العلاقات العامة.. شر لا بد منه أم خير لا غنى عنه؟

في وقت أصبحت فيه المنتجات الاستهلاكية جزءا من واقع الحياة اليومية يستدعي التغطية الصحافية

TT

هل تعتبر كتابة الصحافيين عن جهاز تشغيل الأغاني الرقمية «آي بود»، الذي تنتجه شركة «آبل»، دعاية له؟

من جهة، لا شك في ذلك.. لأنهم بطبيعة الحال سيذكرون كيف يعمل هذا الجهاز، وما ميزاته، وما الذي يميزه عن بقية أجهزة تشغيل الأغاني المحمولة.

حسنا، هل يعني هذا أنه عليك، وبحكم أن الصحافة يجب ألا «تنحدر» إلى كونها «وسيلة دعائية»، أن تتجاهل هذا الابتكار اللافت تماما؟.

قبل أن تتخذ قرارا، تذكر أنك تتحدث عن منتج باع أكثر من 150 مليون وحدة حول العالم (حتى سبتمبر (أيلول) 2007).. فهل من المقبول صحافيا أن تتجاهل موضوعا يهم 150 مليون شخص؟.

كل هذه الأسئلة تشكل نواة قضية لافتة يعيشها الإعلام العربي بشكل خاص. فحتى وقت قريب كان يمكن اعتبار الكتابة عن أي ماركة أو منتج بمثابة الـ«لا الرابعة» (إذا افترضنا أن اللاءات الثلاثة في الإعلام العربي هي: الدين، الجنس، والسياسة)، وكان يُعتبر كل مَن يجرؤ على الكتابة عن منتج معين «أجيرا» و«صحافي العلاقات العامة». (بسبب فهم خاطئ يعتبر أن عمل العلاقات العامة يقتصر على المنتجات الاستهلاكية، رغم انه مجال واسع به تخصصات مختلفة، ولعل أقل ما يقال في هذا السياق انه من النادر ان تجد دائرة حكومية او مسؤولا لا يوظف قسما اعلاميا) والواقع أن هذه الظاهرة ما زالت سائدة إلى حد ما حتى اليوم. فإذا كنت صحافيا جرب أن تأخذ خبرا افتراضيا عن تأخر إصدار النسخة الجديدة من جهاز «بلاي ستيشن» لألعاب الفيديو الذي تنتجه شركة «سوني» إلى المحرر المسؤول عنك واسأله إن كان صالحا للنشر.

على الأرجح ستكون إجابته هي إما «لا».. أو أن يرمقك بنظرة مشفقة (بحكم سطحية اهتماماتك) ويقول لك اذهب به إلى صفحات «المنوعات».

لكن ربما كان على ذلك المحرر أن يعلم أن خبرا حقيقيا عن هذا الموضوع وزّع فعلا قبل عامين، ونشر في أهم المطبوعات العالمية والاقتصادية، مثل «انترناشونال هيرالد تريبيون» و«بي.بي.سي» و«فاينانشال تايمز»، وكان الإعلان عن تأخر شركة «سوني» في طرح جهاز «بلاي ستيشن 3» كفيلا بالتأثير في سعر سهم شركة الالكترونيات العملاقة، دافعا إياه إلى التراجع بنسبة 4% في سوق الأسهم اليابانية.

وهنا يطرح سؤال بديهي نفسه، فإذا أيقنا بمدى الأهمية التي وصلت إليها الماركات المختلفة في حياتنا اليومية، وأنه بحكم أن غالبية القراء أو المشاهدين يستخدمونها بشكل مستمر، فمن الضروري أن تشملها الاهتمامات الصحافية للوسيلة الإعلامية، وعندها: أين نرسم الخط الفاصل بين الكتابة عن منتج أو خدمة معينة بشكل صحافي، والترويج له بشكل دعائي؟.

سلطان البازعي، الذي يتحدث من واقع خبرة إعلامية طويلة كصحافي، ومن موقع مسؤولياته كنائب الرئيس التنفيذي للجمعية الدولية للعلاقات العامة - فرع الخليج، اعتبر أن جزءا من مشكلة القطاع عربيا هو الجهل لما يعنيه فعليا، ويشير إلى ثلاثية لافتة في هذا السياق، موضحا أن الجهل، هو جهل مشترك بين العميل ومسؤول العلاقات العامة والصحافي.

فأمام عميل يريد نشر خبره بأي شكل كان، ورجل علاقات عامة يمارس المهنة أحيانا بلا رادع أخلاقي، لا عجب من وجود حالات «متطرفة» في التعامل مع موظفي العلاقات العامة، فإما أن يقوم الصحافي بتمزيق البيان الصحافي حال وصوله إلى المكتب بعد أن يحلف أغلظ الأيمان بأن ذلك الخبر لن يتم نشره إلا «على جثته»، أو ينشره كما هو بعد أن يضيف اسمه عليه، طمعا في مكسب معين.

ويوضح البازعي: عندما تحصل مثلا على خدمة أو منتج للتجربة من شركة ما، فأنت لست ملزما بالكتابة عنه بإيجابية، وهناك صحافيون كثر يجرون أبحاثهم الخاصة، ويأتون بآراء جهات مختلفة، قد تكون ناقدة».

بمعنى آخر، فإن الكتابة عن المنتجات قد يكون خدمة كبيرة للقراء، في حال جاءت بموضوعية واتزان، ويستطيع من يراقب الإعلام العربي أن يدرك أن ثقافة الـ«ريفيو» (النقد)، غير معممة بشكل كبير.

فقلة من الصحف أو القنوات هي التي تأخذ على عاتقها مهمة نقد المطاعم، او الأجهزة الالكترونية أو السيارات، بمعنى أن يكون لديها صحافيون أو متعاونون متخصصون في هذا السياق، وهو أمر يتطلب خبرة في المجال المراد نقده وأمانة صحافية بطبيعة الحال.

في المقابل، تجد في الغرب مثلا، أن نقاد الصحف معروفون ومهابون جدا، فمثلا حين يعلن عن مسرحية جديدة في لندن ويأتي موعد الـPreview الخاص بالإعلام الذي يسبق الافتتاح للعموم، فإنه على الأرجح يكون اليوم الأصعب في حياة مخرج العمل وممثليه، لأن جرة قلم في ملحق الفنون الخاص بصحيفة مثل الـ«غارديان» أو الـ«تايمز» كفيلة بما يسمى Make or Break (مصطلح يمكن ترجمته بشكل غير حرفي إلى العربية بـ«تعظيم العمل أو تحطيمه»)، لأن العموم يثقون بما يكتبه الناقد ويقررون بناء على ما يقرأونه إذا ما كانوا سيذهبون لاحقا لمشاهدة العرض. وبطبيعة الحال، فإن كتابة نقد سلبي في الغرب لا تعني أن الصحافي لن يدعى إلى عروض مستقبلية أو يتعرض لأي شكل من الأعمال الانتقامية، كالتشهير او التشكيك في المصداقية مثلا، لأن ذلك بحد ذاته يصبح قصة صحافية تعود بالضرر الخطير على المنتج أو الخدمة المراد استعراضها.

لكن ماذا عن محاولة «شراء» الأقلام الصحافية؟ أو بمعنى آخر الحصول على بدل مادي من قِبل العميل أو وكيله الإعلامي لقاء نقد إيجابي أو مساحة خبرية معينة؟.

في الغرب هناك قوانين صارمة في هذا السياق، فمثلا يدعو ميثاق العمل الخاص بجمعية Chartered Institute of Public Relations في المملكة المتحدة، العاملين في مجال العلاقات العامة، إلى اعتماد مبادئ الشفافية والصدق وخدمة مصلحة العموم، ويعطي رئيس الجمعية حق التحقيق مع أحد أعضائها في حال تجمع ما يكفي من الأدلة التي تثبت إساءة التصرف. وهذا بطبيعة الحال لا يعني انه في أميركا أو بريطانيا لا تحدث حالات متعددة من الرشاوى المختلفة للصحافيين.

ويتابع البازعي بأن إحدى مشاكل القطاع في العالم العربي، والسعودية خصوصا، انه لا توجد أنظمة ولا جمعية تسعى لتنظيم عمل العلاقات العامة، ويضيف: «نحن نعمل على إيجاد ميثاق شرف للمهنة ونسعى لنشره».

ويشكو كثيرون في السعودية والعديد من البلدان العربية من ظاهرة «شراء الأقلام» من قِبل الممثلين الإعلاميين لجهات مختلفة، وهي تشمل في بعض الأحيان حتى بعض الوزارات ـ بحسب ما يقول البازعي ـ التي تلجأ إلى إحدى أشهر الطرق في هذا السياق، وهي تعيين صحافيين كـ«مستشارين إعلاميين» (الأمر الذي يعني فعليا نشر أخبار تلك المؤسسة من دون أي مساءلة).

وسيلة أخرى يلجأ إليها العاملون في مجال العلاقات العامة هي الهدايا الفخمة، أو الرحلات المجانية، أو وعد الصحافيين بوظائف مستقبلية. ومن جهته يقول يحيى حميد الدين، رئيس قسم العلاقات العامة في شركة «هيل اند نولتن السعودية»، إن إعطاء أي مقابل لقاء نشر أي خبر صحافي او مقابلة يعد ممارسة سيئة، ويقول: «أرفض دعوة أي صحافي يطلب أي مقابل مادي لحضور أي فعالية»، موضحا أن ثمة صحافيين يسألون عن الهدايا الإعلامية قبل أن يسألوا عن موضوع الندوة او الفعالية التي يدعون اليها. لكن كما يقول المثل الشهير فإن «يدا واحدة لا تصفق»، حيث الخطأ في هذه الحالة يكون على الاثنين، (الصحافي ورجل العلاقات العامة)، ومن غير المنصف لوم جهة دون الأخرى. ويرى سلطان البازعي انه في حين أن من يدّعون العمل في العلاقات العامة ويقومون بمثل هذه الممارسات مخطئون، فإنها تكشف عن مشكلة في المناخ الصحافي.

ويضيف: على وسائل الإعلام التأكد من صحة مناخها الصحافي، وأن صحافييها بشكل عام غير قابلين لـ«الاختراق». أما كيف يتم هذا الاختراق؟ فيجيب البازعي بالقول إن الصحافيين في هذا السياق مثل القضاة الذين يتطلب عملهم إحقاق العدل، فباعتبار أن الصحافي مؤثر في الرأي العام، على المؤسسات الإعلامية ألا تتركهم عرضة للإغراءات المادية بأن تتأكد من أنهم يحصلون على حقهم. ولا يغفل البازعي كذلك الجانب المعنوي الذي يعتبره من الحاجات الضرورية للصحافيين.

ويرى البازعي كذلك أن ثمة مشكلة عربيا، وفي السعودية خصوصا، وهي الخلط بين مجالي الإعلان والعلاقات العامة.

ولعل أحد المؤشرات على هذه الظاهرة هي افتراض العميل أو وكيله الإعلامي بأن المطبوعة ملزمة بنشر أخباره طالما هو ينفق فيها إعلانيا. من جهة ثانية، يقول البازعي بأن بعض وسائل الإعلام تتفادى أحيانا الكتابة عن منتج معينة بشكل سلبي، رغم وجود ضرر منه على المجتمع، في حال كانت الشركة المنتجة تعد من كبار المعلنين بالوسيلة. أما يحيى حميد الدين فيقول: «أحيانا أحضر خبرا مهما وبه معلومات موثقة.. لكني أفاجأ برد صحافي ما حين يقول للأسف لا يمكن نشر خبر عميلك لأنه ليس من المعلنين معنا».

وتبدو هذه الممارسات على النقيض مما يجري في كبريات المؤسسات الصحافية حول العالم، حيث يوجد فصل واضح بين صالة التحرير والقسم التجاري.

فمثلا أوضحت ديبورا كوهين، نائبة رئيس التحرير في «بريتيش ميديكال جورنال» (المجلة الرسمية لمجتمع الأطباء في بريطانيا)، في حوار سابق مع «الشرق الأوسط»، بأن المجلة تنشر على موقعها على الانترنت، بالإضافة إلى سير الصحافيين العاملين في المطبوعة، معلومات مالية وشخصية عن هؤلاء الصحافيين مثل: وجود أي استثمارات أو امتلاك أي أسهم في سوق المال، التاريخ المهني وإشارة تحديدا إلى تأكيد عدم وجود وظائف سابقة مع جهات قد تنتفع او تتضرر من نشر مواضيع عنها في المطبوعة.

وتحدثت كوهين عن وجود ما تعتبره «سورا فاصلا» بين صالة التحرير وقسم مبيعات الإعلانات في المطبوعة، موضحة أن الصحافيين لا يعلمون ما هي الجهات المعلنة أو طبيعة الإعلانات التي ستطرح في العدد المقبل، ولا يمكنهم ذلك حتى لو أرادوا، كذلك لا يعلم قسم الإعلانات ما هي المواضيع التي سيجري العمل عليها من قبل فريق التحرير، تقول كذلك إنها ترفض إعطاء خطة التحقيقات المستقبلية لمن يتصلون بها من مندوبي العلاقات العامة.

أمر آخر متعلق بأسباب «سوء سمعة» رجال العلاقات العامة يشير إليه حميد الدين بالقول: «هناك صحافيون لا يفضلون التعامل مع موظفي العلاقات العامة ويودون التعامل المباشر مع المصدر».

وفي حين قد يكون هذا صحيحا بالنسبة لعدد من الصحافيين الذين يرون في مسؤولي العلاقات العامة «حاجزا» أو «مصفاة» قد تحجب عنهم «زلات لسان» أو معلومات مهمة، فإن ما يشير إليه حميد الدين ليس مرتبطا بذلك إطلاقا، لأنه يقول إن الكثيرين يرغبون بعلاقات مباشرة مع المسؤوليين أو مديري الشركات (لأنه بإمكانهم عندها أن يطلبوا منهم ما يشاءون أو يجروا صفقات)، ويعتقدون أن مسؤولي العلاقات العامة يقفون عائقا في وجه تلك الاتفاقات. وفي حين يجمع البازعي وحميد الدين على ان بعض الممارسات السلبية التي ينفذها من يحسبون أنفسهم على قطاع العلاقات العامة لا يجب أن تكون هي الصورة المعممة عن الجميع (ولعل من المفارقات الطريفة أن يعاني هذا القطاع المعني بإدارة «سمعة» عملائه، من مشكلة سمعة)، فإن على الصحافيين دور كذلك.. فعلى سبيل المثال في المطبوعات والمواقع الإخبارية العالمية هناك تمييز واضح بين الأخبار الصحافية و«أخبار الخدمات»، حيث يكون هناك قسم خاص مثلا بالأخبار التي تبثها الشركات عن نفسها وهي تنشر على هذا الأساس (أي من دون توقيع صحافي أو اسم الصحيفة) مع إشارة إلى كون القصة بيانا صحافيا وفي مكان معين لا يمكن الالتباس بينه وبين التحقيقات أو القصص الصحافية المشغولة حقا.. ومن البديهي اعتبار أي مبلغ أو مكافأة مادية تدفع لقاء النشر، أمرا غير أخلاقي.

وفي حين من المعروف أن عددا من العاملين في مجال العلاقات العامة يعدون خبراء في «تحوير» القصص أو Spin doctors، فإن هذا يتطلب من الصحافيين مهارات إضافية، أقلها اعتبار البيان الصحافي او مسؤول العلاقات «أحد» مصادره وحسب، والتذكر دائما بأن كل مكالمة لشخص آخر أو معلومة إضافية، تساهم في جعل القصة أكثر اكتمالا.