«تسويق البلدان» يعيد حروب المدن.. بشكل عصري

الإعلانات السياحية تشكل ما بين ربع ونصف إجمالي إعلانات شبكة «سي إن إن» الدولية

حملات إعلانية لبلدان ووجهات سياحية واستثمارية مختلفة («الشرق الأوسط») وراني رعد
TT

قبل أكثر من ألفي عام، انتهت حروب المدن اليونانية الكبرى، اثينا وسبارتا وطيبة.. حروب كانت تدور أولا وأخيرا حول النفوذ.

ومن يشاهد كبريات القنوات الإخبارية أو يقرأ الصحف الدولية اليوم، لا بد أن يلاحظ الكم الهائل من الإعلانات التي تروج لمدن أو بلدان كوجهات سياحية أو استثمارية، لدرجة قد تدفعك للتفكير بأن «حروب المدن» لم تنته، وإن أخذت أسماء أو أسلحة أخرى، فإن الغرض أولا وأخيرا كان ولا يزال «النفوذ». والحديث هنا هو عن الحملات الإعلانية المدفوعة التي تصممها مجالس وهيئات السياحة والاستثمار في البلدان المختلفة، لتأكيد مكانة مدينة أو وجهة ما كمركز جذب استثمارات، أو مصيف مفضل للعائلة أو ما شابه. وإذا كنت من الراغبين في متابعة فصول «حرب المدن» الجديدة، فما عليك سوى تشغيل قناة «سي إن إن» الدولية التي تحولت إعلانات المدن والبلدان فيها إلى معلم أساسي من هوية القناة، لدرجة قد تدفعك للقول إنه بين كل إعلان سياحي ونظيره.. هناك إعلان سياحي آخر.

يبتسم راني رعد، نائب الرئيس لمبيعات الإعلان في شبكة «سي إن إن» لأوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، لدى سماع ذلك التعليق، ويقول «لا شك أن إعلانات السياحة هي من أكبر القطاعات الإعلانية لدينا.. لكن لدينا إعلانات من قطاعات أخرى بالتأكيد». وفي حين يقول رعد بأن حجم الإنفاق ونسبة الإعلانات السياحية مقارنة بالقطاعات الأخرى هي «أرقام داخلية» (أي خاصة بالشبكة)، فإنه يشير إلى أن نسبة إعلانات هذا القطاع مقارنة بالقطاعات الأخرى تشكل ما بين 25 إلى 50% من إجمالي إعلانات «سي إن إن».

إلا أن سؤالا يطرح نفسه هنا، وهو سبب الإقبال الكبير لمعلني قطاع السياحة على الإعلام الدولي، يجيب رعد بالقول ان ذلك يتعلق بمسألتين: الأولى هي كون «الإعلان السياحي» عالميا بحق، لأنك ترسل نفس الرسالة الإعلانية عن البلد أو الوجهة إلى كل مكان في العالم، والسبب الآخر هو كون «سي إن إن» قناة عالمية بحق مما يجعلها «منصة ملائمة» لهذا النوع من الرسائل. لكن ماذا في هذه الإعلانات؟، هي في الغالب لقطات لمناظر خلابة، أو سفر وموائد شهية، أو أناس يمضون أوقاتا ممتعة في حال كان الإعلان لترويج وجهة سياحية.. أو لقطات لاجتماعات إدارية ومبان فخمة وتسهيلات في حال كان الإعلان لترويج وجهة استثمارية.

وكما يعلم العاملون في قطاع الإعلام، فإن في تزايد المعلنين مؤشرا على ازدياد المنافسة، وذلك يدل على نمو قطاع السياحة بشكل عام، وبالمناسبة فإن هيئة الأمم المتحدة للسياحة الدولية UNWTO تصنف السياحة القطاع الأول لناحية النمو، وتشير أرقام الهيئة إلى أن 900 مليون شخص سافر في إجازة خلال عام 2007. لكن كثرة المنافسين قد تعني تشابه «المنتج» في حالات معينة، على الأقل في أذهان المشاهدين. وإذا سألت أي شخص أن يصف لك الإعلان السياحي التقليدي، فإنه على الأرجح سيجيبك بنفس ما ورد أعلاه، أي «لقطات لمناظر خلابة، أو سفر وموائد شهية، أو أناس يمضون أوقاتا ممتعة». يعلق رعد ردا على هذه النقطة بالقول بأن هذه الملاحظة كانت من الأسباب التي دفعت «سي إن إن» إلى تأسيس الهيئة التي تعرف باسم «تاسك» T.A.S.K (وهي اختصار لهيئة «حلول وعلوم الإعلانات السياحية»)، التي تهدف بحسب ما يقول رعد إلى خدمة القطاع بشكل أعمق، بحيث يقدم مستشارو الهيئة اقتراحات مبنية على دراسة للبلدان المعنية حول كيف يمكن أن تقدم نفسها بشكل مختلف، في ما يعرف بلغة التسويق بـ «التمايز»Differentiation.

من جهة ثانية، يرى سيمون انهولت، مبتكر مفهوم «ماركات الدول» Nation Brands والمؤشر الخاص بها (Nation Brand Index) وهو أول تصنيف تحليلي لبلدان العالم كماركات، بأن السياحة إنما تشكل عاملا واحدا فقط مما يكون «ماركات البلدان».

ويعتبر انهولت أن هناك 6 عوامل (يعرفها بالـ«هيكساغون» أي «السداسي»)، هي التي تكون هذه «ماركة» بلد معين، وهي السياسة الخارجية والداخلية للبلد، الثقافة والتراث، الشعب، السياحة، ماركات صادرات البلد، وعامل الاستثمار والهجرة. وترتبط كل هذه العوامل ببعضها بعضا لتكون «الرسالة» التي ترسلها البلد عن نفسها، وتكون نتيجة تراكم هذه العوامل على مر السنين «ماركة» للبلد.

وحول سباق الدول على الترويج لنفسها إعلانيا، رأى انهولت في حوار سابق مع «الشرق الأوسط»، بأن «الإعلان قد يفيدك في بيع عطلة في بلد ما لشخص ما»، وسمعة البلد هي أمر ضخم للغاية متعلق بجوانب عدة.

هنا يعود رعد لذكر هيئة T.A.S.K مجددا، ويشدد على دورها في مساعدة البلدان ومجالسها السياحية في التركيز على مختلف الجوانب، حيث تعمل الهيئة بصفة استشارية مع البلدان التي تتعامل معها. اللافت هو انه حسب ما يقول رعد التعامل مع «تاسك» كهيئة استشارية غير مشروط بشراء مساحات إعلانية على «سي إن إن» أو أي ارتباط من هذا النوع، إنما الغرض منه هو «خدمة قطاع يعد من الأهم بالنسبة إلينا» بحسب ما يقول رعد.لكن ما تأثير «أهمية» قطاع السياحة إعلانيا على «سي إن إن» تحريريا؟، يجيب رعد بالقول بأن هناك فصلا تاما بين صالة التحرير والقسم التجاري في الشبكة. ماذا إذاً عن البرامج السياحية التي تشتهر بها «سي إن إن» مثل برنامج «بزنس ترافيلير»؟، يقول رعد «نحن نصمم برامجنا بناء على رغبة المشاهدين وليس المعلنين»، مضيفا أن أقصى ما يمكن أن تصل إليه العلاقة مع المعلن في حال كانت هناك رغبة في الحصول عليه كراع لبرنامج ما، هو عرض فكرته عليه قبل بثه للحصول على موافقة بخصوص الرعاية من عدمها، لكن لا علاقة أو تأثير مرتبطا بالمحتوى على الإطلاق بحسب ما يقول رعد. من جهة ثانية، كان لا بد من طرح سؤال عما يمكن أن يحدث لو أن بلدا ما كان متعاقدا مع «سي إن إن» في حملة إعلانية للترويج للسياحة وحدث أن ذلك البلد تعرض لحادث أمني، مما يعني أن القناة ستعرض في لحظة لقطات دامية ضمن موجز الأخبار ويلي ذلك «كليب» دعائي يروج لجمال هذا البلد.. يجيب رعد بالقول إن حدوث مثل هذا الأمر وارد بالتأكيد، وسبق وأن حدث، وعندها تتدخل «تاسك» لنصح المعلنين بما يجب عمله، وفي حادثة سابقة تم النصح بتجميد حملة إعلانية لبلد ما كليا حتى انتهاء الأزمة، ومن ثم العودة بعد مرور بعض الوقت. وبالعودة إلى نقطة «حروب المدن» تاريخيا، فربما من المثير تخيل كيف كان يمكن أن يكون شكل الحملات الإعلانية لسبارتا أو أثينا لو كان الإعلام متطورا بالشكل الذي هو عليه اليوم حينها.