وثيقة البث الفضائي العربية: تقييد للحريات.. أم منع للانتهاكات؟

المؤيدون يرونها تنظيماً والمعارضون يصنفونها كوسيلة لإحكام الرقابة

يتساءل الكثيرون حول مدى تاثير الوثيقة الفعلي على الفضائيات العربية («الشرق الاوسط»)
TT

جاءت الوثيقة التي أطلقها وزراء الإعلام العرب في اجتماعهم الاستثنائي بمقر جامعة الدول العربية بالقاهرة أخيراً لتنظيم البث الفضائي والإذاعي والتلفزيوني، لتزيد من حركة المياه التي لم تكن أبداً ساكنة في محيط الإعلاميين العرب، حيث أثارت العديد من ردود الأفعال بين المؤيدين لها من الذين رأوا فيها حلاً للكثير من تجاوزات الفضائيات العربية التي خرجت عن نطاق السيطرة، وبين المعارضين من مختلف الفئات السياسية والإعلامية وحتى مؤسسات حقوق الإنسان الذين رأوا فيها وسيلة جديدة لتقييد حرية الكلمة التي انطلقت عبر الفضائيات في السنوات الأخيرة. «ليس صحيحاً ما يقال عن أن تلك الوثيقة وسيلة لتقييد الحريات، فنحن بحاجة ملحة لظهور تلك الوثيقة نظراً لافتقار غالبية الدول العربية لتشريعات تنظم عمل الفضائيات التي تدخل أراضيها رغم مرور سنوات طويلة على ظهورها»، هكذا بدأ الدكتور عاطف العبد وكيل كلية الإعلام للدراسات العليا والبحوث حديثه حول الوثيقة، مشيرا إلى أن سلطنة عمان فقط، هي من تملك قانونا خاصا ينظم عمل القنوات الخاصة بينما القوانين في الكثير من الدول العربية لم تتطرق بشكل مباشر إلى عمل تلك القنوات، ولذلك جاءت الوثيقة مجمعة لمواثيق الشرف العربية ومواثيق الأداء الإعلامي. ويضيف العبد: «لا توجد آلية تضمن نجاح الوثيقة سوى ما ستتخذه كل دولة لسن قوانين ملزمة تنفذ ما جاء بها، أما المفوضية المزمع إنشاؤها لمتابعة عمل الفضائيات، ورصد ما تبثه، فعليها أولا توفير الدعم المادي والبشري لتقييم هذا الكم الهائل من المواد الإعلامية التي تبثها الفضائيات حيث سيتطلب ذلك تخصيص 3 ورديات عمل على مدار اليوم وأجهزة استقبال عديدة. ويقترح العبد أن يكون تطبيق الوثيقة على الفضائيات تسلسليا أي أن يبدأ بإنذارها في حالة وجود تجاوزات ثم فسخ العقد معها وطردها من الأقمار الصناعية العربية في حالة استمرار تجاوزاتها.

يذكر أنه وعقب إعلان الوثيقة بأيام قليلة أعلنت مصر إغلاق إحدى القنوات الدينية على النايل سات، وهي قناة البركة الاقتصادية الإسلامية التي كانت قد بدأت إرسالها منذ نحو العام. وقال مصدر مسؤول بالنايل سات ان قرار وقف القناة المتخصصة في مناقشة القضايا الاقتصادية من وجهة نظر اسلامية جاء بسبب عدم استكمالها للأوراق الرسمية اللازمة لعملية البث. وهو ما تراه بعض الجهات الحقوقية أول الغيث الذي يبدأ بقطرة. ويرى بهي الدين حسن رئيس مركز القاهرة لحقوق الإنسان أن الطرد من الأقمار العربية غير مجد لأن القناة قد تتجه إلى أقمار أخرى أوروبية قادرة على الوصول لنفس الجمهور واصفاً أن تصور البعض بإمكانية إغلاق السماوات المفتوحة بأنه «تصور ساذج». وهو ذات الرأي الذي يتفق عليه نجاد البرعي رئيس جمعية المساعدة القانونية واصفاً الحالة العامة للوثيقة بأنها تمثل عودة لحقبة الستينات بما شابها من رقابة على كافة وسائل الإعلام العربية. مشيراً إلى الرأي الذي أعلنته الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان من أن الوثيقة تتضمن العديد من القيود والمواد المطاطة، التي تقنن وجود رقيب على ما تنشره المحطات الفضائية من أخبار أو حوارات أو أحداث حية، بدعوى احترام السيادة الوطنية وعدم التأثير في السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية والنظام العام. وأضاف: «الوثيقة التزمت بعادة المسؤولين الحكوميين العرب عند تناولهم لمسألة تتعلق بحرية التعبير، بأن وضعت في مقدمتها تعبيرات وبنوداً شكلية تتحدث عن حق المواطن في الحصول على المعلومة والتأكيد على حرية التعبير، وهو الذي لن يحدث في ظل بنودها».

دكتور سامي الشريف أستاذ الإعلام بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، قال: ان كل دول العالم الغربي المتحرر بها قوانين تحكم عملية البث الفضائي بها، وبالتالي فتلك الوثيقة ليست بدعة عربية، فالأصل فيها أنها جاءت لتحمي الجمهور العربي من الفضائيات التي باتت خارج نطاق السيطرة الى الحد أنها تدخل بيت أي إنسان دونما استئذان، وبعضها يبث مواد لا تتفق مع الآداب العامة والعقائد السائدة. ويضيف الشريف: «لقد عزلت فرنسا قناة المنار من الباقة التي كانت تبث على أراضيها بعد اعتراض الجالية اليهودية، كما قامت أميركا بتعطيل بث قناة الزوراء العراقية بتقنيات تكنولوجية عالية بعد أن تم رفض طلبها إزالة القناة من على الأقمار العربية»، الوثيقة ليست سيفاً على الرقاب ولكنها في حاجة لمزيد من الدراسة والعرض على الخبراء حتى لا يتم التوسع في استخدام بند عدم الإساءة للرموز الدينية والسياسية ضد الفضائيات، لأن الحل الوحيد في السيطرة على هذه الفضائيات التي ترتكب مخالفات مهنية هو خلق تكتل عربي يستطيع التحدث بحوار المصالح مع التكتلات الأوروبية كي لا تستضيف الفضائيات المطرودة من الأقمار العربية، فالوثيقة مازالت بروفة لكيفية التعامل مع التجاوزات رغم صعوبة الوضع الآن خاصة مع افتقار آليات التنفيذ في وجود قنوات مدعومة من دول ومؤسسات مثل القنوات العراقية التي بلغ عددها 29 قناة بعد الغزو الأميركي». الإعلامية رولا خرسا أكدت «علينا تنظيم فضائنا مثل أوروبا وأميركا وتدعيم دور مؤسسات المجتمع المدني في مراقبة عملها»، إلا أنها أعربت عن تخوف خاص بها قائلة: «أخشى من تحول الوثيقة لسيف على رقاب الإعلامي لا على القناة الفضائية، حيث يمكن للقناة الإطاحة به في أي وقت لتحمي نفسها من العقوبات، فعملية التضحية بالإعلامي ستكون أسهل للقناة حتى لا تدخل في صدام مع السلطات». وإذا كان البعض يرى عدم جدوى إصدار هذه الوثيقة مؤكدين أن التجاوزات شيء طبيعي في المناخ الديمقراطي، وأن تجاوزات الحرية لا تعالج إلا بمزيد من الحرية، فإن المشاركين في وضع بنود الوثيقة ومن بينهم الدكتور حسين أمين أكدوا عدم صحة التكهنات والمخاوف الخاصة بها، حيث يقول الدكتور أمين: «إن الوثيقة لم تحمل الجديد وأن المقصود منها عدم المساس برموز وقادة الدول، والحفاظ على خصوصية الحياة الخاصة لهم كما يحدث في أي دولة متقدمة، حيث يمنع المساس بخصوصية الأفراد». ويضيف أمين: «لا يوجد عالم بلا ضوابط وفي كل العالم توجد مثل هذه الهيئات التي تنظم عمل الفضائيات مثل هيئة الاتصالات الفيدرالية الأميركية والمفوضية الأوروبية، حتى الهند قامت أخيرا بوضع وثيقة مماثلة، فالبث الفضائي الآن يضم إباحية وبذاءة وفتاوى بلا أساس علمي». مشيرا إلى أن الوثيقة تتضمن مبادئ عامة لا خلاف عليها. ورداً على جدوى الوثيقة في حال لجوء القناة لقمر أوروبي قال أمين: «من يسئ لمصر، على سبيل المثال، يمكننا غلق مكتبه لأن القنوات لها مكاتب في الدول العربية ويمكن التعامل معها عن طريق مكاتبها». المعارضون للوثيقة يؤكدون أنه لا توجد قنوات عربية تبث الفتن بين المذاهب أو تحض على الإرهاب مثلما زعمت الوثيقة، التي جاءت كمحاولة كما يقولون لحماية القادة من عمل الفضائيات وبخاصة إحدى فقرات البند السابع التي تنص على «الالتزام بالموضوعية والأمانة باحترام كرامة الدول والشعوب وسيادتها الوطنية وعدم تناول قادتها أو الرموز الوطنية والدينية بالتجريح». من ناحية أخرى يصف الدكتور عمار علي حسن الباحث السياسي الوثيقة بأنها محاولة لإطفاء الشمس وتوقع فشلها لعدة أسباب منها أن المعلومات أصبحت متاحة عن طريق وسائل إلكترونية أخرى متطورة ولذلك تصبح الوثيقة خارج التاريخ، ويعرب حسن عن قلقه من الوثيقة قائلا: «سوف تنمي وتحفز الرقيب الداخلي في الفضائيات، حيث إن أغلب أصحاب هذه القنوات من رجال الأعمال الذين يحتاجون لبناء علاقات جيدة مع السلطة، كما أتخوف من أن تفتح الوثيقة بابا لدخول أجهزة الأمن وهو ما قد يدفع القنوات لاستضافة أقطاب معارضة الدولة التي تمنعها وتستمر في تغطيتها للأحداث عبر أقمار صناعية أخرى، كان يجب معالجة الواقع الإعلامي بشكل مختلف يركز على التوازن في إطار حرية التعبير وأن تعطى الفرصة للقنوات في التحدث عن ايجابيات وسلبيات كل الدول في إطار احترام الحرمات الشخصية وميثاق الشرف الإعلامي». ومن جانبه يكشف الدكتور صفوت العالم أستاذ الإعلان بكلية الإعلام جامعة القاهرة بعض القصور في بنود الوثيقة، حيث يرى أنها لم تتطرق لموضوعات مهمة رغم تأكيده على الحاجة الشديدة لتدعيم الممارسة المهنية لصالح المجتمع ولصالح حرية الإعلام واصفا ميعاد صدور الوثيقة بالمتأخر جدا، أما عن أهم البنود التي غابت عنها فيقول العالم: «لم تتطرق الوثيقة للقنوات الخاصة بالمسابقات وما يحدث فيها من ظهور فتيات بملابس مخلة تحت اسم مذيعات لتحقيق مكاسب مادية عن طريق الاتصالات التليفونية، فضلا عن عدم التطرق لتجريم الإعلان عن الأدوية حتى لو كانت مسجلة في وزارات الصحة لأن جرعة الدواء تختلف من شخص لآخر حسب حالته الصحية، بالإضافة إلى برامج البورصة التي تأتي بما يسمى خبراء اقتصاد يفتون في مسائل اقتصادية مهمة تؤثر على اقتصاد الدول، وبعضهم مدفوعون بمصالح خاصة». وطالب العالم بضرورة أن يتم إلحاق لائحة تفسيرية لبنود الوثيقة تحدد بدقة القواعد العامة التي يجب اتباعها، كما عاب على الوثيقة خلوها من متابعة التطور التكنولوجي الذي قد يستخدم فيه الجوال كجهاز تلفزيون وأعرب عن تخوفه من الإسراع في تطبيق الوثيقة وعدم التخطيط الجيد لها قبل إقرارها وبذلك فقد تتحول إلى حبر على ورق. وبعيدا عن الحوار الذي أفرزته الوثيقة حول بنودها وآلية تنفيذها ما بين مؤيد ومتحفظ، فإنها تحتاج لمجهود أكبر في الشهور المقبلة قبل إنشاء المفوضية المنوط بها تنفيذ ما جاء فيها رغم تأكيد واضع الوثيقة الدكتور حسين أمين أنه لا يعلم هل ستكون مفوضية أم لجان حكماء، داعيا المعترضين عليها للذهاب إلى التقاضي تحت مظلة القضاء الأميركي أو الأوروبي، ليروا مدى صرامة معاييره.