أزمة «ما بعد» رمضان

يعتبر الشهر الكريم «موسما» تلفزيونيا عربيا ذهبيا.. لكن لماذا يغيب هذا الامتياز عقب انتهائه؟

مسلسل «طاش ما طاش»
TT

يشعر الكثيرون بالفخر عندما ينظرون الى خريطة البرامج التلفزيونية على القنوات الفضائية العربية خلال شهر رمضان... مسلسلات ذات انتاج ضخم، سواء كانت كوميدية ام درامية، برامج مسابقات ذات جوائز كبرى وفرصة كبيرة بالـ"ربح الفوري" يؤمن مشاركة عشرات المتصلين في الحلقة الواحدة... والجميل في هذه اللوحة كذلك هو أنها تعكس روح تنافس حقيقي بين القنوات، وتجسد قوة مبدأ "المحتوى هو الملك" بحيث تختفي من الصورة بشكل شبه كلي جميع "قنوات المقاولات" لصالح القنوات الكبرى الأكثر قدرة على المنافسة، والتي انفقت مبالغ طائلة لشراء حقوق بث مسلسلات حصرية او انتاج برامج او مسلسلات خاصة بها، والتي بدورها تحرص على الاعلان عن اعمالها ومواعيد عرضها بشكل مكثف للمشاهدين، فيجد المشاهد العربي امام "سفرة" رمضانية عامرة تقدم على طبقه اللاقط وما عليه سوى ان يؤشر بجهاز التحكم عن بعد ليشاهد ما يناسبه من وجبات تلفزيونية محضرة باحكام. انه بلا شك وضع اقرب ما يكون الى كونه مثاليا، ولكن لأن "الأمور الجيدة لا تدوم طويلا" فإنه بمجرد انقضاء الشهر الكريم يبخل المشاهدون على القنوات بساعات المشاهدة، وتبخل القنوات على المشاهدين بهذا الكم من البرامج "الجيدة"، ان صح التعبير. وربما يلوم كل من الطرفين الآخر حول سبب هذا "البخل" المزدوج، والحقيقة ان المسألة اشبه بسؤال "البيضة والدجاجة"، وبالتالي لا بد من طرح وجهة نظر الطرفين لمعرفة لماذا لا تستطيع القنوات العربية تكرار النجاح اللافت الذي تحققه في شهر رمضان، بحسب احصاءات نسب المشاهدة، خارجه؟

الاجابة قد تكون بسيطة وحاضرة في اذهان الكثيرين منا، فرمضان شهر استثنائي بلا شك، ففي كثير من البلدان تتغير ساعات العمل وتقل، ويعطل كثيرون عن العمل او الدراسة، وبالتالي تزيد اوقات الفراغ والسهر وبالتالي مشاهدة التلفزيون، وكذلك فإن رمضان هو موسم عائلي تجتمع فيه الأسرة بشكل مكثف فإذا هو يحظى بنسبة عالية من المشاهدة الجماعية لساعات طويلة. إلا أن السؤال لم يكن عن سبب ازدياد نسب المشاهدة في رمضان، ولكن عن قلتها خارجه، وعن غياب البرامج والمسلسلات "الضاربة" بعد انتهائه... وهناك فرق كبير بين الأمرين، فهل القضية أن القنوات التلفزيونية "تمشي حالها" طوال السنة الى ان يحين الشهر الكريم، ذو نسب المشاهدة العالية الأكيدة، فتسارع لعرض افضل ما عندها وكسب الاعجاب ام ان المسألة متعلقة بأوقات ونفسية المشاهد خارج رمضان؟

يعلق مدير التسويق في مجموعة "ام.بي.سي" التلفزيونية، مازن حايك، بالقول بداية بأنه لا شك بأن شهر رمضان هو "موسم القمة" حيث نسب المشاهدة هي الأعلى. ويضيف "لا شك ان الشهر الكريم بالنسبة لقطاع التلفزيون يوازي موسم الاجازات والاعياد بالنسبة لقطاع السياحة والسفر من حيث الأهمية". ولكنه في نفس الوقت يضيف "هذا لا يعني اننا لا نقدم منتجا عالي الجودة طوال السنة"، موضحا "ولكن ما يحدث في رمضان هو ان التلفزيون يصبح بشكل عام تحت المجهر، بمعنى انه يصبح الحدث الترفيهي الاساسي للعائلة التي تجتمع اكثر حول برامجه في هذا الشهر". من جهته يضيف أستاذ الاعلام في الجامعة اللبنانية الدكتور محمود طربيه اتباع التلفزيونات لهذه الخطة الى اختلاف العناصر التي تساهم في نجاح هذه البرامج خارج شهر رمضان عن تلك المتوفرة في هذا الشهر. من هنا يرى طربيه أن كل من يعمل في هذا المجال من شركات الانتاج وشركات الاعلان والمحطات التلفزيونية، تكرس جهودها للاستفادة من كنوز هذا الشهر المادية التي تتضاعف عشرات المرات، ويقول" بالدرجة الأولى تعمل شركات الانتاج وفقا لمصلحتها المادية، فهي تبذل جهدها لانتاج أكبر نسبة برامج هذا الشهر لأن سعرها في هذه الفترة يكون مضاعفا عشرات المرات مقارنة ببقية فصول السنة وبالتالي فان الأرباح تكون أيضا مضاعفة. بعد ذلك يأتي دور المحطات التلفزيونية لتتسابق على شراء هذه البرامج وخصوصا الحصرية منها التي تتمتع بعناصر مهمة كأسماء الممثلين الابطال والمخرجين والكتّاب... ، وبذلك تقدم للمعلن مادة تتمتع بمقومات جيدة تشجعه على وضع اعلاناته التي ترتفع تعرفتها ايضا في هذا الشهر عشرات المرات، وتضمن استقطاب نسبة مشاهدة عالية".

ويضيف " كما أن المعلن يلحق المواسم وينتظر المناسبات ليظهر من خلالها الى جمهوره وهو بالتالي يلجأ الى الاستفادة من هذا الشهر وقولبة الاعلانات بما يتلاءم مع متطلباته، كأي مناسبة أخرى يوظفها لحسابه وللترويج لبضاعته". ولكن لماذا لا تستطيع القنوات العربية "خلق" موسم آخر لأعمالها، بمعنى انه لماذا لا توجد "فترة ذروة" أخرى خلال السنة، يتم التركيز فيها على أفضل الأعمال التلفزيونية، يجيب حايك " الاعلام لا يخلق المواسم وحده، وانما ما تصنعها هي ثلاثية المشاهد والمعلن والاعلام، ووجود المشاهد هو الأساس". من جهة ثانية، يترتب على هذا "الزخم" البرامجي الهائل نتيجة أخرى، وهي أن كثيرا من المشاهدين لا "يلحقون" متابعة كافة الاعمال التي يريدونها على مختلف القنوات، فيعمدون الى مشاهدة الاعادات التي تبث عادة بعد رمضان. حول ذلك يقول حايك ان الحل لا يكمن في تخفيف كمية البرامج، وانما زيادة الكم والنوع لان هناك اهتماما من المشاهدين وبالتالي تكمن ضرورة تلبية رغبات اكبر عدد منهم، ويضيف "نحترم امكانات المشاهدين ولذلك نقوم بتكرار الاعمال".

أما المخرج نقولا ابو سمح فيرى أن هناك ارتباطا وثيقا بين شركات الاعلانات وشهر رمضان، فان الكسل الانتاجي الذي نشهده طوال العام ويتحول الى نشاط ونجاح باهر في شهر رمضان معناه أن المعلنين هم الذين يتحكمون في السوق ويخوضون "حربا اعلانية" في هذه الفترة من السنة، نظرا لثقتهم في ارتفاع نسبة المشاهدة، فيرفضون توظيف أموالهم في الأيام الباقية من السنة، ويلجأون الى مبدأ تخصيص الجزء الأكبر وقد يصل الى 90 في المئة من ميزانية العام لتوظيفها فقط في هذا الشهر. في المقابل ينظر طربيه الى الموضوع من زاوية أخرى، ويقول "المعلن لا يتحكم في الانتاج بقدر ما تجذب أو تستقطب نوعية الانتاج شركات الاعلان، لأن المعلن يبحث دائما عن المكان الأفضل لترويج منتوجه، وهذا ما هو متوفر بشكل كبير في الأعمال التي تبث في هذا الشهر". ورغم تأكيد طربيه خصوصية عناصر نجاح البرامج في هذا الشهر، يعطي في المقابل ملاحظات مهمة من شأنها أن تضمن نجاحا باهرا على غرار بعض البرامج الترفيهية أو الدراما وخصوصا التي تعتمد على المسابقات الثقافية ومبدأ تلفزيون الواقع التي تركت بصمة لدى المشاهد العربي. ويختصر هذه المقومات بنوعية البرنامج التي تختلف بحسب الجمهور الموجه اليه ويميز بين تلك الخاصة بالبرامج الترفيهية وتلك التي تساهم في نجاح المسلسلات الدرامية أو الكوميدية. "فالأولى تحتاج الى أن تكون موجهة الى أوسع جمهور ممكن ولا تقتصر على فئة معينة، وبشكل أساسي أن تقدم منتجا جديدا بانتاج مهم وضخم يجذب المشاهد ويجذب اهتمامه. كما أن اشراك الجمهور بهذا النوع من البرامج كتلك التي أنتجتها بعض المحطات التلفزيونية في السنوات الأخيرة، تلعب دورا مهما في نجاح هذا النوع من البرامج. أما نجاح الثانية فيعتمد على الاسماء المهمة المشاركة في العمل، كاسم المخرج والممثلين الأبطال وكاتب النص، اضافة الى الحبكة والموضوع...".

ويضيف "لكن في كلا الحالتين لا بد من اعداد حملة اعلانية منظمة تروج بشكل فعال للبرنامج، على أن يعرض على محطة معروفة بانتشارها الواسع وارتفاع نسبة مشاهدتها وفي وقت الذروة ليضمن استقطاب أكبر نسبة مشاهدة. وبالتالي فإذا عرض على المعلن أعمال مهمة فهو بالتأكيد سيقدم على المشاركة بل ويتجرأ على توظيف أمواله في انتاجات تشكل عناصرها مجتمعة عاملا مهما في نجاحها". ويطلق طربيه على الواقع الذي تشهده المحطات التلفزيونية في هذا الشهر تسمية "البقاء للأقوى" لأن هذا الفائض يجعل المشاهد يلجأ الى الغربلة بعد مرور عشرة أيام على بدء شهر رمضان، فيختار أعمالا محددة ليتابعها، فينجح مثلا من كل نوع من الأعمال مسلسل واحد، فيما تفشل الانتاجات الأخرى، وبالتالي تكون النتيجة خسارة مادية ومعنوية لفريق وربح مادي ومعنوي لفريق آخر. ولا يختلف سمح عن هذا الرأي ويقول "لا بد من أن تعتمد المؤسسات المعنية من شركات الاعلان والانتاج على خطة بديلة من تلك التي تتبعها في هذه الفترة، وتقوم بتوزيع الأعمال على مواسم العام بدلا من حصرها في شهر معين".