانفصال الصحراء عن المغرب. وعللت الحكومة قرارها بالقول إن الخطوة الفريدة التي أقدمت عليها المطبوعة، تتعارض مع الدستور وإجماع المغاربة، فضلا عن كونها تخالف قانون الصحافة والنشر، لكن الصحيفة الممنوعة التي لم تجد سندا قويا في الداخل، أحنت رأسها للعاصفة واستأنفت الصدور باسم جديد. يعتبر أقسى حكم أصدره القضاء المغربي في حق الصحافة هو ذلك الذي مس الصحافي المثير للجدل، علي المرابط، بتغريم مطبوعته «دومان مغازين» وريثة الاسم القديم «دومان» بسبب ما نشره عن القصر الملكي الموجود في شاطئ الصخيرات، فقد أوردت المطبوعة أنه سيعرض للبيع. ونتيجة لتحدي المرابط للنظام، تم سجنه ومنعه من ممارسة المهنة لمدة عشر سنوات، وهو متنقل الآن بين إسبانيا والمغرب وينشر بين الفينة والأخرى مقالات في صحيفة «إلموندو» الإسبانية مستغلا عدم تعاطفها مع المغرب.

استمرت لعبة الشد والجذب بين الصحافة والنظام، وفي ذلك الخضم توبعت وحوكمت أسبوعية «الأيام» المستقلة، بسبب ملف نشرته عن الحريم الملكي في عهد ثلاثة ملوك، كما مثل امام المحكمة مدير صحيفة «الأسبوع الجديدة» عبد العزيز كوكاس، على خلفية حديث أجراه مع ندية ياسين، كريمة المرشد العام لجماعة العدل والإنسان، ضمنته انتقادات لنظام الحكم وتفضيلها للنظام الجمهوري، وهو ما بادرت إلى تصحيحه فيما بعد، قائلة إنها كانت تعقد مقارنة أكاديمية دون أن تستهدف النظام الملكي القائم في بلادها.

وبينما كانت الحكومة المغربية، بصدد إكمال مراحل التصديق على قانون الصحافة الجديد الذي يتميز عن سابقيه بالإبقاء على عقوبة السجن في حالات محدودة مثل التهجم على الدين وشخص الملك وعائلته وكل ما من شأنه أن يتضمن إساءة إلى القوات المسلحة، وإلحاق الضرر بالدفاع الوطني، ظهر بشكل مفاجئ، ملف مجلة «نيشان» التي اختارت منذ صدورها في سبتمبر (أيلول) 2006 خطا تحريريا غير مألوف، يعتمد عدا الإثارة الصادمة في بعض الأحيان، التعبير بالعامية المغربية، بدعوى القرب من القراء وملامسة مشاكل الناس العادية كما هي.