«بيت صدام».. دراما عن واقع لم ينس بعد

قراءة في المسلسل التلفزيوني الذي عرضته «بي بي سي 2» عن حياة الرئيس العراقي الراحل

صورة ترويجية تضم ابطال المسلسل في ادوارهم كافراد النظام العراقي المخلوع (بي بي سي - الشرق الأوسط)
TT

بعد إعلانات عديدة عن المسلسل الدرامي المرتقب الذي ظلت محطة «بي بي سي 2» البريطانية تحفز المشاهدين على متابعته، ابتدأت أول حلقة منه يوم 30 يوليو (تموز) الماضي على الشاشة الصغيرة، لتتتابع في ثلاث حلقات أخرى تعرض كل يوم أربعاء بمعدل ساعة واحدة لكل حلقة.

كان السؤال الملح: كيف يمكن بناء عمل درامي لا تسجيلي عن أحداث ما زال الكثير من شهودها أحياء، سواء كانوا في موقع الجلادين أو الضحايا؟ سيما وأن مثل هذا العمل لا بد أن يثير جدلا، اقله عن وجهة النظر التي سيتبناها في الأحداث التي تستند عليها قصته. كذلك ما زالت الآثار السلبية التي ترتبت على قرار الرئيس الأميركي بإسقاط نظام صدام وتفكيك الدولة العراقية قائمة، مثلما هو الحال مع الكثير من الإرث المأساوي الذي تركه الرئيس العراقي السابق في نفوس من عبروا سالمين سنوات حكمه. كيف يمكن كتابة عمل درامي عن حاضر ما زال في طور التشكل، ولا يعرف أحد من الأحياء اليوم ما سيؤول إليه ذلك القرار من نتائج على مستقبل أبناء العراق ومنطقة الشرق الأوسط برمتها بعد خمسين عاما.

يقول المخرج أليكس هولمز الذي شارك في كتابة السيناريو في احدى المقابلات التي جرت معه قبل عرض مسلسله: «حينما اطلعت على قصة صدام وجدت عناصر مشابهة فيها مع مسرحيات شكسبير التاريخية أو أفلام العصابات».

ولا بد أنه يعني بالدرجة الأولى مسرحية «ريتشارد الثالث» الذي قتل ابني أخيه، الملك ادوارد الخامس، بعد وفاته ليستولي على الحكم. لكن الأحداث التي تناولها شكسبير في هذه المسرحية وقعت ما بين عامي 1480- 1485، بينما ولد شكسبير عام 1564، لذلك فإن كتابته لهذه المسرحية وغيرها من المسرحيات جاء بعد مرور أكثر من نصف قرن عن وقوع أحداثها. وهذا ما أتاح له أن يضيف ما يشاء من مواد متخيلة وأن يكيف التفاصيل لخدمة بنائه المسرحي الدرامي، بعكس الحال مع مسلسل «بيت صدام»، الذي لم يمض على إعدام صاحبه أكثر من سنتين.

تبدأ الحلقة الأولى من عام 1979، سنة وصول صدام حسين إلى الرئاسة. تعطينا المشاهد الأولى من المسلسل انطباعا وهميا عن أن الوضع كان مثاليا قبل ذلك، فالرئيس الأسبق أحمد حسن البكر كان مملوءا بالتفاؤل بمستقبل العراق، وكان هو الذي يمسك بيديه أمور الحكم، قبل وقوع مؤامرة القصر التي انتهت بإقصائه واستيلاء نائبه صدام على الحكم. لكن هذا الفهم يحمل مغالطة تاريخية. فالكثيرون ممن عاصروا فترة السبعينات يعرفون أن صدام حسين كان الحاكم للعراق، وما عزز نفوذه التأييد الجارف الذي حصل عليه من دول المعسكر الاشتراكي، إضافة إلى الدعم الكبير الذي حصل عليه من قوة سياسية مهمة آنذاك هي الحزب الشيوعي العراقي، الذي جرى إشراكه في الحكم لما يقرب من 5 سنوات.

يقول المخرج في نفس المقابلة السابقة: «أحد الأمور المتميزة في هذا المسلسل الدرامي هو أنك لا تحتاج إلى أي إضافة أو تضخيم أي عنصر فيه، فالأحداث والشخصيات نفسها تمتلك عناصر درامية بما فيه الكفاية».

مع ذلك نجد شططا في مسار الأحداث الحقيقية، فمثلا حينما أجهز بيده على أقرب أصدقائه: عدنان الحمداني. وكان التبرير الذي قدمه هو أنه أراد أن يوصل رسالة لخصومه من أنه لا يمتلك أي عاطفة تقف في وجهه عما يريد تحقيقه.

لكن عدنان الحمداني، كان واحدا من أكثر القادة البعثيين كفاءة ونزاهة، واحتل مواقع مؤثرة خلال السبعينات مثل وزارتي النفط والتخطيط، والخلاف مع صديقه صدام حسين، كان حول الموقف من الوحدة مع سورية، والموقف من دور القيادة السياسية في اتخاذ قرار من نوع تبديل الرئيس بآخر. فكل أولئك القادة البعثيين الذين بدوا متحمسين لفكرة الوحدة أو عارضوا استقالة البكر القسرية جرت تصفيتهم ضمن ذلك العرض الرهيب داخل القاعة التي جمعت قادة بعثيين. لكن حتى ذلك المشهد كان أقل بكثير من الفيلم الوثائقي الأصلي الذي شاهده الكثيرون من العراقيين آنذاك، وبدا فيه صدام مثيرا للغثيان، بعكس الصورة الممجدة التي يرسمها المخرج هولمز لصدام ولما جرى من عمليات قتل للرفاق بيد الرفاق.

تحدد الحلقة الأولى التي كان إعدام عدنان الحمداني قمتها، مسار الحلقات الثلاث اللاحقة. ففي الحلقة الثانية، التي تغطي فترة الحرب العراقية الإيرانية، تنتهي بقتل وزير الدفاع العراقي: عدنان خير الله، الذي كان ابن خال صدام وأخا زوجته ساجدة، بعد شعور الرئيس العراقي السابق أن هناك تقديرا له بين الضباط الكبار بسبب دوره الإيجابي في مواجهة إيران. بالمقابل يجري صعود حسين كامل الذي تربطه بصدام حسين قرابة عن طريق أبيه، حينما يتزوج من كبرى بناته رغد.

وفي هذه الحلقة يصعد نجم ابنه المتهور عدي الذي لعب دوره الممثل فيليب أرداتي، والذي تقمص شخصيته بشكل رائع. ولعل المخرج استفاد من فيلم «العراب» وأسقط صورتي ولدي دون كورليون: سوني ومايكل. فالأول كان يتميز بالخراقة الشديدة بعكس الابن الثاني الذي كان متكتما وقادرا على ضبط نفسه وميالا إلى الفعل أكثر من الكلام.

مع ذلك ننتقل إلى الحلقة الثالثة، ونواجه تحولا كبيرا في موقع هذا الابن المتهور المثير للقرف، ليصبح مرشحا لاحتلال موقع أبيه، حتى بعد قتله لخادم أبيه الأثير، من دون أي سبب على يد عدي. هذا الصعود يقابله خفوت في نفوذ الصهر حسين كامل. لماذا وقع هذا الشيء؟ لعل الواقع كان هكذا، لكننا حينما نشاهد عملا دراميا سواء كان رواية أو فيلما، نحتاج إلى معرفة الأسباب وراءها. وهنا يفشل الفيلم في تقديم أي تبرير لهذا التحول الذي ينتهي بهروب حسين كامل وأخيه صدام كامل إلى الأردن. وهناك يطرح نفسه بديلا مستقبليا لحاكم العراق.

لذلك أصبح قتل حسين كامل بعد منح صدام له بالأمان، ذروة الحلقة الثالثة، مثلما هو الحال مع ذروتي الحلقتين السابقتين. تأتي الحلقة الرابعة، ربطا مع التقديم الأولي حينما ظهر بوش على الشاشة، وهو يقدم تهديدا نهائيا بمغادرة السلطة. فالغزو يمر بسرعة، ونظل نتنقل من دون أي تنام درامي لأحداث يعرفها الجميع عما وقع بعد الغزو الأميركي للعراق وسقوط بغداد.

هذا العجز عن فهم الفرد عبر المجتمع الذي ينتمي إليه، والعجز في فهم الثقافة المغذية للكثير من سلوكيات صدام، مع غياب تام لإضاءة الفترات التي تشكل خلالها الرئيس العراقي السابق: فترات الخمسينات، وانقلاب 14 تموز الذي أطاح بالنظام الملكي، واحتراب الأحزاب السياسية في ما بينها مع تحول الانقلابات إلى لازمة متواصلة للحياة اليومية، جعل المسلسل صورة شاحبة عن واقع أكثر غنى وأكثر تعقيدا مما استطاع المخرج أليكس هولمز أن يظهره.

ينتهي المشاهد الذي لا يعرف أي شيء عن العراق وما جرى فيه خلال السنوات الأخيرة، إلى حالة من الارتباك الذهني، حتى بعد فشل المسلسل في أن يكون تصعيدا دراميا حقيقيا: هل أميركا كانت عازمة على احتلال العراق بغض النظر عمن كان في الحكم؟ هل كانت حرب عام 1991 ثمرة لأجندة أميركية خفية استخدمت فيها أطراف عدة لجر صدام إلى الكويت؟ المسلسل يطرح أحداثا دون ربط، ودون تأويل، ليقودنا إلى متاهة غامضة وغريبة لا تمت بصلة للواقع الذي حيكت القصة عليه.

يذكرنا هذا المسلسل بجملة مشهورة لكارل ماركس، قالها ساخرا بأولئك الذين يرون التاريخ يتحرك في دائرة مغلقة بما معناه: التاريخ لا يكرر نفسه، وإذا حدث ذلك فإنه سيكون في المرة الأولى تراجيديا وفي المرة الثانية كوميديا. لكن يمكن القول ان التاريخ يتكرر اليوم: في المرة الأولى تراجيديا وفي المرة الثانية مادة مسلية عبر دراما تلفزيونية أو سينمائية. لذلك ليس مستبعدا أن تفكر هوليوود قريبا ان تحول هذا المسلسل إلى فيلم صارخ يكسر شبابيك التذاكر ويحقق أرباحا بالملايين، مع توفر كل عناصر التسلية والإمتاع، ربما عدا كم كبير من الحقائق.

يذكر ان «الشرق الأوسط» حاولت الحصول على تعليق من اليكس هولمز (مخرج العمل) أكثر من مرة، الا ان فريقه الاعلامي لم يتجاوب في المهلة المحددة.