محطات في تاريخ الإعلام العربي في فرنسا

بين واقع الهجرة وضغوط المنافسة العالمية

TT

هل ازدواجية المهام والمسؤوليات التي تقع على عاتق الإعلام العربي في فرنسا هي السبب وراء التأخر الذي يعرفه على الساحة العالمية منذ سنوات مقارنة مع نظيره البريطاني أو الأمريكي؟ مهما يكن فالبلد الذي يعيش فيه أكثر من 6 ملايين مهاجر معظمهم من أصول عربية وتربطه بالعالم العربي علاقات تاريخية و ثقافية قوية يستعد الآن لرفع تحدي المنافسة العالمية بضخ الحيوية و الحركة في قطاعه الإعلامي الناطق بالعربية.

أولى المحطات في حياة الإعلام العربي الفرنسي تعود للسنوات السبعين من خلال ""السياسة العربية"" التي قادها الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول والتي أثمرت عن ظهور إعلام خارجي يخاطب العالم بلسان عربي. الغرض منه خدمة صورة فرنسا والمحافظة على علاقاتها التاريخية الطيبة بالعالم العربي. «راديو مونتي كارلو: الشرق الأوسط» كانت أحد رموز هذا الاتجاه حيث ظهرت إلى الوجود سنة 1972، في وقت كانت فيه الساحة الخارجية شبه خالية من مثل هذه المبادرات. وقد ظلّت هذه الإذاعة طويلاً مصدر مُهم ورمز من رموز الإعلام الحرّ المحترف في منطقة حوض المتوسط. نجاحها تأكد في أكثر من بلد عربي بفضل جودة برامجها، وشهرة منشطيها أمثال الراحل حكمت وهبي وجورج قرداحي. إلى غاية يومنا هذا لا زالت فرنسا تعتبر هذه الإذاعة ركيزة مهمة فيما يعرف ""بنشاطها السمعي البصري الخارجي"" وهي تخصص لها عبر وزارة خارجيتها ميزانية سنوية تقدر ب 11 مليون يورو، لتمويل مصاريف تسيير الإذاعة و تشغيل عمالها أل 150. الأزمة التي شهدتها هذه الإذاعة التاريخية إبتداءاً من سنة 1996 والتي ميزتها نزاعات داخلية وسوء تسيير إداري وصلت ذروتها سنة 2005 بعد سلسلة إضرابات أثرت على أداءها حتى نزلت نسب الاستماع إلى %1 بعد أن كانت تحقق على مستوى العالم العربي نسبة تصل إلى %14، كما أصبح عدد مستمعيها 10 ملايين في الوقت الذي كان يصل هؤلاء منذ عشرية مضت إلى15 مليون، تاركة مكانها لإذاعات أخرى أخرى ك "" كإذاعة سوا"" الأمريكية التمويل و البريطانية بي.بي.سي أرابيك.

إشكالية الإعلام الناطق بالعربية عادت للظهور بقوة في فرنسا بعد حرب الخليج الأولى والثانية بسبب ما لُوحظ من احتكار بعض القنوات العربية و الأمريكية للساحة الإعلامية في مقابل تغييب الصوت الفرنسي عند الشارع العربي. طبيعة العلاقات التاريخية وأهمية المصالح الفرنسية في هذه المنطقة من العالم جعلت المسئولين و على رأسهم الرئيس السابق جاك شيراك يدقون أجراس الخطر ويعطون الضوء الأخضر لمشاريع إعلامية. هي المحطات الجديدة في حياة الإعلام الفرنسي الذي عرف ظهور قناة فرانس 24 الإخبارية و نافذتها العربية التي تبث حالياً لمدة أربع ساعات، من المنتظر أن تتطور مستقبلاً إلى طبعة كاملة على مدار24 ساعة. قناة ""أورونيوز"" التي تحقق منذ سنوات معدلات مشاهدة قياسية تتجاوز أربعة أضعاف ما تحققه س.ن.ن وثمانية أضعاف ما تحققه بي.بي.سي في أوروبا تستعد هي الأخرى لفتح قسم عربي يُشغل 20 صحفي عربي من جميع الجنسيات إبتداءا من شهر جويلية حزيران بعد محاولة قصيرة في 1995 لم تستمر أكثر من سنتين. ورغم أن برامج أورونيوز العربية ستهتم أساساً بالأحداث الأوروبية إلا أن مدير القناة السيد فيليب كايلا يؤكد على أن المحتوى لا بد و أنه سيراعي خصوصية أل 250 مشاهد الذين يوجدون في العالم العربي وأل 15 مليون متحدث بالعربية الذين يعيشون في أوروبا،كما أنها تعُول عليهم لمضاعفة نسبة مشاهديها .علماً أن فرنسا التي تستقبل في مدينة ليون مقر قناة ""اورونيوز"" تعتبر أهم ممول لهذه القناة بين الشركاء الأوروبيين. مثل هذه المبادرات و إن وجدت إلا أنها لا تستطيع أن تحجب المشاكل التي لا زالت تعترض طريق الإعلام العربي الخارجي في فرنسا: من ضعف الميزانية المخصصة له : أقل من 3 مليون يورو للقسم العربي لفراس 24 و5 مليون لأورونيوز العربية إلى ضعف الإرادة السياسية وتباين المواقف حول ضرورة دعم إعلام يحمل صوت فرنسا للعالم العربي، كما فعلت بريطانيا بقوة مع البي.بي.سي، الولايات المتحدة مع الحّرة، روسيا مع "" روسيا اليوم"" و المانيا مع ""دوتش وال"" . فالقسم العربي لقناة فرانس 24 وبالرغم من حداثة منشأه إلا أنه لم يسلم من التهديد بالاختفاء، حيث أعلن الرئيس سركوزي في ندوة صحفية في شهر جانفي يناير 2008 بضرورة إعادة تركيز جهود القطاع السمعي البصري الخارجي على الإعلام الناطق باللّغة الفرنسية، مُلمحاً إلى احتمال اختفاء هذا القسم.

يبقى أن الإعلام الفرنسي العربي يلعب على حبلين، فهو من جهة يتجه للخارج لكل العالم العربي و من جهة أخرى يلبس ثوب ""الجوارية"" ويتوجه إلى جمهور المهاجرين العرب الذين يعيشون في فرنسا و أوروبا . لكن خلافا لما حدث في بريطانيا و الولايات المتحدة اللتان عرفتا صحافة عربية مهجرية نشيطة ومنتعشة فإن المبادرات في فرنسا اقتصرت على نشاط الإذاعات التي ظهرت للوجود مع بداية الثمانينات مع ما سمي آنذاك ""بحركة تحرير الموجات"" libéralisation des ondes. معظم هذه التجارب كانت بعيدة عن الاحترافية، متواضعة التمويل، ذات هوية مغاربية، تخاطب المهاجرين باللّهجات العامية والفرنسية نظراً للتركيبة الثقافية لهؤلاء ومستواهم الضعيف في اللّغة العربية. بعد حوالي ربع قرن من ظهورها، ورغم اختراقها من طرف تيارات سياسية، إلا أن معظم هذه الإذاعات وصل لمرحلة النضج، وأصبح عددها اليوم يقدر ب 11 ممن تتوجه للمهاجرين العرب ولكن أيضا المسلمين. على رأس القائمة ""إذاعة الشرق"" التي تأسست سنة 1982 وهي ملك لعائلة الحريري و تسجل أعلى نسب الاستماع، حيث تصل حسب دراسة لمعهد ميديا متري سنة 2007 إلى %1.6 (من مجموع المشهد الإذاعي الفرنسي) وكانت قد قررت إبتداءا من سنة 2002 بثّ% 40 من برامجها باللّغة الفرنسية للوصول إلى شرائح جديدة من المستمعين ضمن الأجيال المنحدرة من الهجرة. في المرتبة الثانية ""راديو بور"" بنسب استماع تصل إلى % 0.9 و هي الإذاعة التي يديرها الدكتور ناصر كتان و تتلقى دعم مادي من جهات رسمية جزائرية، علما أن نفس الجهة كانت قد فتحت أيضا قناة تلفزيونية بنفس الاسم تبّث برامجها باللغة الفرنسية و اللّهجات المغاربية و قليل جدًا من العربية الفصحى، نفس الشيء بالنسبة لإذاعة ""فرانس ميديتراني"" التي يديرها الفرنسي التونسي الأصل توفيق محلوطي صاحب شركة ""مكة كولا"". أما المنشورات العربية فهي غائبة تماما والقليل الذي يوجد من المجلات وإن كان يهتم بالمهاجرين أو بالشأن العربي إلا انه يُنشر باللّغة الفرنسية ككوري مغربان، أفريك أزي، أرابيز و مجلات نسائية كأمينة وغزال. الصحافة الإلكترونية التي لا زالت في بدايتها تمتاز بنجاح تجربة الموقع الإسلامي الفركوفوني : أمة.كوم الذي يهتم بمناقشة الإشكاليات التي تخّص الجالية الإسلامية بفرنسا بالدرجة الأولى ويسجل نسب زيارة تصل حسب مصادر الموقع نفسه إلى 6 مليون زيارة شهرياً و أكثر من 120.000 ألف مشترك.