مصور الوكالة الفرنسية في لبنان: التدخل بصور حرب الصيف أفقدنا مصداقيتنا

رمزي حيدر: صور الدماء لا تباع إلا في العالم الثالث

رمزي حيدر («الشرق الاوسط»)
TT

بدأت رحلة مصور "وكالة الصحافة الفرنسية" في بيروت رمزي حيدر في عام 1976. كان في العشرين من عمره. اعطته الحرب اللبنانية مادة غزيرة. لكنه لم يحبها ولم يتعودها على رغم تجواله بين حروب المنطقة كلها من دون استثناء من بيروت الى جنوب لبنان الى العراق مرارا وتكرارا، الى اليمن وافغانستان وباكستان ودارفور. وآخرها حرب مخيم نهر البارد في شمال لبنان، التي يتمنى ان تكون آخر الحروب. صوره احتلت الصفحات الاولى لكبريات الصحف العالمية. رصيده مصداقية ما يؤديه، لذا يعتبر ان قضية تركيب الصور التي اثيرت في حرب يوليو (تموز) الماضية كانت لعنة على المصورين اللبنانيين. فقد ادت الى تجنب الوكالات اعمالهم. حلمه ان يؤسس مشروعا يمنح عبره الاطفال فرصة تعلم هذه المهنة. فالاطفال مادته المفضلة، كذلك الطبيعة. يقول انه قادر من خلال الصورة على كتابة سيناريوهات تبدأ ولا تنتهي. "الشرق الاوسط" حاورت رمزي حيدر في بيروت غداة عودته من حرب البارد وفي ما يلي نص الحوار:

> انت من جيل لبناني كان رائدا في مجال التصوير الصحافي. ما الذي يميز هذا الجيل؟

ـ تميز المصورون في جيلي بمجموعة مؤهلات. اولها ان الواحد منا يستطيع قراءة الوضع السياسي والاجتماعي في بيئة التصوير. يتابع ويعرف كيف يفكر الناس. ومن لا يستطيع لن يصل الى فكرة الصورة . كذلك يجب ان يعرف المصور ماذا يريد القارئ. يجب ان تحمل الصورة مكوناتها وفكرتها. قبل رحلتي الاخيرة الى دارفور سعيت الى التعرف بعمق الى المنطقة لاطلع على طبيعة الناس ومشاكلهم فأعرف بالتالي ماذا يجب ان أصور لتعطي صورتي ثمارها. فالمصور الصحافي يجب ان يضع نصب عينيه معادلة مفادها الحرص على ان يعطي لموضوع الصورة مقابل ما يعطيه اياه هذا الموضوع. المصور المحترف يتضامن مع موضوع الصورة ويتفهم معاناة صاحب الموضوع.

> هل يعني ذلك ان التصوير رسالة؟

ـ ليس الامر رسالة. هو يتعلق بالمهنة التي اعتاش منها. ان اجيدها يعني ان اسلك هذا المنهج.

> الا يقود هذا المنهج الى الانحياز الى الموضوع؟ هل يؤثر ذلك على الحياد المهني؟

ـ الصورة دائما مع المغلوب. مع الضحية. لا أستطيع ان أكون مع القاتل في الصورة. فنحن غالبا ما نعثر على القتيل. لذا هناك مقولة انكليزية مفادها ان المصور كالغراب يحوم حول الموت والجثث. هذه طبيعة المهنة وليست أمنية المصور. القاتل لا يظهر في الصورة. يكون غالبا خلف المصور وخلف الكاميرا. مرة استطعت اعتقال قاتل في عدستي. كانت صورة مباشرة يتيمة لإحدى حفلات الاعدام الميليشيوية في حرب لبنان. المعادلة بسيطة اذا صورت المدفع لن استطيع تصوير الذين استهدفهم. > الا يزعجك ان تكون كالغراب وتحوم حول الدم؟

ـ الدم لا يباع الا في العالم الثالث. الصورة الناجحة والمتضمة أخلاقيات المهنة يجب ان تعبر عن الدم من دون اظهاره. مثل هذه الصورة تبقى في الذاكرة. هنا نتكلم عن قراءة الصورة. اصور كأني أكتب. اشير الى وجود كم هائل من الدم، يراه القارئ من دون ان اعرضه عليه. عندما تكتب الصورة فكرتها تنجح.

> لكن معظم اعلامنا العربي المرئي، صورا وشاشات، يرتكز على عنف الصورة لاظهار فظاعة ما يحدث. اين انت من هذا العنف؟

ـ لذا يعاني الاعلام العربي من مشكلة. استخدام الدم لاظهار جرائم المعتدين لا يخدم الفكرة. في عدوان "عناقيد الغضب" الاسرائيلي، ابريل (نيسان) عام 1996، لعبت الصورة دورا اساسيا لوقف العدوان. كانت الصورة من مدينة النبطية في جنوب لبنان نقلت عملية انقاذ ابراهيم العابد الذي فقد عائلته بفعل غارة اسرائيلية على منزله. لا دم ولا جثث. فقط الرجل الطالع من الركام. احتلت الصورة الصفحات الاولى في الصحف العالمية من دون استثناء في حين كانت الكتابة عن مجزرة قانا. الصورة نقلت الفكرة والقضية وفهم العالم فظاعة ما يجري.

> يقودنا كلامك الى صورة أخرى شكلت موضوع التباس في حرب يوليو (تموز) 2006. ماذا عن الصورة المركبة؟

ـ انا ضد الصورة المركبة. اعمل في المهنة منذ 30 عاما. واعرف ان الصور المركبة التي التزم بعض المصورين فبركتها في حرب الصيف الماضي أضرت باللبنانيين. هناك من تدخل لتعكس الصور فظاعة مضخمة. لماذا التدخل؟ القتيل موجود في الصورة من دون تدخل وتضخيم. هل تعرفين الاذى الذي لحق بالمصور اللبناني المحترف الذي كان حائزا ثقة الاعلام والجمهور العالمي على امتداد السنين؟ تدخلهم لتركيب الصور جعل الغرب يديننا ونحن الضحية. لماذا اعطوه هذه الفرصة بهذا الشكل السخيف وقضوا على مصداقيتنا؟ اساؤوا الى سمعتنا ومصداقية حربنا. صورتنا كانت مرآة ما يحصل. لكن البعض تذاكى في استخدام التكنولوجيا. وهكذا احبطت لعبة صغيرة سخيفة حقنا في تلك الحرب.

> الا تضخم تأثير ما حصل؟

ـ ما حصل قاد الى التشكيك بالمصور اللبناني. لا أتكلم بصفة شخصية وانما كمصور لبناني. لم نكن نواجه هذا الموقف. صورنا كانت موجودة في كل الوكالات العالمية خلال حروب لبنان والعراق وافغانستان. مع الاسف قدم بعض المصورين خدمات لا لزوم لها وانعكست سلبا عليهم وعلينا وعلى قضيتنا كلبنانيين يتعرضون الى العدوان. اما على الصعيد الشخصي فقد تسبب لي الامر بكارثة. فقد كنت معرضا كل لحظة الى الموت من اجل صورة لها مصداقيتها، لأجد ان هناك من ركب صورة على جهازه وقضى على مصداقيتي.

> ماذا عن حرب البارد التي طوينا صفحتها قبل أسابيع؟

ـ اتمنى ان تكون آخر الحروب. تمكنا في الاسبوع الاول من نقل الصورة. لكن طبيعة الحرب فرضت علينا قيودا. ولم يعد بامكان المصورين والمراسلين التحرك. كانت المرة الاولى التي نشعر فيها بهذه القيود. لم نواجه الامر حتى في العراق. مع الاسف كان بامكان الصورة ان تخدم حق الجيش اللبناني باظهار قضيته. صور الجنود في الحرب تشجعهم وترفع معنوياتهم. لا سيما وانهم كانوا يبتسمون ويطلبون الينا ان نصورهم، لكن الضابط كان يطل لينهرهم.

> ما علاقة الابتسامة بالصورة؟

ـ العلاقة بشرية والجندي انسان قبل اي شيء آخر. حتى وهو يحارب يريد ان يظهر جميلا. الابتسامة عنصر اساسي في الجمال. عين المصور تعرف هذا الامر.

> خارج الحرب ماذا تحب ان تصور؟

ـ أحب ان أصور الاطفال. أحب ابتسامتهم وفرحهم عندما يشاهدون الكاميرا. ايا كان وضعه الاجتماعي الطفل حاضرا ليفرح ويضحك ويقفز حول المصور. يلمس آلة التصوير ويطلب اليه التقاط صورته. علاقتي بالاطفال مميزة وممتازة. اشعر بالسعادة عندما البي طلبهم والتقط صورهم.

> هل قادتك هذه العلاقة مع الاطفال الى مشروع "لحظة" من خلال مهرجان الصورة "ذاكرة"؟

ـ بالطبع. حلمي ان انصرف الى هذا المشروع. فالمجموعة التي اعمل في اطارها تهدف الى توفير المعرفة والوسائل لحوالي 500 طفل فلسطيني في مخيمات اللاجئين في لبنان لبدء التصوير الخاص بهم من خلال تقديم كاميرا الى كل طفل وتوفير التدريب ودورات الارشاد وتنظيم المعارض في لبنان والعالم ونشر كتاب يضم افضل اعمال الاطفال وتوزيعه. هذا على المدى القريب. اما على المدى البعيد فالهدف يتضمن قيام عدد من المصورين المحترفين بمساعدة الاطفال لتعزيز مهارات التصوير لديهم وتوجيههم الى هذه المهنة لينقلوا بأعينهم صور معاناتهم ويحصلوا بالتالي على مهنة لها استمراريتها.

> كيف ولدت الفكرة؟

ـ فكرة المشروع ولدت بعد سقوط بغداد. آنذاك اصبحت المؤسسات الرعائية والاجتماعية من دون ادارة. خرج الاطفال الى الشارع. تشردوا وتسولوا وناموا على الطرق عند ابواب الفنادق. بعضهم اصبح مدمنا يستنشق مادة "التنر" (النفط). والبعض الآخر اكتسب عادات مخيفة. هالني ما رأيت. اثر في مثلا مشهد طفلة في التاسعة متزوجة من ولد بالكاد تجاوز الحادية عشرة. لاحقت هؤلاء الاطفال وفكرت ان اؤسس مشروعا مع زملائي لاعلمهم مهنة يعتاشون منها. لكني لم استطع لأن الاوضاع الامنية والعسكرية حالت دون ذلك. وعندما رجعت الى لبنان حاولت احياء الفكرة. ووجدت ان اطفال المخيمات يستحقون هذه الفرصة لذا انطلقت مع مجموعة تحمل الحماس ذاته. واتمنى ان أحقق هذا الهدف.

* رمزي حيدر

* رمزي حيدر مصور في وكالة الصحافة الفرنسية. رئيس جمعية "مهرجان صورة: ذاكرة". دفعه الفضول الى التصوير. عام 1976 كان رمزي يصور المسلحين على خطوط التماس. لم يكن يعرف اين يذهب بالصور. كان يملك سيارة "بيجو 504". باعها واشترى المعدات والمواد اللازمة لتظهير الافلام وحوّل غرفة الحمام الى استديو لتحويل النيغاتيف الى صور بالاسود والابيض. صداقته مع عدد من الصحافيين فتحت له الباب الاول للعمل في مكتب الخدمات "قدس برس" الذي كان يبيع صور الحرب اللبنانية الى صحف الخليج. تحت حمم غارة على منطقة الفاكهاني، في غرب بيروت خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، التقى رمزي حيدر المصور المحترف سامر معضاد الذي ساعده للعمل في وكالة "يو بي أي". عمل فيها طوال ثلاث سنوات، بعد ذلك باعت الوكالة قسم التصوير الى وكالة "رويترز". "باعوني مع معداتي. فعملت في رويترز بالكاد سنتين. انتقلت بعدها الى شركة "GAMMA" الفرنسية. عملت فيها حتى عام 1988. وانتقلت الى وكالة الصحافة الفرنسية حيث انا الآن".

رمزي اصيب مرتين. احدى الاصابتين كانت في رأسه. منعه الطبيب من الحركة. لكن الانفجار الذي تعرض له مقر المارينز في بيروت عام 1983، دفعه الى حمل آلة تصويره ورأسه ملفوف بالشاش. التقط فيلما للحدث وعاد.

يقول: "الفرق بين جيلنا والجيل الجديد من المصورين اننا تعبنا وضحينا واصبنا وتابعنا المهنة. ليس لأن هوايتنا ان نصاب ولكننا نقوم بعملنا لا أكثر ولا أقل".