ساركوزي والإعلام.. مجددا

جدل في فرنسا حول إبعاد القناة الأولى لمذيعها النجم واستبداله بإعلامية رشحت سابقا كقرينة للرئيس

مقدم الأخبار باتريك بوافر دارفور
TT

إلى أي حد يمكن لرأس الدولة أن يتدخل في شؤون الإعلام؟ ولماذا راحت الصحف ومواقع الانترنت في فرنسا تفرد مساحات لبحث العلاقة الملتبسة للرئيس نيكولا ساركوزي مع عدد من كبار الممسكين بالمنابر الصحافية؟ وهل من المسموح به في ديمقراطية معتدة بتاريخها، كالديمقراطية الفرنسية، أن يتجاوز رئيس الجمهورية حقه الطبيعي في حماية حياته الخاصة ويبدأ في ممارسة هواية إخراس الأصوات التي لا تنضم إلى الجوقة؟ مناسبة هذه التساؤلات صدور كتاب بعنوان «طرد» للصحافي ألان جينستار، مدير التحرير السابق لمجلة «باري ماتش» الذي شاع أن ساركوزي تدخل لإبعاده عن منصبه بسبب نشره صورة مختلسة للزوجة السابقة للرئيس وهي في صحبة صديقها. وكذلك ما يتداوله الوسط الإعلامي الفرنسي عن السبب الحقيقي لتغيير باتريك بوافر دارفور، مقدم نشرة أخبار الثامنة مساء من القناة التلفزيونية الأولى. وفي فرنسا والغرب عموماً، فإن مقدم النشرة ليس مذيعاً فحسب، بل هو رئيس لتحرير النشرة والمسؤول عن كل ما يرد فيها.

في رسم كاريكاتوري نشرته صحيفة «الجورنال دو ديمانش» في العدد الأخير، ظهر رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون وهو يعلق وراء مكتبه صورة للرئيس ساركوزي وسماعة النقّال على أُذنه وكأنه يصدر أوامر الإقالة بالهاتف. وأمام المكتب جلس رئيس الوزراء يستمع الى شكوى النجم التلفزيوني باتريك بوافر دارفور الذي سُحبت منه النشرة بشكل مفاجئ ويواسيه بالقول: «أنت تعلم يا عزيزي أن هذا النوع من القرارات السيئة يمكن أن يصيب الجميع هذه الأيام».

وكان بوافر دارفور قد اعترض على فظاظة الأُسلوب الذي تم به إعفاؤه، أخيراً، من تقديم نشرته الاخبارية، اعتباراً من بدء الاجازة الصيفية. وقال في أكثر من مقابلة صحافية إنه يعتبر إبعاده عن الشاشة قراراً سياسيا. وهو يعتقد أن السبب هو أنه خاطب ساركوزي بشيء من الجرأة وعدم الاحترام أثناء مقابلة مع الرئيس المنتخب حديثاً، أُجريت بعد مشاركته في قمة الدول الصناعية. ويومها، قال المذيع للرئيس بالحرف الواحد: لقد رأيناك في القمة مرتاحاً، بأعلى شيء من التحفز مثل صبي صغير يتهيأ للدخول الى ملعب الكبار. وتلقى الرئيس التعليق بهدوء وأجاب: «هذا لأنك تكبرني ببضعة أشهر فتراني أكثر شباباً». ولم يفلح بوافر دارفور في محو آثار تلك الجرأة التي جاءت مثل نغمة نشاز في خضم سمفونية التأييد والمؤازرة التي عزفتها القناة الأُولى «الخاصة» للرئيس الجديد.

لم تكلف إدارة القناة نفسها عناء إبلاغ المذيع الذي يقدم النشرة الإخبارية الأكثر مشاهدة في كل أوروبا، بخبر إبعاده بشكل مباشر، بل قرأه في الصحف مثل غيره من الفرنسيين. ولهذا يمكن تفسير سحب النشرة منه بمثابة العقوبة الأكيدة، خصوصاً أنه واظب على تقديمها لمدة 21 عاماً وكانت أنجح نشرة في عموم الشاشات الأوروبية بمعدل متابعة وصل الى 10 ملايين مشاهد قبل أن يفقد مليونين في السنوات الأخيرة. وللعلم فإن النجاح لا يأتي من موهبة مذيع واحد، مهما بلغت شعبيته، بل من الميزانية المرصودة للانفاق على شبكة المراسلين وتأمين الحركة السريعة للمصورين وشراء أفضل التحقيقات المطروحة في سوق الإعلام. وتشير أرقام القناة الأُولى الى أن تكلفة الأخبار فيها تستهلك 120 مليون يورو سنوياً. وكان مما أكد فرضية «العقوبة» إعلان إدارة القناة الأُولى تعيين المذيعة لورنس فيراري، من «كانال بلوس»، في مكان باتريك بوافر دارفور. وفيراري هي المذيعة التي سبق وأن تناولت وسائل الإعلام تقارير عن علاقة لها مع ساركوزي ورشحتها للاقتران به، قبل ظهور كارلا بروني في الأُفق. لكنها شعرت بخطورة مثل تلك الشائعات على صدقيتها في المهنة فلاحقت قضائياً مجلة «كلوزر» التي كانت أول من روج للخبر وكسبت دعواها وحكمت لها المحكمة بمبلغ 12 ألف يورو على سبيل العطل والضرر. مع هذا، فإن هناك من يؤكد أن الرئيس معجب بجرأة فيراري أثناء المقابلات التي أجرتها معه وأن قرار تعيينها مكان بوافر دارفور جرى اتخاذه في «الاليزيه». وفي ردّة فعل فورية على استبعاد نجم الأخبار، أعلن الصحافيون العاملون في القناة وقوفهم الى جانب زميلهم المُقال، وعقدوا جمعية عامة لتدارس طريقة الرد. وكان مقدم نشرة الظهيرة، جان بيير بيرنو قد استنكر عدم إبلاغه بقرار إقالة زميله رغم أنه يشغل أيضاً منصب نائب مدير عام الأخبار. كما وقع العاملون في جهاز التحرير على رسالة تضامن سلموها الى بوافر دارفور، قبل دقائق من تقديمه النشرة، بعد انتشار خبر إبعاده. ولكن هل أن ساركوزي هو الذي «قطع» رأسه؟

لا بد هنا من الاشارة الى كتاب كان قد صدر في مطلع هذا العام بعنوان «سيداتي سادتي مساء الخير»، وهو من تأليف خمسة صحافيين من داخل الأخبار في القناة الأُولى، لكنهم فضلوا عدم الكشف عن أسمائهم. والسبب هو أن محتويات الكتاب كانت عبارة عن عريضة شكوى ضد «النجوم» الذين يتصدرون الشاشة ويفرضون شروطهم على الادارة، بما فيها المبالغ الكبيرة لمرتباتهم. ولا يحتاج الأمر الى كثير فطنة لإدراك أن بوافر دارفور هو أول النجوم المقصودين، والى جانبه زميلته في نشرات عطلة نهاية الأُسبوع المذيعة كلير شازال. وجاء في أحد مقاطع الكتاب: «إن موضوعات نشرة الأخبار يقررها رجل واحد». وقد أطلق المؤلفون المجهولون لقب «نيرون» على ذلك الزميل المتفرد في اتخاذ القرارات. وجاء توقيت الكتاب مع تسلم مدير جديد لقسم الأخبار، وكأن المحررين أرادوا أن يكشفوا أمامه حقيقة الصورة التي يسير عليها العمل في القناة.

سارع بوافر دارفور الى إنكار ما جاء في الكتاب. لكن المدير الجديد كان قد أخذ علماً بواقع الأُمور. ثم أصبحت هذه المماحكات المهنية في خبر كان عندما جرى ابعاد «نيرون» عن الملعب، وقام الزملاء بواجبهم الشكلي وأعلنوا التضامن معه. أما هو فقد استغل اجتماع التحرير ليشكر الذين وقفوا معه، مشيراً إلى أنه تجاوز الصدمة الأُولى للقرار وبدأ يستعد لقلب الصفحة. كما نُقل عنه أنه كان ينوي أن يترك النشرة من تلقاء نفسه وبطريقة هادئة. لكن المقربين منه يعرفون أنه لم يكن ينوي المغادرة إلا بعد بلوغه الخامسة والستين. وأبدى النجم المطرود رفضه للعرض الذي لوحت به الادارة لتسليمه برنامجاً إخبارياً اسبوعياً أو منصباً في إدارة التحرير، مؤكداً أنه سيغادر القناة الأُولى نهائياً بعد أن يقدم آخر نشرة له، قبل الاجازة، مساء العاشر من الشهر المقبل. ومن المتوقع أن يلزم الفرنسيون بيوتهم، كما يحصل في المباريات الحاسمة لكرة القدم، وذلك لمتابعة النشرة الأخيرة التي قد تحقق رقماً قياسياً في معدلات المشاهدة.

وترددت أنباء، أمس، عن احتمال تقديم القناة الثانية عرضاً لبوافر دارفور بالانتقال اليها. وأجرت صحيفة «الفيغارو» استفتاء بين قرائها حول رأيهم بانتقال المذيع الشهير من الأُولى الى الثانية فأيد 40 في المائة منهم، فقط، الفكرة. ثم عادت صحيفة «الجورنال دو ديمانش» وأجرت استفتاء ثانياً سألت فيه المشاهدين، هل يتفقون أم لا يتفقون مع قرار إقالة بوافر دارفور من نشرة القناة الأُولى؟، فأجاب 55 في المائة أنهم ضد القرار.

وهنا لا بد من لفت الانتباه الى أهمية آراء المشاهدين والمستمعين. فرغم أن إدارة القناة الأُولى نشرت خطوطاً بيانية توضح تراجع عدد مشاهدي نشرة المساء بسبب منافسة قنوات تلفزيونية عديدة صغيرة دخلت الساحة في السنوات الأخيرة، فإن الحكمة تفترض عدم الاستهانة بآراء الجمهور وإلا كانت ردة الفعل عكسية. لقد سبق إبعاد مقدم برامج المنوعات الشهير القديم فيليب بوفار عن ميكرفون إذاعة «إر. تي. إل» بحجة تجديد شباب الإذاعة لكن خليفته الشاب فشل في سدّ مكانه، كما أن المستمعين بعثوا بالآلاف من رسائل الاحتجاج وأجبروا الإذاعة على إعادته الى منصبه. وحدث الأمر ذاته مع باسكال سيفران، مقدم البرامج الذي توفي قبل فترة وجيزة، وكان التلفزيون قد أوقف برنامجه الخاص بالأُغنية الفرنسية التقليدية بحجة أنه لا يروق للجيل الشاب لكن المشاهدين اعترضوا وانصاعت إدارة التلفزيون، مرغمة، لرغباتهم وأعادت برنامجه الى الشاشة.

ويأخذ الأمر بعداً أوسع مع باتريك بوافر دارفور لأن العلاقة بينه وبين جمهوره تمتد لعقدين من الزمن. ومع اقتراب موعد توقفه عن تقديم نشرة المساء، سيغيب وجه أليف كان ضيفاً يومياً على معظم البيوت الفرنسية. وسيبقى مقدم النشرة الذي يُرمز له بالحروف الأُولى من اسمه «ب. ب. د. أ» في ذاكرة مشاهدي التلفزيون باعتباره المذيع الذي نجح في تجاوز أكثر من زلة قاتلة، كما اكتسب احترافاً مهنياً عالياً وأسس لمدرسة حيادية في قراءة الأخبار. وكان أشهر موقف له يوم توفيت ابنته المريضة بالأناروكسيا بإلقاء نفسها تحت عجلات مترو الأنفاق، وبعد ساعات قلائل من مصرعها أذاع الأب الخبر في نشرته، بصوت هادئ وحزين، مثل أي خبر من الأخبار المؤسفة التي يعج بها العالم.

أما مدير التحرير المطرود من «باري ماتش»، آلان جينستار، فإنه يكشف في كتابه «مطرود» أن ساركوزي، الذي تحادث معه بالهاتف بعد نشر الغلاف الفضائحي عن زوجته، لم يكتف بتعنيفه بل وجّه له تهديداً صارماً حول مستقبله. وهو يقول انه ختم المكالمة بالقول: «على أي حال، لن أطلب رأسك». ويضيف الصحافي أنه كان يعرف أن المرشح للرئاسة يطلب رأسه، وهو قد أكد للمقربين منه، أواخر صيف 2005، حصوله على مطلبه.

ومن أغرب ما يرويه جينستار هو محاولته تدارك غضب ساركوزي وتهدئة الجبهة معه، الى الحد الذي مارس فيه مدير التحرير الرقابة على موضوعات قد تزعج المرشح للرئاسة، آنذاك. لقد حذف، مثلاً، عبارة وردت في مقابلة مع الفنان وبطل كرة المضرب السابق يانيك نوا قال فيها: «إذا فاز ساركوزي سأهاجر». وفي الأحوال العادية فإن أي مدير تحرير كان سيتلقف جملة مثل هذه تصدر عن شخصية لها منزلتها في نفوس الفرنسيين، ويضعها عنواناً للمقابلة. لكن جينستار خان مهنته في سبيل التهدئة مع ساركوزي. بل ذهب أبعد من ذلك عندما نشرت «باري ماتش» تحقيقاً مصوراً عن المرشح الشاب، في صيف 2006، وهو يتنزه مع سيسيليا وابنتيها في إحدى الحدائق مثل رب أُسرة سعيدة. وأي قارئ يرى الصور سيتوقع أن أحد «الباباراتزي» قد اختلسها من دون علم أصحابها. لكن الحقيقة التي كان يعرفها جينستار هي أن التحقيق المختلس «مفبرك» والصور جرى التقاطها بالاتفاق مع الأشخاص الظاهرين فيها وعلى يد مصورهم الذي هو أحد أصدقاء سيسيليا.

يكتب جينستار أن ساركوزي لا يمارس الرقابة على الصحافيين لأنه أذكى من أن يفعل ذلك. لكن اسلوبه في التعامل مع وسائل الإعلام أكثر براعة. وهو يقوم على حسن اختيار أصدقائه. إنه يعرف عن قرب الغالبية العظمى من رؤساء ومالكي المجموعات الصحافية الفرنسية الكبرى، وهو يختلط معهم وينسج علاقات ممتازة ودافئة بل وأخوية. ولا يطلب منهم شيئاً بشكل مباشر. لكن مفهومه للصداقة يجعله يتهمهم بخيانته في حال نشر أخبار خطيرة تسيء اليه، مثل غلاف «باري ماتش» عن سيسيليا. وهذا الضغط على الأصدقاء هو الأكثر فعالية. انه السلاح القاتل لساركوزي.

يذكر أن مجلة «باري ماتش» تصدر عن مجموعة إعلامية تتبع رجل الأعمال آرنو لاغاردير، الصديق المقرب من ساركوزي. أما القناة التلفزيونية الأُولى فتتبع مجموعة المقاول مارتان بويغ، وهو صديق حميم آخر للرئيس.