في العلاقة بين الشائعة والشفافية

الصحف المصرية في «حالة حرب» بسبب أقاويل تبين إنها غير صحيحة حول صحة الرئيس

TT

الشفافية أم الشائعة، يبدو أحد الأمرين السابقين هو الخيار الوحيد أمام الإعلام المصري الرسمي بعد انتشار شائعات متوالية على مدار سنوات طويلة.

ثمة مقولة إعلامية شهيرة "الشائعة تروج عند غياب الخبر" تكشف عن أسباب انتشار معظم الشائعات في الفترة الأخيرة، ارتباط الشائعة بحياة الناس يبدو لافتا لمن يتأمل تاريخ الشائعات مع المصريين، وهو تاريخ عجيب يكشف عن ذهنية مؤلف الشائعات إن صح التعبير الخلاقة، وهي تكشف عن فجوة حقيقية بين الناس والإعلام الرسمي، عدم تصديق من ناحية، وعدم شفافية من الناحية الأخرى وآخر هذه الشائعات هي شائعة مرض الرئيس مبارك والتي تم تداولها في رسائل الجوال، وعبر رسائل البريد الالكتروني، وفي المنتديات على شبكة الانترنت، وسبقتها شائعة عن تسمم المياه، كانت سببا في بيع كميات مهولة من المياه المعدنية حتى قيل إن مطلقيها هم أصحاب هذه الشركات، وشائعة أخرى انتشرت أيام أزمة إنفلونزا الطيور في مصر وهي أن من يقترب من أي دجاجة سيموت، ولذا لم تكن غريبة الصورة التي نشرتها إحدى وكالات الأنباء لدجاجة وهي تجري وراء أحد الأشخاص وهو يهرول هرباً منها.

الدكتورة هدى زكريا أستاذ علم الاجتماع السياسي ترى أن الشائعة تكون أكثر تأثيرا في المجتمعات الفقيرة النامية، لكنها تختفي في الأجواء التي تعمها الشفافية والانكشاف، ولا يوجد لها أي تأثير يذكر، وتقول إنها سلاحٌ من أسلحة الحرب النفسية، ويتمثل في خبر مدسوس كليًّا أو جزئيًا، وينتقل شفهيًّا، أو عبر وسائل الإعلام من دون أن يرافقه أي دليل أو برهان، ويقصد غالبًا بالشائعة تحطيم المعنويات، وتحقيق أهداف سياسية، أو اجتماعية.

وتضيف أن الشائعة أصبحت الآن علما مدروسا له قواعده، وأصبحت أداة من طرق الأذى، وقد لعبت دورا كبيرا قديما في الحروب وكانت تستخدم في الحرب النفسية وتؤدي دورا مهما في هزيمة العدو وتوجيه الضربات إليه، وكانت إسرائيل تلجأ إليها كثيرا في حروبها ضد العرب، وأحيانا يكون للشائعات دور إيجابي، وتؤثر في رأيها بشدة على الأشخاص العاديين.

وترى الدكتورة هدى أن هناك ميلاً لدى الناس لتصديق الشائعات في المجتمعات التقليدية المنغلقة، وهي التي تميل إلى أن تتبنى الشائعة وأن تصدقها، مشيرة إلى أنه كلما كانت لشخصية التي تدور حولها الشخصية مشهورة كلما كانت تفاصيلها أكثر، غير أنها تعود للتأكيد بأنه لا شائعة في أجواء الشفافية والانكشاف.

الدكتور صفوت العالم أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة يقول إنه كلما ازدادت أهمية قصة ما، أو موضوع ما يتعلق باهتمامات الجمهور ومصالحهم وتكتنفه حالة من الغموض تزداد فرصة سريان الشائعة، فيبدأ الناس في اختلاق ونقل المعلومات وتداولها لأنها تلبي اهتماماتهم، وفي نفس الوقت يريدون أن ينفسوا عن هذا بالشائعات، وبالتالي كلما ازداد الأمر تعلقا بشخصية مهمة سياسية كانت أو رياضية أو فنية، في أوقات الأزمات أو في أوقات الحروب وكل هذا يعد مناخا صالحا لخلق الشائعات.

ويرى الدكتور صفوت العالم أن انتشار الشائعات مسؤولية الجميع، فلاشك أن حرية الصحافة حرية مصانة وتتم لصالح المجتمع ولصالح تعظيم الأداء الرقابي لها، ولكن حرية الصحافة لا تعني اختلاق الشائعات، وفي حالة ما إذا قامت إحدى الصحف باختلاق موقف ما فيجب على منظومة الإعلام الرسمي في الدولة أن توضح الحقيقة، خصوصا أنه لم يعد مفيدا ما كان يحدث في الماضي من تجاهل، فاليوم الحريات تعظم من كل دور سياسي، وتبين اهتمامات الرأي العام بكل المعلومات والتفاصيل، وترصد كل ما يثار من شائعات، ويعتقد العالم أن تكرر تردد الشائعة على مدار ثلاثة أسابيع من دون نفي عظَّم من وجودها، مؤكدا أننا ألفنا في مجتمعاتنا أن عدم الرد يعني نوعا من التعامي، ويعطي مصداقية لما يتردد. ويقول العالم إنه ليس ضد أن ترصد الصحافة الشائعات التي تتردد، لكن الأمر يتوقف في النهاية على طريقة صياغة الخبر، وتبيان أنه إشاعة ليس أكثر، ومن هنا تأتي مسؤولية الإعلام الرسمي الذي يجب أن يفصل بين الحقيقة والادعاء.

"ماذا إذا كانت هناك شائعة منتشرة في البلد، هل من حق الصحافة رصدها والتعليق عليها؟"، يجيب نبيل زكي الكاتب الصحفي بالأخبار ورئيس تحرير جريدة الأهالي السابق على هذا بأن من حق الصحافي أن يتناولها ومن واجبه إذا ظهر ما ينفيها أن يقول هذا، ولكن لا يصر على الشائعة، مشيرا الى أنه يجب على أي رئيس تحرير مسؤول أن يدقق وخاصة إذا جاء خبر يمس شخصية رئيسية في النظام الحاكم، وأن يحاول أن يستخدم مصادره، ويحاول أن يستشف الحقيقة من أحد وثيق الصلة بصناع القرار، ويقول "من حق الصحافة أن تنتقد وتكشف السلبيات وترصد الإيجابيات إن وجدت، لكن ليس من حقي أبدا استخدام أساليب تضعني تحت طائلة المحاسبة باعتباري منافياً للذوق العام". وإذا عدنا للشائعة الأخيرة "حالة حرب" هذا هو المسمى الأمثل لوصف الحالة التي وصل إليها حال الجماعة الصحافية في مصر، فقرار بحبس صحافي لمدة عام بسبب تناول شائعة تخص الرئيس، وحرب غير معلنة بين جناحي الصحافة في مصر، نقابة الصحافيين، والمجلس الأعلى للصحافة بسبب هذا الموضوع وحكم آخر بحبس أربعة صحافيين معارضين، وتفكير جدي من الصحف المستقلة والمعارضة في الاحتجاب احتجاجا، "حالة حرب" هو الوصف الذي استخدمته أيضا نقابة الصحافيين المصريين في وصف الحالة.

ورغم محاولة الإعلام الرسمي بإظهار الرئيس في عدد من المواقع وهو يفتتح عددا من المشروعات، لكن الحرب الحقيقية بدأت عندما شن رؤساء تحرير عدد من الصحف القومية حربا على الصحف التي تناولت الشائعة مطالبين بمعاقبة رؤساء تحريرها، وهو الأمر الذي استتبعه قرار النيابة العامة المصرية بإحالة إبراهيم عيسى رئيس تحرير صحيفة الدستور المستقلة لمحاكمة جنائية بتهمة نشر شائعات عن صحة الرئيس حسني مبارك، ووجهت له اتهامات من قبيل أن عيسى نشر بسوء قصد أخبارا وبيانات وشائعات كاذبة أدت إلى إلحاق الضرر بالمصلحة العامة تضمنت على غير الحقيقة مرض رئيس الجمهورية رغم علمه بكذب هذه الشائعات وعدم صحة ما نشره، وان ما نشر تسبب في إصابة اقتصاد البلاد بأضرار وصلت لخسائر بالبورصة تعدت الـ 350 مليون دولار، وقد حققت نيابة أمن الدولة العليا مع عيسى لمدة سبع ساعات في الخامس من سبتمبر الحالي ووجهت له تهمتين عقوبتهما الحبس وهما "إذاعة شائعات كاذبة من شأنها تكدير الأمن العام وإلقاء الرعب بين الناس وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة" و"النشر بسوء قصد عن أخبار كاذبة وشائعات كاذبة من شأنها تكدير السلم العام وإثارة الفزع"، ورغم ضخامة الاتهامات، ورغم أن جريدة الدستور ليست هي الوحيدة التي تناولت الشائعة، فهناك صحيفتا الكرامة، والبديل أيضا، فمطالبات الصحف القومية بمحاكمة عيسى لم تتوقف، ومطالبة نقابة الصحافيين باتخاذ رد فعل تجاهه، نقابة الصحافيين ردت ببيان حول ما أثير عن المعالجات الصحافية لإشاعة مرض الرئيس، قالت فيه إنها تابعت بقلق ما أثير حول بعض المعالجات الصحفية لإشاعة مرض الرئيس. وإذ تشعر النقابة بقلق بالغ من محاولات البعض استغلال هذه القضية للتحريض ضد حرية الصحافة فإنها تؤكد على أن التقدير لمقام الرئاسة وشخص الرئيس أمر لا خلاف عليه. وفي إطار التمسك الكامل بحق النقد بالنسبة للسياسات والقرارات، فإن الالتزام بالموضوعية هو الضمانة الأساسية لممارسة هذا الحق، واحترام القانون وميثاق الشرف وأخلاقيات المهنة هو الذي يدعم الحريات.

وأضاف بيان النقابة "إن ما جرى مؤخراً من انتشار شائعات حول صحة الرئيس، كان لابد أن يفرض نفسه على الجميع. ولا شك ان معظم ما نشر كان تعبيراً عن القلق المشروع حول صحة الرئيس. خاصة أن ذلك تم في ظل عدم التعامل بجدية مع هذه الشائعات من جانب أجهزة الدولة الرسمية، الأمر الذي كان يمكن أن يقضي على الشائعات في مهدها. وهو ما يفرض ضرورة تلافي ذلك مستقبلاً بتنظيم تدفق المعلومات الصحيحة أولا بأول، وخاصة حين يتعلق الأمر بشخص الرئيس. وهنا ينبغي ان نذكر انه حين سافر الرئيس الى الخارج للعلاج وتم التعامل مع الأمر بشفافية ووضوح لم يكن هناك مجال لأي شائعات على الإطلاق وإذا كان هناك من خلاف حول أسلوب بعض الصحف في التعامل مع قضية الشائعات الأخيرة، وفي ظل الغياب الإعلامي الرسمي والمعلومات الدقيقة، فإن ذلك ينبغي ان يعالج في إطار الحرص على الحريات الصحافية، وعدم تعليق أخطاء الغير على الصحافة ودون تعميم يستجيب لحملات التحريض المستمرة ضد الصحافة، وفى هذا الإطار فإن النقابة تبذل كل جهدها للتعاون مع كل الاطراف المهتمة بملف الصحافة لكي يتحمل الجميع مسؤولياتهم بدلاً من تحميل النقابة عبء تقصير بعض الأجهزة وغياب المعلومات واستمرار العمل بقوانين بالية. وربما بهذا تلقي نقابة الصحافيين الامر في اتجاه الأجهزة الرسمية, وهو ما أكملت عليه النقابة بقولها إن تدعيم الحريات وتوفير الحريات وإصدار قانون المعلومات والتعامل بشفافية مع الصحافة هو الذى يخلق المناخ الصحي لممارسة صحافية صحيحة يلتزم فيها الجميع بقواعد وأخلاقيات المهنة، بدلاً من الإحالة العاجلة الى نيابة أمن الدولة مثلما حدث مع الزميل ابراهيم عيسى أو الإشارة الى اللجوء الى "إجراءات قانونية" تستند الى بعض ما فى ترسانة النصوص والتشريعات من مواد قانونية تصادر حرية التعبير. وفي حين اتخذت نقابة الصحافيين موقفا متضامنا مع حرية الصحافيين ومنع حبسهم مع ضرورة وجود شفافية تتيح تداول المعلومات حتى تدحض الشائعات في مهدها ، اتخذ جناح الصحافة الآخر، وهو المجلس الأعلى للصحافة التابع لمجلس الشورى موقفا مضادا، حيث طلب من نقابة الصحافيين محاسبة الصحافيين غير الملتزمين بآداب المهنة، معتبرا ان صحف الدستور والبديل والكرامة استغلت مناخ الحرية في مصر وروجت لشائعات حول مرض الرئيس مبارك من شأنها النيل من المقومات الأساسية للمجتمع وإثارة الفزع بين المواطنين وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة. لكن الأزمة لم تتوقف عند هذا فحسب بل تصاعدت مع حكم بحبس أربعة صحافيين منهم أيضا إبراهيم عيسى لمدة عام، بالإضافة إلى وائل الابراشي رئيس تحرير جريدة صوت وعبد الحليم قنديل رئيس تحرير جريدة الكرامة وعادل حمودة رئيس تحرير جريدة الفجر بتهمة نشر أخبار كاذبة تسيء لقيادات الحزب الوطني الحاكم وهو ما اعتبرته نقابة الصحافيين "إعلان حرب" على حرية التعبير وأن هذا "يوم اسود في تاريخ الصحافة المصرية" وان هذا الحكم "غير مسبوق في تاريخ القضاء وفي تاريخ الصحافة المصرية"، وهو ما حفز تحرير الصحف الخاصة والمعارضة على التفكير في الاحتجاب اليوم الأحد.