«واشنطن بوست» .. من صحيفة إلى مؤسسة اجتماعية

الجريدة الأميركية العريقة تنشط في مجال مساعدة التعليم والأعمال الخيرية

مبنى واشنطن بوست في العاصمة الأميركية (الشرق الأوسط)
TT

في السنة الماضية، ارسلت صحيفة «واشنطن بوست» صحافيا يدعى بارت سولويجي لفترة اسبوع الى غواتيمالا، في اميركا الوسطى. ليس ليكتب عن آثار الحرب الاهلية هناك، ولا عن تجارة المخدرات. ولكن ليذهب الى مدرسة قرية بعيدة، ويتبرع للمدرسة بأجهزة كومبيوتر. وقضى الاسبوع يعلم المدرسين والمدرسات طريقة استعمال الكومبيوتر، ودخول الانترنت. وعاد الى مكتبه دون ان يكتب اي تقرير، او اي خبر. وسمحت «واشنطن بوست» للصحافية ديانان ريدر ان تغيب عن العمل لتنفيذ مشروع آخر: ذهبت الى مكان لتصفيف الشعر. وطلبت حلق شعرها بأكلمه. وذهبت به الى مركز في واشنطن يصنع باروكات شعر، ويتبرع بها الى نساء مصابات بالسرطان، ويتعالجن بالعلاج الكيماوي «كيموثيرابي» الذي يسبب الصلع.

وخلال سنة، نظمت «واشنطن بوست» زيارة اسعافات من جمعية الصليب الاحمر لمباني ومطابع الجريدة، وجمعت الاسعافات عشرين جالون دم تقريبا لاستعمالها في مستشفيات واشنطن.

غير ان اكثر النشاطات الاجتماعية للصحيفة هي في مجال التعليم، خاصة في مدارس واشنطن، وفي الأحياء الفقيرة، حيث يشكل السود ثلثي سكان عاصمة الولايات المتحدة.

وفي كل سنة، تنسق «واشنطن بوست» مع شركات ومؤسسات في واشنطن، مثل «يونيون نيشن»، ومع مسرح «وارنر»، من اقدم مسارح واشنطن، لتقديم مسابقات لتلاميذ وتلميذات المدارس الثانوية. وتحرص الصحيفة على ان ينفق الفائزون الجوائز على مصاريف جامعية، وذلك لتشجيعهم على دخول الجامعات. خاصة لأن الاحصاءات اوضحت ان الاولاد والبنات السود اقل الفئات العرقية في اكمال المرحلة الثانوية، وفي دخول الجامعات. ويرعى بنجامين برادلي، رئيس التحرير التنفيذي سابقا (الآن عضو في مجلس الادارة) «برنامج الصحافيين الشباب». حيث يذهب الى المدارس الثانوية، ويلقي محاضرات عن الصحيفة، وعن الفترة التي قضاها فيها. ولاحظ ان اكثر الاسئلة عن فضيحة «ووترغيت» (اتهام الرئيس نيكسون بأنه نظم عملية سرية خاصة للتجسس على رئاسة الحزب الديمقراطي في مبنى ووترغيت في واشنطن. واضطراره للاستقالة بسبب ذلك. وكان اول رئيس جمهورية يستقيل في تاريخ اميركا).

وقد صرفت الصحيفة على «برنامج برادلي» اكثر من نصف مليون دولار. وكان بدأ، قبل عشر سنوات، في مدرسة واحدة وحضره ثلاثة طلاب فقط. وهو الآن في خمسين مدرسة.

من جهة ثانية، وبالاضافة الى المطبعة الرئيسية في قلب واشنطن، توجد مطبعتان في الضواحي: واحدة في سبرنغفليلد (ولاية فرجينيا). والثانية في كولدج بارك (ولاية ميرلاند). وتنظم كل مطبعة نشاطات اجتماعية وتعليمية تستهدف تلاميذ وتلميذات مدارس كل منطقة. مثل زيارة المطبعة، والاطلاع على طريقة العمل فيها (يخرج كل تلميذ وتلميذة بعدد مجاني من الصحيفة). هذا بالاضافة الى الاشتراك في المنافسات الرياضية، والتبرع للجمعيات الخيرية المحلية.

وفي الوقت نفسه، تشجع الصحيفة العاملين فيها على الاشتراك في النشاطات الاجتماعية والتعليمية في الأحياء التي يسكنون فيها. أخيراً، قدم جيرالد مارتينو، الذي ظل مصورا لاربعين سنة تقريبا، دروسا لأولاد الكشافة في الحي الذي يسكن فيه عن التصوير. وقدمت ليزا كونور، التي تسكن في ضاحية بيرك (ولاية فرجينيا) معلومات عن الصحيفة وطريقة اصدارها.

في هذا السياق، ليس سرا ان كثيرا من جهود «واشنطن بوست» تستهدف السود في المدينة الذين يشكلون اغلبية السكان، لكنهم اقل السكان تعليما وثراء وأهمية. وفي السنة الماضية، نشرت الصحيفة تقارير وصورا عن احتفالات «بلاك فاميلي ريونيون» (اعادة وحدة الاسرة السوداء). وتفعل ذلك كل سنة لانها تشترك في الاحتفالات. وبعد نهاية احتفالات «فورث اوف جولاي» (الرابع من يوليو، عيد الاستقلال)، تحتفل العائلات السود، في الميدان الرئيسي في واشنطن، بالقرب من الكونغرس والبيت الابيض، بقوتها وصمودها رغم قرون الرقيق والتفرقة العنصرية. وبالاضافة الى التبرع السنوي من الصحيفة الى المحتفلين، ترسل الصحيفة سودا عاملين فيها، يلبسون قمصانا مكتوبا على كل واحد منها «واشنطن بوست»، ويتحدثون للناس عن الصحيفة، ويجيبون عن اي اسئلة عنها.

ويشترك صحافيو القسم الخارجي في برنامج «زمالة الثقافة العالمية»، بالتنسيق مع سفارات اجنبية في واشنطن. مثل «زمالة الثقافة الفرنسية» التي تختار مدرسي ومدرسات اللغة الفرنسية في مدارس واشنطن، وترسلهم الى فرنسا لزيادة معلوماتهم وخبراتهم. وهناك برامج مماثلة لمدرسي ومدرسات اللغات الاسبانية، والايطالية، والالمانية.

ويشترك صحافيو القسم الخارجي، والمراسلون في الخارج، في برنامج «سبيكرز» (تقديم محاضرات). وبالاضافة الى محاضرات عامة، يركز البرنامج على مخاطبة مؤتمرات مدرسي ومدرسات واشنطن وضواحيها. أخيراً، خاطب مؤتمر راجيف شاندراسيكران، الذي كان مدير مكتب الصحيفة في العراق، وعاد وكتب كتاب «حياة امبريالية في قصر الزمرد» عن «المنطقة الخضراء» في بغداد. وانتقد الكتاب ادارة العراق بعد غزوه.

وهناك برنامج «فينسنت ريد» لتقديم جوائز الى احسن الطلاب والطالبات في المدارس الثانوية. سمي على اسم فينسنت ريد الذي كان مديرا لمجلس مدارس واشنطن العاصمة. والآن، عضو في مجلس ادارة شركة «واشنطن بوست». ولانه اسود، ولصلته بالمدارس والتعليم، يعتبر مركز التعاون بين الصحيفة ومدارس واشنطن. وهناك تبني تلاميذ وتلميذات نجباء، في «برنامج اغناس مايار» الذي يرعاه دونالد غراهام، صاحب الصحيفة التي ورثها من والدته، كاثرين غراهام، والتي ورثتها من والدها فيليب مايار. واغناس مايار هي جدة دونالد غراهام (والدة والده). ولهذا، سمي البرنامج التعليمي باسمها.

غير ان اهم نشاطات الصحيفة التعليمية هي «نيوزبيبر ان سكول» (الصحيفة في المدرسة). وهو برنامج متكامل يعتبر الصحيفة مجموعة مصادر اكاديمية لتدريس التلاميذ والتلميذات كل المقررات تقريبا. كل صباح توزع الصحيفة اعدادا في اكثر من مائتي مدرسة، من رياضة الاطفال الى نهاية المرحلة الثانوية. وليس الهدف هو ان يقرأ المدرسون والمدرسات والتلاميذ والتلميذات الصحيفة مثلما يقرأها بقية القراء. الهدف هو ان تتحول الاخبار الخارجية الى مقرر لتدريس السياسة العالمية. والاخبار الداخلية الى مقرر لتدريس نظام الحكم في الولايات المتحدة. والاخبار الاقتصادية الى مقرر لتدريس مادة الاقتصاد. والملحق الصحي الى مقرر في الصحة العامة. والملحق الادبي الى مادة لتدريس الكتب الجديدة. وكل الصحيفة لتدريس مقررات اللغة الانجليزية، والقراءة، والخطابة. وكما قال مسؤول في قسم العلاقات العامة: «نحن لا نرمي الصحيفة امام كل مدرسة كل صباح». وينظم القسم دورات اكاديمية لتدريس المدرسين والمدرسات طريقة تحويل الصحيفة الى «كتب مدرسية».

هذا بالاضافة الى ان القسم الرياضي، مثلا، يستغل موسم المنافسات الرياضية (كرة السلة، وكرة القدم، وكرة البيسبول). ويقدم «دروسا اضافية» في المدارس. في حصة الرياضة يقدم صحافيون من القسم ارقاما ومعلومات عن استاد رياضي في واشنطن (مساحته، وعدد المقاعد فيه، وصفوفها، الخ ...) وعن مباراة معينة (عدد الاهداف، والعقوبات وارقام اللاعبين، الخ...). وعندما يسافر فريق من فرق واشنطن الى مدينة اخرى، يقدم الصحافيون محاضرات ومسابقات عن الولايات التي تزورها هذه الفرق. وهكذا، تتحول زيارة الفريق الى دروس في جغرافية وتاريخ مختلف الولايات. التعليم.. مصدر دخل مهم للـ «بوست»

* كان لافتا في ديسمبر الماضي تغيير اسم مجموعة «واشنطن بوست» ليصبح «واشنطن بوست للاعلام والتعليم»، خصوصا مع ارتفاع نسبة عائد شركة التعليم التابعة للمجموعة، حيث بات يشكل نصف عائدات المجموعة، لا سيما مع تراجع الدخل من المصدر الأساسي له بسبب تدني نسب التوزيع (للصحف) والدخل الإعلاني التقليدي. وكانت المجموعة قد اشترت قبل عشرين سنة، شركة كابلان، التي أسست سنة 1938 كواحدة من اوائل شركات التعليم الخاص في الولايات المتحدة. وبعد ان كانت الشركة تعمل في مجال الفصول المنزلية، توسعت وصارت تقدم مقررات مدرسية من مرحلة رياض الاطفال، الى ما بعد الشهادة الجامعية.

وقبل اربع سنوات، اسست الشركة مقررا لنيل شهادة جامعية في القانون، معترف بها في ولاية كاليفورنيا. وخلال السنوات القليلة الماضية، اشترت شركات تعليم خاص في ايرلندا وكندا واستراليا وهونغ كونغ والصين. ويعمل في الشركة عشرة آلاف موظف متفرغ، وعشرون الف غير متفرغ.