المضمار الخفي

تركز صحف كثيرة على أخبار السياسة والاقتصاد.. لكن يبدو أن الرياضة هي «مفتاح» الوصول للقراء

TT

كثيرا ما تسمع في بريطانيا أن «كرة القدم.. بمثابة الدين في هذا البلاد»، كدليل على ولع البريطانيين بهذه الرياضة. ولهذا العشق للرياضة أوجه عدة، فعندما تكون هناك مباراة ختامية حاسمة منقولة على التلفزيون، فإن الشوارع تفرغ والحانات تمتلئ لدرجة أنك تشاهد أناسا يتابعون المباراة عبر نافذتها الخارجية... كذلك تصبح المباراة ونجومها ونتيجتها الحديث الاوحد الذي تسمعه لدى ركوبك الحافلة او القطار، او التاكسي وبالطبع مع زملائك. لذا لا يستغرب ان تكون المباراة نفسها تحتل مساحة كبرى على الصفحات الاولى للصحف في اليوم التالي، وفي هذه الحالة تحتل كرة القدم أولية تتقدم حتى على السياسة والاقتصاد... وأي أمر آخر، ولا تمانع حتى أرصن الصحف البريطانية في ذلك رغم انها قد تخرج بشكل يشبه الصحف الصفراء (التابلويد) في ذلك اليوم... لأن نتيجة مباراة الأمس تتحول الى «قضية وطنية»، لاسيما ان من يلعب منتخب انجلترا او احد الاندية الكبرى مثل «تشيلسي» او «مانشستر يونايتد»، وبالتالي تجد القصة الرئيسية في الصفحة الأولى رياضية، وذلك يحدث في جرائد مثل «التايمز» و«الجارديان» والديلي تلغراف». وليست كرة القدم وحدها التي تستطيع «التسلل» الى الصفحات الأولى للصحف، ولكن أيضا كافة الرياضات البريطانية الشهيرة، مثل الكريكيت والرغبي. وفي الصيف هناك دورة «ويمبلدون» للتنس. لكن مما لا شك فيه ان لكرة القدم دائما المساحة أبرز، ليس بريطانيا وحسب وانما اوروبيا... فهذه قارة «مهوسة» بالكرة وعلى الوجه الخصوص ايطاليا وفرنسا واسبانيا وألمانيا. وفيما تغيب كرة القدم التي نعرفها نحن عن الصحافة الأميركية، باستثناء المناسبات الكبرى مثل بطولات كأس العالم (وهو ما يأمل نجم الكرة الانجليزي ديفيد بيكام ان يغيره عندما اختار قبول الذهاب الى اميركا للعب هناك) فإن نوعا آخر من كرة القدم يطغى... وبقوة، والحديث هنا بلا شك هو عن «كرة القدم الأميركية» التي تحتفل سنويا بمباراتها النهائية في احتفالية بارزة تعرف باسم «سوبر بول»، وتعتبر هذه الفعالية الحدث الأغلى إعلانيا طوال العام، حيث يتجاوز سعر الـ 30 ثانية الاعلانية ملايين الدولارات لبثها خلال الفواصل الاعلانية على التلفزيونات الناقلة للحدث، وفي أميركا هناك أيضا البيسبول ودوري كرة السلة للمحترفين والهوكى على الجليد. من جهته يقول لـ«الشرق الأوسط» الصحافي الرياضي تيم ويندل من صحيفة «يو إس أي توداي» بأنه على حد قول الكاتب جيرالد ايرلي، فان البيسبول والجاز والدستور الاميركي «هي أفضل ما انتجته الثقافة الأميركية»، مضيفا «عندما عادت لعبة البيسبول الى واشنطن دي سي بعد فترة غياب 33 سنة، أثر ذلك كثيراً على إقبال القراء على الصحف». ويزيد ويندل قائلا «الصحف يمكن ان تستغني عن السياسة والاقتصاد والأعمال، لكن لا يمكنها ان تستغني عن أخبار الناس والرياضة». لذلك ليس مستغربا ان تنشر صحيفة اميركية عريقة مثل «واشنطن بوست» ملحقا يومي تتراوح صفحاته ما بين 10 الى 16 صفحة، لتناول اخبار هذه الرياضات الاميركية المحببة، شبه خال من الاعلانات التجارية، مقابل اربع صفحات في السياسة؛ وهي الصحيفة ذات الشهرة العالمية سياسيا. وان كانت الرياضات الاميركية تصنف «جديدة» كما صحفها، فإنه في بريطانيا يعود تاريخ علاقة الصحافة بالرياضة الى القرن الثامن عشر؛ فقد نشرت صحيفة «تايمز» اول «نشرة رياضية» عام 1785 (وهي السنة التي صدرت فيها الصحيفة لأول مرة)، وبالطبع فإن الاهتمام الأساسي كان بنتائج سباقات الخيول ومن ثم الكريكيت التي لحقت في عام 1787... اما اليوم في القرن الحادي والعشرين، فقد تعدت التغطية مجرد «نشرة رياضية»، وباتت غالبية الصحف البريطانية (بما فيها التايمز الرصينة.. للغاية) تعطي صفحتها الأخيرة (التي توازي صفحة «اولى 2» في جريدة «الشرق الأوسط» للرياضة... وليس مستغربا ان تجد كثيرا من القراء، خصوصا الرجال، يبدأون قراءة الجريدة من الخلف لأن الرياضة هي أكثر ما يهمهم. وفي أحد أيام الأسبوع الماضي، وصل عدد صفحات الرياضة في «التايمز» الى نحو 22 صفحة، وهو ما كان يساوي عدد صفحات الأخبار والسياسة المحلية في الجريدة ذلك اليوم (بما في ذلك الصفحة الأولى). ويعلق رئيس قسم الصحافة والنشر في جامعة «سيتي» بلندن، أدريان مونك، بقوله لـ«الشرق الاوسط» إن «نمو الرياضات خلال القرن التاسع عشر وازاه نمو في حجم تغطيتها الصحافية»، مضيفا «انتشار ظاهرة المراهنة على سباقات الاحصنة بات يعني ان نتائج هذه السباقات باتت أخبارا مهمة كذلك». لكن ذلك ليس المؤشر الوحيد على رجوح كفة الرياضة، فرئيس التحرير التنفيذي في «التايمز» كيث بلاكمور، رقي الى هذا المنصب من عمله السابق كمحرر للرياضة في الجريدة (وذلك ليست أعجوبة... فرئيس تحرير صحيفة «انديبندنت» الحالي سيمون كيلر، كان كذلك محرر الرياضة فيها). ويقول بلاكمور في حديث مع «الشرق الأوسط» إنه «لا يعتقد أن ثمة صحيفة عصرية اليوم بإمكانها تحمل عقبات عدم الاهتمام بالتغطية الرياضية»، مضيفا أن «التايمز» توظف نحو 50 صحافيا فقط للرياضة، وان هذا العدد يزيد عندما يتم تعيين متعاونين لتغطية الأحداث الموسمية. ويضيف «قال لي رئيس تحرير صحيفة «التايمز» روبرت تومسون ذات مرة إنه منذ ان تولى رئاسة تحرير الصحيفة لم يحدث انه لم تخصص الصفحة الاخيرة في الجريدة لاخبار الرياضة ابدا».

(تومسون يرأس تحرير الصحيفة من 5 سنوات). أما عن عدد الصفحات الاقصى الذي خصص للرياضة في «التايمز»، فيقول بلاكمور انه في عام 2003 خرجت الصحيفة بملحق خاص عن مباريات الرغبي من 24 صفحة، والملحق الرياضي الاسبوعي المعروف باسم «ذا غايم» من 24 صفحة كذلك، اضافة الى الاخبار الرياضية اليومية (بين 10-12 صفحة حجم «برودشيت» في ذلك الوقت)، مما يعني اكثر من 60 صفحة رياضة في عدد واحد! يصف بلاكمور (الذي كان محرر الرياضة في الجريدة في ذلك الوقت) هذا اليوم ضاحكا «كان يوما مثيرا للاهتمام بلا شك». ولعل من المؤشرات البارزة على أهمية التغطية الرياضية في قطاع الصحف، هو الاعلانات التي تخرج بها كبريات الصحف البريطانية، والتي تركز بشكل كبير على صفحاتها وملاحقها الرياضية... واخرى تعلن انضمام الكاتب الفلاني او النجم الفلاني الى قائمة اصحاب الاعمدة في الجريدة. ويعود البروفيسور مونك ليوضح أن «الصحف باتت تعرف نفسها اليوم بتغطيتها الرياضية»، ويضيف «الصفحات الرياضية تؤخذ على محمل الجد، ولذلك تجد التركيز على ترويجها وترويج الملاحق الرياضية الاسبوعية بشكل مكثف... لأنها تبيع الجريدة بأكملها»، ويضيف «لذلك تجد التركيز على الصحافة الرياضية على النسخ الورقية اكثر بكثير من المواقع الالكترونية لنفس الصحف. ويستطرد قائلا «الرياضة أساسية في تغطية الصحف لأنها مرتبطة بأكثر من زاوية، فهناك النتائج، والتحليل، والآراء، والتعليقات، وحياة اللاعبين، الذين يتحولون الى مشاهير... اضافة الى كل ذلك هناك اخبار اقتصادية متعلقة بملكية وأسهم النوادي، السوق السوداء بخصوص التذاكر وهكذا». ويختم مونك بقوله «الصحافة الرياضية تحولت الى تجارة مربحة لدرجة ان النوادي نفسها، والتي تعتبر مصدر المعلومات، باتت تخرج بمجلاتها وقنواتها التلفزيونية الخاصة (كما هو الحال مع فريقي تشليسي ومانشستر يونايتد)، فملاك هذه النوادي هم رجال اعمال قبل كل شيء، وبالتالي فهم يزاحمون ليحصلوا على حصة من سوق المشاهدين او القراء».

* الرياضة.. بالأرقام > كلف سعر إعلان دقيقة واحدة في التلفزيون خلال مباراة السوبر بول في كرة القدم الاميركية العام الماضي خمسة ملايين دولار. وقد ظل السعر يرتفع خلال العشرين سنة الماضية، بعد ان بدأ بربع مليون دولار للدقيقة. عرض التلفزيون، خلال هذه الفترة، 1500 إعلان، استغرقت 800 دقيقة، ودرت دخلا بقيمة بليوني دولار تقريبا.

> هناك 320 مطبوعة رياضية متخصصة في المملكة المتحدة، اضافة الى 16 قناة تلفزيونية متخصصة كذلك. > تضم رابطة «صحافي» الرياضة في المملكة المتحدة 750 عضوا > تتراوح رواتب صحافيي الرياضة في بريطانيا بين 13 ألف جنيه استرليني في السنة (للمتدرب) وتصل الى نحو 30 ألفا بعد سنوات من الخبرة. لكن عندما يلمع نجم صحافي ما في مجال الرياضية، فانه قد يصل الى راتب يتجاوز الـ 100 ألف جنيه استرليني (700 ألف ريال) سنويا، وذلك هو الحال مع جيمس لاتون في صحيفة «اندبندنت»، ومارتن صمويل في صحيفة «نيوز اوف ذا ورلد» واوليفر هولت في صحيفة «ديلي ميرور». > نشرت أخبار رياضة الرغبي لأول مرة في صحيفة «تايمز» عام 1872 ورياضة كرة القدم لأول مرة عام 1829.