سعاد قاروط العشي: جيلنا كان أكثر مهنية ويتمتع بقدر عال من المصداقية والموضوعية

فضّلت تقديم البرامج الاجتماعية لأنها ترفض الانغماس في السياسة وبرامجها التي تصفها بالمبتذلة

سعاد قاروط العشي («الشرق الأوسط»)
TT

لا تزال سعاد قاروط العشي منذ اكثر من 35 عاماً متربعة على عرش الاعلام التلفزيوني اللبناني الذي ساهمت مع رواد من جيلها في بناء ركائزه الاساسية. لطالما كانت «الأستاذة» والمثال الاعلى لاعلاميين مبتدئين. ولطالما اعتبرها الراغبون في اقتحام الصحافة المرئية شخصية يحتذى بها. عايشت العشي تطور الاعلام عن كثب وعاصرت الحروب اللبنانية التي عصفت بلبنان ونقلت احداثها عبر الشاشة الصغيرة. وهي اليوم وان قررت الابتعاد عن السياسة والاستعاضة عنها ببرنامج اجتماعي «لأنني اشعر بالقرف من الواقع السياسي المبتذل»، بحسب تعبيرها، لكنها تبقى بلا شك مراقبة لها نظرتها الحازمة التي ترى من خلالها ان الاعلام اللبناني والعربي هما في قلب الحدث ويساهمان في تفاقم المشكلة كونهما يشكلان متاريس حرب بين معسكرين.

«الشرق الأوسط» التقت سعاد قاروط العشي في بيروت وفي ما يلي نص الحوار:

> بعدما كانت انطلاقتك من الاذاعة، وبعد مرور اكثر من ثلاثين عاماً في العمل التلفزيوني، هل تحنّ سعاد قاروط العشي الى الاذاعة؟

- العمل في الاذاعة ممتع رغم انه اصعب من العمل في التلفزيون لأن على الاعلامي ان يثبت نفسه من خلال صوته ويجذب الجمهور بثقافته وحضوره وشخصيته، على عكس العمل التلفزيوني حيث يخفف الشكل والمظهر الخارجي من وطأة بعض العيوب. لكن رغم ذلك أعتبر ان الشاشة أسرتني وأخذتني من الاذاعة، ولكن اذا تركت الاعلام المرئي وكنت لا ازال امتلك القدرة والرغبة على الاستمرار في العمل ربما قد اعود مجدداً الى الاذاعة.

> هل هذا يعني ان للعمل التلفزيوني عمراً محدداً؟

- في الدول التي تحترم نفسها يبقى حضور الاعلامي مرتبطاً بالقدرة على الاستمرارية والاداء الجيد والنضوج المهني والخبرة الطويلة، ولكن للأسف واقع الاعلام العربي مختلف تماما، اذ يلعب الشكل الدور الابرز والاول في استمرارية العمل الاعلامي باستثناء مصر حيث لا يزال عدد كبير من الاعلاميات اللواتي تقدمن في العمر يمارسن عملهن اعتماداً على قدراتهن وخبرتهن في المجال الاعلامي.

> لماذا اتخذت قرار الانتقال من تقديم البرامج السياسية الى البرامج الاجتماعية؟ وما الجديد الذي تقدمينه في برنامجك «للمرأة كلام» على شاشة NBN؟

- لم أكن يوماً بعيدة من الاجواء الاجتماعية، ومنذ بدايتي المهنية قدمت برامج اجتماعية عدة، ولكن لأنني كنت أقدم نشرة الاخبار كان من الطبيعي ان ينصب اهتمامي أكثر على البرامج السياسية. اما اليوم فلم اعد اسيرة النشرة الاخبارية، صرت حرة واستطيع تقديم ما اريد. اضافة الى ذلك فان السياسة وكثرة البرامج السياسية المبتذلة في لبنان جعلتني اشعر بالقرف، لذا فضلت ان اقدم شيئاً مختلفاً ومفيداً للجمهور الذي ملّ السياسة، وللمرأة بشكل خاص كونها العنصر الاهم في المجتمع الذي تشكل نصفه وتربي النصف الآخر منه. وبعدما قدمت «السياسة المختلفة» في برنامج «التاريخ ان حكى» لمدة 4 سنوات، ها انا اليوم اقدم مادة جديدة في «للمرأة كلام» من خلال طرح المواضيع الجريئة التي تعتبر من المحظورات ويمنع التطرق لها رغم التأثير السلبي لعدم معالجتها على المجتمع. ونجاح هذا البرنامج ازال الهاجس الذي انتابني في الحلقة الاولى خوفاً من الفشل وخوفاً على نجاحي الذي اعمل جاهدة للمحافظة عليه برموش عيني.

> بعد تجربة السياسة والاجتماع، اين تجدين نفسك اكثر؟

- خلال عملي في البرامج السياسية والاخبار كنت اشعر انني مرتاحة ومطمئنة لما اقدمه، وعندما بدأت بتقديم «للمرأة كلام» تفاجأت انني وجدت نفسي حرّة اكثر ومنطلقة وقريبة من الجمهور بعيداً عن السياسة التي كانت تكبّلني بممنوعاتها وحدودها. > كيف تقوّمين الاعلام العربي بين الامس واليوم؟

- في الامس كان الاعلام العربي يسير وفقاً لقيود تعيق حريته وانطلاقته، اما اليوم فصار منفتحاً ويلعب الدور الابرز في المجتمعات. انما المفارقة السلبية هي ان العولمة خلّفت آثارها السلبية على الاعلام واخترقت ثقافتنا وادخلت على بيئتنا الشرقية الملتزمة والمحافظة اموراً نرفضها من خلال الفضائيات التي تدخل على كل بيت من دون حسيب او رقيب او تمييز بين الخطأ والصواب وبين ما يجب ان نأخذه ونتعلم منه وما يجب لفظه والابتعاد عنه. ولكن رغم ذلك لا بد من تسجيل تقدم ملحوظ في اخبار الفضائيات العربية وهي انتقالها من نمط اعلام «استقبل وودّع» الى خطوات بارزة وعمل محترف تنافس اهم المحطات الاجنبية لو لم تكن ادوات تنطق بلسان العالم العربي المنقسم الى معسكرين متناحرين.

> وكيف تصفين اداء الاعلام اللبناني بشكل عام في ظل الازمة السياسية التي يعيشها هذا البلد؟

- ارى ان الاعلام اللبناني خرج عن دوره الطبيعي وهو يساهم بشكل مباشر وفعال بالتوتر الامني والسياسي الذي نعيشه بعدما اصبحت محطاته متراساً تتوجه الى جمهور من هذا الفريق او ذاك لتجييشه وتحريضه على الفريق الآخر. لذا اؤكد ان اداء الاعلامي اللبناني يجب ان يعود الى دوره الطبيعي والايجابي اي النقيض لما عليه اليوم. > كيف ترين التغطية الاعلامية للاحداث الأمنية التي تحصل في لبنان اليوم مقارنة بالتغطية التي كنتم تقومون بها خلال الحرب؟

- ليس هناك مجال للمقارنة لا من الناحية التقنية ولا من الناحية العملية. من الناحية التقنية يتوفر اليوم للاعلاميين كل الامكانات اللازمة لايصال رسالتهم باسهل الطرق واسرعها، اما نحن فكنا نعاني كثيرا في نقل الاخبار والاحداث. اذكر انني حين واكبت حدث اتفاق الطائف سجلت التحقيق على شريط وارسلته عبر خطوط الشرق الاوسط الى بيروت ليعرض في ما بعد. اما في ما يتعلق بالاداء العملي لتغطية الحرب فجيلنا كان اكثر مهنية ويتمتع بقدر عال من المصداقية والثقة والموضوعية على عكس ما تشهده الساحة الاعلامية اليوم من توتر وانقسام حادين. حتى خلال حرب السنتين في عام 1975 حين انقسم «تلفزيون لبنان» بين طرفيّ الصراع لم ينغمس الاعلام في هذه الحرب. وان وجدت بعض الخلافات فهي كانت بسيطة ولم تصل الى الحدة والخطورة التي تطبع اعلامنا اليوم نتيجة الانقسام الاقليمي.

> ألا يؤثر وجودك في محطة الـ NBN المحسوبة على فريق المعارضة اللبنانية على التزامك بخط سياسي معين؟

- لم افكر يوماً بصبغة المحطة التي اعمل فيها، لانني دائماً اقدم نفسي وقناعاتي على الشاشة وفي برنامجي من دون التزام سياسة معينة، ورغم انني لست بعيدة عن خط الـ NBN، اعترف انه لم يفرض عليّ القيام بأمر ما منذ بداية عملي فيها.

> ما هي شروط «نجومية الاعلامي» برأيك؟

- لا يمكن ان يصبح الاعلامي نجماً بالصدفة، كما لا يمكن ان يصبح نجماً من خلال تقديمه لنشرة الاخبار، عليه ان يعمل لبناء شخصية يحتذى بها وتشكل رمزاً لغيره حتى يحمل صفة النجم. كما يجب على الاعلامي ان يربح ثقة الجمهور بعدما يطل عليهم وهو متسلح بأدواته المتمثلة بالصوت الجميل والاداء الجيد والشكل المقبول والحضور الواثق وسرعة البديهة والثقافة المتينة التي تمنحه صفة «ملك الجمال» في عمله. اما من لا تمتلك الا المظهر الجميل من دون المعايير الاخرى فلتذهب لتعمل في مجال عرض الازياء.

> كيف عملت سعاد قاروط العشي في تطوير نفسها ومن ساندها لتتقدم وتثبت نفسها يوما بعد يوم؟

- عشقي لعملي وحبي اعطياني الكفاءة والقوة والقدرة لأعمل بشكل دائم على تطوير نفسي وصقل مهنتي. ورغم ان ظروف دخولي غمار العمل باكرا لم تسمح لي بالحصول على شهادة جامعية الا ان الجهود التي بذلتها تفوق شهادة الدكتوراه. كنت على تواصل دائم بما يحصل، اتعلم من غيري واستفيد من خبرات كبار الاعلاميين في مصر ولبنان امثال همّت مصطفى وفاروق شوشة وليلى رستم من مصر وناهدة فضل الدجاني وجمال عباس وشفيق جدايل من لبنان. لم اكن اعجب بنفسي وكنت صادقة مع ذاتي، لم اكتفِ يوما بما وصلت اليه وما ازال على يقين انني استطيع تقديم الافضل. كل هذه الامور تشكل حافزا للوصول والتقدم والنجاح. وهنا لا بد من الاشارة الى ان تشجيع الصحافة اللبنانية وكتاباتها الرائعة عني شكلت دعما معنويا لاستمراري وتقدمي.

* سيرة ذاتية

* سعاد العشي

* بدأت سعاد قاروط العشي مسيرتها الاعلامية عام 1973 عبر اثير الاذاعة اللبنانية في فقرات البث المباشر وتقديم نشرة الاخبار. دخولها المعترك الاعلامي باكرا وعدم حصولها على شهادة جامعية لم يقفا امام تفوقها في عملها. اذ بعد اشهر قليلة، انتقلت الى محطة تلفزيون لبنان، حيث قدمت الى جانب الاخبار برامج متنوعة بين الاجتماع والفن، خصوصا السياسة، كما اطلت في سنوات عملها الاخيرة في تلفزيون لبنان عبر محطة art في برنامج «اهل الدار» الذي جمع بين الثقافة والفن والاجتماع.

بعد اقفال تلفزيون لبنان عام 2002 لم تقبل العشي العروض التي قدمت اليها للعمل في الفضائيات الاخبارية العربية لانها ترفض العيش خارج وطنها. اختارت محطة NBN كي تطل على جمهورها من خلالها لتقدم برنامج «التاريخ ان حكى» لمدة 4 سنوات اتجهت بعدها نحو المواضيع الاجتماعية في برنامج «للمرأة كلام». ترفض ان تقدم في الوقت الحالي برنامجا سياسيا كي لا تنغمس في «الزواريب» السياسية. 35 عاما من الخبرة والتفوق لم تنطفئ شعلة الطموح في نفس عشي التي لا تزال متألقة وتفيض حماسة وحرقة على ما يحصل في لبنان آملة من السياسيين «ان يهدأوا ويتركونا كي نعيش بسلام في بلدنا، كي يتسنى لنا التفكير في المستقبل بدل التفكير اذا كان غدنا سيمر بسلام ام ستقع الحرب».

نجاحها المهني رافقه نجاح عائلي مدعوم من زوجها احمد العشي مدير قناة art في لبنان، الذي تصفه بالناقد والمرشد والمشجع رغم صعوبة عملها الاعلامي، خصوصا في سنوات الحرب «كان دائما جاهزا هو ووالدتي لسد فراغ غيابي عن البيت كي لا اشعر بأي تقصير تجاه اولادي». وتعتبر العشي ان اعجاب اولادها وتأثرهم بها هما دليل اضافي على ان تفوقها ترك اثرا في نفوسهم ولمسوا اهمية نجاح الانسان مهنيا وعائليا.