لبنان.. الإذاعة بوابة إلى «نجومية» المرئي

معظم متصدري شاشات التلفزيون جاءوا إليها من محطات الراديو

(خدمة كي ار تي )
TT

من أثير الاذاعة الى هواء الشاشة الصغيرة، مسيرة يعبرها اعلاميون لبنانيون كانوا قد انطلقوا من بوابة المسموع ليحطوا الرحال في نجومية النعيم المرئي. فمعظم الذين يتصدّرون شاشات التلفزة اللبنانية يجمعهم تاريخ مهني مشترك تلقوا خلاله «ألف باء» المهنة في الاذاعة التي شكّلت أسسا متينة لاطلالة تركت بصمة في هذا المجال. قواسم مشتركة تجمع هذين العالمين، وتجعل النجاح المرهون بالقدرات والموهبة واتقان «الحرفة» أيسر سبيلا عندما «يتتلمذ» الصحافي إذاعيا ما يسمح له بالتفوق على زملائه في جوانب مهنية أساسية تشكل الفرق بين الشاشة التي تخطف أنظار الجمهور واهتمامهم بالشكل الخارجي والاذاعة التي خف وهجها في المجتمعات العربية. وهذا ما يظهر جليا في سلوك اعلاميي المرئي في عملهم في الشاشة الصغيرة. ولكن هل يبقى طموح الوصول الى الاعلام المرئي هو الهدف الأول والاخير، أم أنه أصبح انتقالا طبيعيا لمن يمتلك الطلة البهية و«الكاريزماتية»، وحلما صعب المنال لمن هو أقل «بهاء» في ظل سيطرة عصر الصورة على ما عداها من وسائل اعلامية. ومما لا شك فيه أن هناك ضرورة في تنقّل الاعلامي بين وسيلة وأخرى ليغني خبرته ويصقل مهنته، ولكن هل يمكن القول ان النجومية للاعلام المرئي هي الطموح الذي يحقق شغف الاعلامي وشهرته الواسعة، على الرغم من تأكيد عدد كبير من الاذاعيين رفضهم ترك الاعلام المسموع نهائيا والتخلي عنه لمصلحة المرئي، وان لم تخل تجاربهم من اطلالات على هواء الشاشة الصغيرة.

بعدما كان عصر الاذاعة في بداية التسعينات صار اليوم عصر التلفزيون، هكذا يعلّق الأستاذ في كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية الدكتور عباس مزنّر على توق الاذاعيين الدائم للانتقال الى المرئي عازيا السبب الى انتشار الفضائيات، معتبرا أن الاذاعة في هذه الايام تبقى مغمورة ومهمشة فيما تتمتّع الشاشة باغراء الشهرة والانتشار.

«من الاذاعة والى الاذاعة عادت». هكذا تختصر حياة الاعلامية يولا سليمان التي بدأت مسيرتها في صوت لبنان، حيث عملت عشر سنوات قبل أن تنتقل الى المحطة اللبنانية للارسال (LBCI) لتمضي سنوات طويلة في قسم الأخبار قبل أن تعود الى حيث انطلقت، ولكن هذه المرة عبر أثير «صوت الغد». وتقول سليمان: «فيما يشعر الاعلامي أنه جندي مجهول في كواليس الاذاعة، يكتسب في التلفزيون شهرة واسعة، مع العلم أنه يضطر الى مضاعفة جهوده في الاذاعة فيما يأخذ هاجس المظهر الخارجي حيزا مهما من الاهتمامات العامة في التلفزيون». وتستشهد سليمان بمقولة «لو دامت لغيرك لما وصلت اليك»، لتضيف: «من اللحظة الأولى لدخولي عالم التلفزيون كنت على ادراك تام أنه سيأتي يوم وأتركه، لأن المسموع يدوم أكثر من المرئي، لا سيما أن سياسة 99 في المائة من المحطات اللبنانية تعتمد قاعدة الاستغناء عن الاعلامي بعد مرور سنوات على عمله لتضعه في صفوف مقدمي البرامج البسيطة التي تعتمد على تلقي الاتصالات، وهذا ما لا أقبل به بعدما أكون قد تسلّحت بخبرة سنوات عمل طويلة».

وتقول سليمان إن خبرتها الطويلة في الاذاعة منحتها دعما مهنيا ساهم بشكل كبير في نجاحها في الاعلام المرئي، «وهذا ما لمسته منذ اليوم الأول لدخولي التلفزيون حين أوكل اليَّ مهمة قراءة نشرة الأخبار مباشرة على الهواء وتفوقت حينها على غيري ممن لا يمتلكون تجربة العمل الاذاعي».

وتؤكد سليمان أهمية الخبرة التي يكتسبها الاعلامي في عمله الاذاعي، ويتمثل بشكل خاص في الحضور وسرعة البديهة والاطلاع السياسي الشامل اضافة الى دور اللغة العربية الصحيحة البارز في هذا الاطار.

وفي حين تشير سليمان الى نظرة الجمهور تجاه المذيع عبر الشاشة على أن دوره لا يتعدى قراءة نشرة الأخبار مع ما يخطف المظهر الخارجي من اهتمام المتلقي، تؤكد أن حرفية الاعلامي «تبرز بشكل أكبر في الاذاعة، حيث يركز المستمع على محتوى المعلومات والصوت الذي يقدمها». ولكنها تشدّد في الوقت عينه أن «وهج» المرئي لا يضعف من قدرات الاعلامي المهنية اذا كان يمتلك حب القراءة والاطلاع وتطوير نفسه بشكل دائم. ويعتبر عباس مزنّر أن نجاح الاعلامي اذاعيا لا يعني بالضرورة نجاحه مرئيا وان كانت خبرته الاذاعية تمنحه جواز مرور متقدماً على غيره الى عالم المرئي. ويضيف: «تجربة الاعلامي الاذاعية تكسبه صفات مهنية مهمة كالطلاقة في الكلام والقدرة على الحوار والارتجال وصناعة الكلمة والثقة بالنفس التي يفتقدها عدد كبير من الموجودين في الساحة الاعلامية اليوم».

كانت انطلاقة الاعلامي في محطة الجديد «نيو تي في» جورج صليبي من إذاعة «صوت لبنان» حيث كانت الخطوة الأولى في انجاز بحث جامعي اعلامي، وفي الوقت عينه نال بطاقة مرور وشهادة بخامته الصوتية الاذاعية لخوضه غمار الاعلام من مديرة الأخبار آنذاك الاعلامية ماغي فرح.

يقول صليبي: «حين كنت في الاذاعة لم اكن أطمح للانتقال الى التلفزيون، ولكن بعدما أثبت التلفزيون مكانه واصبح الوسيلة الأكثر جماهيرية وانتشارا كان لا بدّ لي من التفكير في اتخاذ خطوات مهنية متقدمة للظهور بشكل أكبر، فعملت سنوات قليلة في تلفزيون لبنان قبل أن انتقل الى نيو تي في».

ويعتبر صليبي خبرته الاذاعية بمثابة جامعة عملية ساهمت في تقدمه المهني واثبات نفسه في هذا المجال. «تمثلت أبرز النقاط الايجابية في طريقة الأداء وكيفية استخدام الصوت واتقان مخارج الحروف والتقطيع التي تعطي تميزا عبر الشاشة، رغم عدم تركيز المرئي كثيرا على هذه النواحي في حضور تقنيات الصورة التي تغلب على ما عداها». ويشير مزنّر الى جانب مهم في هذا الاطار، وهو أن التلفزيون يحتاج الى شروط أخرى تفرضها الكاميرا اضافة الى تلك التي تتطلبها الاذاعة وهي المظهر الخارجي والقدرة على التفاعل مع الكاميرا اللذين يلعبان دورا مهما في اكتمال صورة نجاح الاعلامي المرئي.

ويرى صليبي ان نجاح الاعلامي اذاعيا لا يعني بالضرورة نجاحه تلفزيونيا. ويشير الى الاختلاف بين العمل في الاذاعة وفي التلفزيون، العمل الاذاعي أسهل من التلفزيون نظرا لاقتصار مجهوده على الأداء والصوت في بداية المسيرة المهنية لتسير الأمور بشكل تلقائي في ما بعد. أما في التلفزيون فان الجهد مضاعف لا سيما لجهة ضرورة ايلاء المظهر الخارجي والطبع الهادئ حيزا مهما كي لا تعكس الكاميرا اي تعكر مزاجي أو ما شابه. ولا ينفي المبدأ الشائع بأن للعمل المرئي سنا معينة يضطر بعدها الاعلامي الى الانتقال الى مكان آخر وفق خياراته وتوجهاته التي قد تختلف بين الكتابة أو الاذاعة أو التعليم الجامعي، رغم انفتاح المحطات العربية في الآونة الأخيرة على غرار المحطات الأجنبية وعدم تصلبها لناحية الاستغناء عن خدمات الاعلامي بعد بلوغه سناً متقدمة.