سيمون انهولت.. الرجل الذي صنف العالم

ابتكر مفهوم «ماركات البلدان» ووضع مؤشرا لها.. ويقول إن الإعلام مهم ولكنه ليس الأساس

سيمون انهولت
TT

هناك «ماركات» للملابس، و«ماركات» للحقائب، و«ماركات» للسيارات... لكن هل خطر في بالك أن تنظر لدولة ما على أنها «ماركة» بحد ذاتها، كأن تقول «ماركة: أميركا» أو «ماركة: إيطاليا» أو «ماركة: فرنسا»؟ لكن قبل أن تظن أن في تلك النظرة خيالا واسعا، توقف للحظة وفكّر فيما تعنيه لك فرنسا أو إيطاليا؟ هل خطر ببالك برج إيفيل وتصورت التسوق في الـ «شانزيليزيه» وأنواع الجبنة المختلفة عندما فكرت بفرنسا؟ وهل تخيلت الأناقة وماركات الملابس الشهيرة وأطباق الـ «باستا» والبيتزا عندما فكرت بإيطاليا؟ على الأرجح، فإن إجابتك عن الأسئلة السابقة ستكون «نعم»، وقد يبدو بديهيا القول بأن كل بلد يشتهر بالتأكيد بثقافته ومائدته ومعالمه السياحية، وأن كل ذلك يساهم بشكل ما في جعل منتجات ذلك البلد أكثر قيمة، وهو ما يعرفه أهل التسويق بما يسمى «تأثير بلد المنشأ» ولعل أفضل ترجمة لذلك على أرض الواقع هو ذلك الشعور بالرضا عندما ترى ملصقا أسفل الجهاز الإلكتروني الذي اشتريته للتو يقول «صنع في اليابان»، أو عبارة «صنع في إيطاليا» على حذائك أو معطفك. وإن كان ذلك «الترابط» بين كل تلك العوامل ليس جديدا، فإن الجديد هو أن كل ذلك يصب في إطار مفهوم يعرف باسم «ماركات الدول» Nation Brands، وهذا المفهوم هو وليد سنوات من العمل الذي قام به رجل يدعى سيمون انهولت، وهو مستشار بريطاني في مجال الديبلوماسية العامة لعدد من الحكومات، أطلق عام 2005 ما يعرف بـ «مؤشر ماركات الدول» Nation Brand Index وهو أول تصنيف تحليلي لبلدان العالم كماركات.

أما كيف يعمل هذا المؤشر، فذلك يتم عبر استقصاء يشمل نحو 25 ألف شخص في عشرات البلدان حول العالم يتم كل 4 أشهر، ويشمل الاستقصاء جوانب ثقافية، سياسية، تجارية، وإنسانية. وبناء على هذه الدراسة، يتم وضع التصنيف للبلدان والخروج بنتائج مختلفة، ومن اللافت مثلا بحسب ما يقول أنهولت لـ «الشرق الأوسط» هو النظر إلى كيف أثرت أزمة الرسوم الكاريكاتيرية قبل عامين على «تصنيف» الدانمارك في مصر (وهي الدولة العربية الوحيدة حتى الآن التي يجري فيها الاستطلاع) وتركيا، حيث هوت «ماركة الدانمارك» من المرتبة 14 إلى ما بعد المرتبة الـ40. ويضيف انهولت ان ما جرى في هذه الحالة يعد استثناء لافتا، لأن معدل التذبذب على المؤشر لا يتعدى 0.1% في أغلبية الاحيان، وما جرى بموازاة قضية الرسوم الكاريكاتيرية هو ان الـ Nation Brand Index تحول إلى فرصة لإبداء الرأي، لأنك إذا اوقفت شخصا في الشارع بمصر وسألته عن رأيه في الدانمارك فسيجيبك بأمور سلبية، لأن الجو العام كان غاضبا للغاية. لكن الأمر، أكثر من مجرد قائمة بأكثر البلدان شعبية، فالمسألة ليست كقائمة «أكثر الأغاني مبيعا» أو «أكثر الفنانين وسامة»... فالتراجع في «ماركة» البلد له تداعيات عدة، وبما أننا ذكرنا تراجع الدانمارك على مؤشر انهولت، فالجدير بالذكر ان ذلك ترافق على سبيل المثال مع تراجع في التاسع من شهر سبتمبر 2006 فقد ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أن إجمالي صادرات الدانمارك تدنت بنسبة 15.5% بين شهري فبراير ويونيو بعد أن تدنت نسبة الصادرات إلى الشرق الأوسط بما يقارب 50% (ويعود ذلك بشكل كبير إلى حملات المقاطعة ضد المنتجات الدانماركية التي انتشرت في تلك الفترة). وفيما يمكن النظر إلى الأمرين بشكل منفصل، إلا أن انهولت يوضح من جهة أخرى أن الدراسات تظهر أن تراجعا في أحد جوانب الاستطلاع يتسبب بتراجع في جوانب أخرى، ويوضح بإعطاء مثال آخر متعلق بالولايات المتحدة الأميركية، فيقول ان التدني في شعبية قرارات السياسة الخارجية التي تتخذها واشنطن يؤثر حتى في النظرة إلى معالم أميركا الجغرافية، فتجد أن البعض بات يقول إنهم لا يجدونها بلادا «جميلة» رغم أنهم قد يكون لهم رأي مغاير في السابق. ولمزيد من الإيضاح لا بد من النظر إلى ما يعرفه سيمون انهولت بالـ «هيكساغون» أو «السداسي» وهو مجموعة من ست نقاط هي: السياسة الخارجية والداخلية للبلد، الثقافة والتراث، الشعب، السياحة، ماركات الصادرات، الاستثمار والهجرة. وترتبط كل تلك العوامل ببعضها لتكون «الرسالة» التي يرسلها البلد عن نفسه، وتكون نتيجة تراكم هذه العوامل على مر السنين «ماركة» للبلد. ويشدد انهولت أن بناء «ماركة» بلد ما يستغرق سنوات طويلة وأجيالا، وليس من السهل هزها أو تغييرها، ويعود ليقول إن سمعة الـ «ماركة» تتغير على مدى حقبة طويلة وليس أشهر، مستدلا بأن ترتيب الدانمارك مثلا عاد للتحسن بعد مرور الأزمة بفترة، لذلك فإنه سيبدأ بإجراء الاستطلاع سنويا وليس 4 مرات في السنة، على أن يشمل ذلك عددا أكبر من المشاركين والبلدان. وبطبيعة الحال، وكما هو الحال مع أي قطاع آخر، فهناك تنافس بين «ماركات الدول» وهناك «ماركات» أكثر قدرة على التنافس مع غيرها، وفيما يقر انهولت بوجود «ماركات» عملاقة مثل فرنسا التي ترمز للشياكة وجودة الحياة وإيطاليا التي ترمز للإثارة والأناقة، وألمانيا التي ترمز للهندسة الدقيقة واليابان التي ترمز للتكنولوجيا مثلا. إلا أن خبير التصنيف يضع الولايات المتحدة الأميركية في منزلة مختلفة تماما واصفا اياها بأنها «أم الماركات» في كتاب خصصه عن هذا البلد تحت اسم Brand America. ويقول انهولت لـ «الشرق الأوسط» أن أميركا أكثر قدرة على تسويق نفسها على أنها ماركة لأنها بلد صُنع ولم يحدث مصادفة، ويضيف: «وعندما تصنع منتجا فيكون لديك تخيل لما تريده أن يكون». إضافة إلى ذلك يضيف انهولت في كتابه أن الأساس في الولايات المتحدة هو فكرة الحرية مضيفا أن فكرة أن «أرض الفرص» التي تروج لها أميركا تعد في الواقع استخداما جيدا لعلم نفس المستهلك، فأنت تقول له ان البلد الذي ولدت فيه هو سبب عدم نجاحك، وانك بمجرد وصولك لأميركا فإنك ستأخذ الحجم الذي تستحقه من النجاح، معلقا أن سبب انتشار هذه الفكرة هو انها ليست كذبة، وان كانت حقيقة مبالغ فيها. كذلك يمكن اعتبار أن أميركا تملك وكالة إعلان خاصة بها هي «هوليوود»، وأن وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» هي وكيل دعائي للتكنولوجيا الأميركية، فكون أول إنسان داس على سطح القمر أميركيا هي نقطة اضافية لماركة الولايات المتحدة. فإذاً هل يمكن اعتبار أن وجود ماكينة إعلامية قوية هو احد مقومات نجاح «ماركات» البلاد؟ يجيب انهولت بالقول إن الإعلام هو وسيلة وليس حلا بحد ذاته معلقا بأن أميركا على سبيل المثال تستفيد بالتأكيد من وجود «سي إن إن» ووجود «هوليوود»، لكنه يرى أن الفعل هو الأساس وليس القول (أي أن المهم هو وصول اميركي للقمر وليس القول انه فعل ذلك) . لذلك فإن انهولت يشدد دائما على أن عمله هو النصح بشأن السياسات وليس كيفية الترويج لها، مضيفا «الإعلان قد يفيدك في بيع عطلة في بلد ما لشخص ما» فيما سمعة البلد هي أمر ضخم للغاية متعلق بجوانب عدة، ولعل ذلك يعتبر من ضمن التحديات التي يواجها سيمون في عمله لكون البعض ينظر إلى عمله على أنه ترويج سياحي للبلدان فيما هو ليس كذلك. التحدي الآخر الذي يواجهه انهولت هو عامل الوقت، فهو يقول مثلا انه يفضل العمل مع الأسر الحاكمة على المسؤولين المنتخبين كالرؤساء، ويوضح أن ذلك بالنقطة الواردة سابقا حول كون تغير وجهة النظر تجاه «ماركة» بلد ما تستغرق سنوات طويلة في حين أن رؤساء البلدان او الحكومات مثلا تكون مدتهم محدودة ويكون شغلهم الشاغل هو أن يتم إعادة انتخابهم. من جهة ثانية، يعود انهولت ليقول انه يعمل على توسيع البلدان التي يشملها المؤشر والتي يعمل معها، وانه مهتم بطبيعة الحال بمنطقة الشرق الأوسط سيما في ظل التركيز العالمي على محوري التغير المناخي وحوار الأديان. الأقطاب الستة لـ «ماركات البلدان»

* يتكون الـ «هيكساغون» أو «السداسي» من ست نقاط هي: السياسة الخارجية والداخلية للبلد، الثقافة والتراث، الشعب، السياحة، ماركات الصادرات، الاستثمار والهجرة. وترتبط كل تلك العوامل ببعضها بعضا لتكون «الرسالة» التي ترسلها البلد عن نفسها، وتكون نتيجة تراكم هذه العوامل على مر السنين «ماركة» للبلد. فمثلا يعتبر الترويج السياحي لبلد ما والتجربة التي يمر بها زائروه سواء للسياحة أو للعمل من أعلى الأصوات القادرة على بناء «الماركة» لأنه في الغالب يتم تخصيص ميزانيات ضخمة لوزارات وهيئات السياحة. من جهة ثانية توضع صادرات البلاد في رتبة «سفير» إذا تم تعريف «بلد المنشأ» بشكل واضح، فيما تعد سياسات الدولة أمراً مهماً كذلك لان السياسيين باتوا أقرب للإعلام. اما بالنسبة لمجتمع الاعمال، فمن أهم العناصر هي قدرة البلاد على جذب الاستثمارات والشركات والكوادر الأجنبية. كذلك، فلا شك أن للنشاطات الثقافية وتصديرها أهمية كبرى، كأن تقوم فرقة اوبرا من بلد ما بجولة عالمية، وأيضا الفرق الرياضية أو أعمال كاتب ما. وأخيرا وليس آخرا، شعب البلد نفسه سواء القادة، الإعلاميين، الرياضيين والعموم، وكيف يتصرفون في الغربة ويستقبلون الضيوف في منازلهم.

عن كتاب «براند أميركا» لسيمون انهولت ابتكر مفهوم «ماركات البلدان» ووضع مؤشرا لها.. ويقول إن الإعلام مهم ولكنه ليس الأساس