المغرب.. «صيف ساخن» إعلاميا

على الرغم من الانفتاح الذي شهده.. إلا أن كثيرين يعتبرون الأحداث الأخيرة خطوة إلى الوراء

مجموعة من المطبوعات المغربية ومن بينهم «نيشان»
TT

مع مجيء العاهل المغربي الملك محمد السادس إلى الحكم بالمغرب صيف عام 1999 اعتبر الكثيرون بأن البلاد باتت أشبه بواحة لحرية التعبير والصحافة في منطقة المغرب العربي بيد أنها واحة محاطة برمال متحركة تستأنف نشاطها كلما أخرجت الصحف المارد من قمقمه، وهو ما تكرر عدة مرات خلال الصيف الحالي مع أسبوعيات "الوطن الآن" و "الأسبوع" و"نيشان".

وداخل هذه الواحة وجدت الصحف والمجلات التي تنعت نفسها بـ "المستقلة" فضاء لطرح بعض المواضيع التي اعتبرت تابوهات إعلامية طيلة عقود طويلة، لكن هذه الحرية خلقت وضعا ملتبسا بين الدولة والإعلام الخاص، وهو ما يزداد التباسا وتعقيدا كل يوم، ويؤدي إلى وقوع اصطدامات تكون المحاكم حلبة لها، فالصحف الخاصة باتت تطالب برفع القدسية عن المواضيع المتعلقة بالملكية والجيش والصحراء والإسلام، وتحاول رفع هذا السقف كل يوم، بينما لا تتوانى الدولة عن تذكيرها في جميع المناسبات بوجود قواعد للعبة عليها احترامها وتجنب خرقها حتى يتم تعزيز المكتسبات المحققة في مجال الحرية والتعبير بالمغرب.

والواقع أن العلاقة بين الدولة والصحف الخاصة معقدة جدا، لأنه ليس فيها حد فاصل يمكن الاستناد إليه، كما أنها لا تتوفر على شيء ثابت يركن إليه، إنها بكلمة خليط من المتناقضات وسط حالة من عدم الاطمئنان لدى الطرفين، فمن جهة نجد الصحافة المغربية في بعض المرات تناقش قضايا حساسة جدا مثل الحياة الخاصة للأميرات أو الإصلاحات الدستورية الداعية إلى التقليص من سلطات الملك أو أسرار المؤسسة العسكرية، وهي المواضيع التي ما زال يصعب نقاشها حتى في بعض الدول الأوروبية، مثل اسبانيا التي نجد فيها ما يسمى "الموقف الوطني من بعض القضايا، إذ تلتزم «قانون الصمت» في ما يخص بعض الموضوعات، كان آخرها منع صحيفة" خويبس" الإسبانية لنشرها رسما كاريكاتوريا عن ولي العهد الاسباني الأمير فيلبي دي بوربون في وضع حميم مع زوجته بعد صدور قانون يشجع الإسبان على الإنجاب ويصرف لهم تعويضات مادية عن كل طفل يرى النور تحت سماء اسبانيا. لذلك فإنه يسود الانطباع في لحظات معينة لدى بعض الصحافيين المغاربة والعرب أن الخطوط الحمراء لا توجد إلا على الورق في المغرب، فالصحف تقول ما تريد وتنشر من الصور ما يروق لها، بيد أنه سرعان ما يقع الاصطدام وتلعلع أصوات صارخة في وسط الساحة: "إن الواحة اختفت تماما تحت رمال الصحراء".

ويبدي يونس مجاهد، الأمين العام للنقابة المغربية للصحافة، اعتراضه على وصف بعض الصحف لنفسها بـ "المستقلة"، موضحا أن مسألة "استقلالية" الصحف بالمغرب تمثل عمق إشكالية الحرية والمسؤولية،على اعتبار أن الاستقلالية في الصحافة لها مجموعة من القواعد المتعلقة بالعمل المهني التي تحيل على احترام الأجناس الصحافية والضوابط الأساسية للخبر ونسب الأخبار إلى مصادرها بشكل واضح، مبرزا أن المؤسسات الصحافية المغربية لا تتوفر على مجالس التحرير المكونة من صحافيين منتخبين يجتمعون في كل مرة لمناقشة كيفية أداء الصحيفة على المستوى المهني ومستوى الديموقراطية الداخلية واحترام الحريات النقابية وفق ما هو معمول به في مختلف البلدان الديموقراطية.

وأوضح مجاهد أن الصحف المغربية تعاني من مشاكل كبرى على مستوى أخلاقيات المهنة بسبب وجود أخطاء ناتجة عن ضعف تكوين الصحافيين وتوجهات كل صحيفة، إذ يلاحظ أن بعض الصحف تقوم بحملات منظمة ضد أشخاص أو هيئات ممولة من طرف بعض رجال الأعمال أو ذوي النفوذ داخل الدولة، مبرزا أن الأمر وصل في بعض الأحيان إلى أن بعض الصحف الصغيرة صارت تباع مثل الدكاكين.

وأشار مجاهد إلى أن الدولة لا تعترف بحرية الصحافة حتى الآن، وهو ما يجعلها تلجأ أثناء محاكمة الصحافيين إلى القانون الجنائي أو قانون الإرهاب وتصفية حساباتها عبر فرض تعويضات كبيرة مثلما حصل مع صحيفة "الوطن الآن"، مشددا على أن الدولة تعتبر الصحافة مجالا للتأثير السياسي، وبالتالي ليس هناك أي اعتراف نهائيا من طرفها بمكاسب حرية الصحافة لحدود الساعة.

وأثارت التصريحات الأخيرة لنبيل بن عبد الله، وزير الإعلام المغربي، حول عدم وجود خطوط حمراء في المغرب وعدم وجود علاقة بين حرية الصحافة والتطاول، نقاشات واسعة في أوساط الصحف الخاصة، فالوزير المغربي يرى أن بلاده لا توجد بها خطوط حمراء شرط أن يكون التناول قائما على أساس الاحترام، فهو يرى أن ما يحصل في بلاده هو دليل على سوء فهم لحرية التعبير. من جهته، يقول عبد الوهاب الرامي، أستاذ الصحافة المكتوبة بالمعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، أن المغرب يعيش على ايقاع جدل حول حرية الصحافة والمرتبط أساسا بتصور الصحافة المستقلة الجديدة (غير الحزبية) بالمغرب لمهمتها الإعلامية، إذ لا تعتبر أن هناك مقدسات وفقا للمقولة الشهيرة "الخبر مقدس والتعليق حر"، بمعنى التصالح مع المهمة الأولى التي من أجلها نشأت الصحافة ألا وهي ممارسة الرقابة المجتمعية، وضمنها، بشكل طبيعي، السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وأوضح الرامي أن الصحافة الجديدة، التي تتكون أساسا من صحفيين شباب لا تعوزهم الجرأة، تعتبر أن لا أحد ولا شيء يمكنه أن يشكل الاستثناء ما دام في قلب حركية المجتمع، مضيفا أنه في الوقت الذي انحسر فيه حس الأحزاب النقدي مع تجربة التناوب السياسي بالمغرب وجدت هذه الصحافة نفسها مدفوعة للعب دور قريب من دور المعارضة السياسية، وهو اتهام غالبا ما يتم ترديده من طرف خصومها.

وأبرز الرامي أن الشعور السائد حاليا هو أن حرية الصحافة في المغرب تنفرج أفقيا، بمعنى أن هامش هذه الحرية كبير الآن في كل ما يتعلق بقضايا المجتمع خارج ما يسمى بالمقدسات أو ما تطلق عليه الصحافة "الخطوط الحمراء" والتي تعني النظام الملكي والوحدة الترابية والدين الإسلامي ومؤسسة الجيش، مضيفا أنه حتى هذه "الثوابت" يمكن ملامستها في حدود يسطرها النظام لكن دون أن تكون مؤطرة قانونيا بشكل واضح، مبرزا أنه عند نقطة التقاطع هذه تبدأ المعاناة لأنه لا يسمح للصحافة، من وجهة النظر الرسمية، أن تتجاوز نطاق ما تحتمله دينامية المجتمع والمسار الديمقراطي بالمغرب.

وقال الرامي أنه في قلب هذه الإشكالية يبدأ مسلسل تبادل التهم، فالصحافة المستقلة ترمى بـ "العدمية"، والسعي إلى عرقلة التحول الديمقراطي، وزرع التشكيك والتيئيس في نفوس المواطنين، في حين أن الصحافة المستقلة، ترد على أن صون حرية الصحافة والتعبير، ودون استثناءات، يشكل القاعدة التي يجب الانطلاق منها لبناء المغرب الديمقراطي المنشود، مضيفا أن قضية الحكم الصادر أخيرا في حق الصحافيين عبد الرحيم أريري ومصطفي حرمة الله (أسبوعية "الوطن الآن")، المتهمين بنشر وثيقة سرية متحصل عليها بشكل لاقانوني، تبين أن الاختلالات على مستوى إيجاد صيغة أو أرضية للتعامل، بين الدولة والصحافة المستقلة ما زالت قائمة، كما أن المحاكمات ما زالت تتم خارج قانون الصحافة، فالقضاء لا يتفهم بل لا يفهم طبيعة وظيفة الصحافة وطرق اشتغالها. وأشار الرامي إلى أن الصحافيين في الدول الديمقراطية يقعون بدورهم ، دون أن تطولهم اليد الثقيلة للقضاء، تحت إغراء "كل ممنوع مرغوب"، وبالتالي فإن المقدسات في المغرب تدخل بدورها في هذا الإطار بالنسبة للصحافة المستقلة، مؤكدا على أن هذا الكلام لا يعني أبدا أن الصحافيين بالمغرب يتصرفون دائما بحس مهني وأخلاقي عال، بل هناك كثير من العثرات التي يمكن أن تسجل يوميا على مستوى أدائهم، مبرزا أن التشبع بالحرية يعني كذلك التشبع بالمسؤولية التي يعد أول مدخل لها هو المهنية التي تفرض جرأتها الخاصة وتضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار.

وفي خضم ذلك كثيرا ما يبوح بعض أبناء مهنة المتاعب بأن وجود معركة شد الشعر بين الصحافة والدولة المغربية يعد في حد ذاته أمرا ايجابيا، مقارنة بالوضع الذي تعيشه بلدان عربية عدة أخرى.