الإعلام اللبناني.. ظالم أم مظلوم؟

الاصطفاف الطائفي حوّل مؤسساته إلى دمية للسياسيين

TT

يكاد المراقبون يجمعون على أن الإعلام اللبناني فقد البوصلة، ويرجحون ان السبب هو غرق المؤسسات الإعلامية في حالة من الاصطفاف خلف مالكيها أتاحت لخصومها استهدافها من دون أي مراعاة لحصانة قانونية او معنوية. وصار سهلا وضع أي مؤسسة في قبضة القضاء بمعزل عن كل ما يتغنى به اللبنانيون من حرية تعبير وتعددية وما الى ذلك.

ترجمة هذا الواقع بدأت مع مطالبة رئيس كتلة «التغيير والاصلاح» ميشال عون، بإحالة صحيفة «لوريان لوجور» إلى القضاء لنشرها عنوانا اعتبره «محرضا» يتعلق بإطلاق عناصر من «حزب الله» النار على طائرة مروحية للجيش اللبناني وقتل الملازم الأول سامر حنا، ومتابعته الهجوم على الصحيفة المذكورة أسبوعا تلو الآخر مع ضم مجموعة «المستقبل» الإعلامية الى دائرة الاتهام واستكمل استهداف الإعلام قبل أيام عبر إلقاء دائرة التنفيذ في بيروت حجزاً احتياطياً على موجودات شركة تلفزيون الجديد «نيو تي في»، وذلك بناء على حكم صادر عن محكمة المطبوعات، بعد شكوى تقدم بها وزير العدل السابق شارل رزق في يوليو (تموز) 2007 ضد الشركة والمديرة المسؤولة فيها مريم البسام، بتهمة القدح والذم ونشر أخبار كاذبة. وذلك على خلفية حلقة برنامج «الفساد» الذي تقدمه غادة عيد. وعلى الرغم من عدم الانتهاء من الملف القضائي، فإن إجراءات الحجز نفدت.

هذا الواقع يطرح معادلة تتعلق بأداء الإعلام اللبناني ومدى ابتعاده عن المهنية والموضوعية، كما تتعلق بأداء السياسيين الذين يعتبرون الإعلام سلاحا إما معهم أو ضدهم، وبالتالي يتمترسون للاستفادة منه او مهاجمته، أيضا بمعزل عن الوظيفة الأساسية للإعلام وأدبيات التوجه إليه واحترام حقوق العاملين في هذا القطاع.

علامة الاستفهام واضحة. وهي كانت الدافع ربما، ليشير رئيس الجمهورية اللبناني العماد ميشال سليمان في الجلسة الأولى للحوار الوطني الى دور الإعلام فيقول: «تبقى الأهداف الوطنية التي نتوخاها من هذا الحوار المسؤول عرضة لأخطار جمة، ويجب مواكبتها بمسؤولية إعلامية عالية تلتزمها جميع أطراف الحوار، وبمناخ إعلامي معافى يفصل بوضوح بين قدسية حرية التعبير وفوضى التراشق عبر وسائل الإعلام. فالنتائج المفرحة قد لا تبدأ بالظهور باكرا، وعلى العكس من ذلك فقد توحي أجواء التصريحات وعرض الهواجس ونقاشها بأن الحوار يتجه إلى الطريق المسدود، كما قد يوحي بذلك أيضا الفسحة الزمنية التي نحتاجها لإعلان نتائج إيجابية. وفي هذا السياق نعتبر أن جميع وسائل الإعلام اللبنانية معنية باحتضان الحوار الوطني بعيدا عن الشحن الطائفي والفئوي، ولا نراها إلا ملتزمة بالقوانين والأعراف المهنية، وساعية إلى تعزيز الوفاق والوحدة الوطنية».

رئيس المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع عبد الهادي محفوظ قال لـ«الشرق الأوسط»: «التمني على وسائل الإعلام الابتعاد عن الشحن الطائفي والفئوي لم يعد ينفع. المطلوب قرارات ومبادرة تستدرج المجتمع المدني والمجلس الوطني الى المشاركة في توجيه الإعلام نحو الهدف الذي أشار إليه الرئيس سليمان. ونحن معه ومع إعادة إحياء فكرة كان قد طرحها من اجل إقامة ورشة إعلامية لتصحيح هذه الأوضاع. الإعلام هو أخطر من الرصاص وهو يقود أحيانا إلى الرصاص».

وأضاف: «للأسف في مجال المرئي والمسموع لا يطبق القانون 382/94 والقاضي بفرض عقوبة إقفال جزئي على الوسيلة الإعلامية المخالفة. القانون لا يفرض غرامة على المخالفين ولا يسمح بالحجز على المحطة. لكن بسبب الانقسام السياسي والطائفي الحاصل، هناك عدد من المؤسسات للموالاة والمعارضة لديها حماية خاصة. أما المؤسسات غير الطائفية لا حماية لديها ويسهل استهدافها».

وأشار محفوظ إلى ان المؤسسات ذات الطابع الطائفي ترتكب تجاوزات وتخالف القانون أكثر بكثير مما تقوم به «نيو تي في»، لكن لا أحد يتعرض لها. كما أضاف ان ما كتبته «لوريان لوجور» قد يكون مبالغا به، لكن لا يجوز محاكمتها. وإذ أوضح «ان موضوعية الوسائل الإعلامية تحميها»، قال: «إن دور المجلس الوطني للإعلام في حماية هذه المؤسسات في ظل الانقسام الذي يحول دون تطبيق القانون يبقى استشاريا، لأنه لا يملك قرارا تنفيذيا. لذا ترفع توصياته كمرجعية، ويبقى على الجهات المختصة في الدولة ان تأخذ بها او ترفضها. لكن عندما تضيع المؤسسات تتحكم بها لعبة المحاصصات والتقاسم». واعتبر ان «معظم وسائل الإعلام تفتقد الى الموضوعية بسبب اللعبة السياسية، رغم ان وسائل الإعلام الخاصة لا تحترم فضاء بثها الذي يبقى حيزا عاما ولا يجوز انتهاكه بالشكل الذي يحصل. ولا يجوز ان ترتبط كل وسيلة إعلامية بخطاب سياسي يلغي الآخر، في حين يجب ان تحافظ الوسيلة الإعلامية على أسلوبها وليس على التزامها بمرجعيتها السياسية».

المدير المسؤول في صحيفة «لوريان لوجور» ميشال توما، اعتبر ان الهجوم الذي يشن على الصحيفة لا يعود الى عدم الموضوعية او الاصطفاف الحالي للإعلام. وإذ وافق على ان مثل هذا الهجوم يخدم الوسيلة الإعلامية دائما، قال: «استهدفت الصحيفة لأنها أزعجت النائب ميشال عون. نحن نكتب الحقائق وننشرها باللغة الفرنسية، حيث الجمهور الذي يؤثر فيه وفي حيثيته السياسية. وهذا ما يزعجه بشكل خاص. فالحقيقة وحدها تجرح». وإذ أشار إلى أن الصحيفة لا تنتقد عون بشكل شخصي ولا تعتمد أسلوب التجريح، وأكد انها تلتزم قضية وقيما لم تحد عنها منذ تأسيسها في مطلع القرن الماضي، وأضاف: «نحن نرفض التجريح الإعلامي من زاوية سياسية ضيقة وتموضع معين. نحن نجد ان ما يقوم به عون هو ضد مصلحة البلد، مع التأكيد أننا لا نخوض معاركنا دفاعا عن أشخاص أو أحزاب او موالاة او غير ذلك. نحن نقدم الحقائق ويبدو ان هناك من لا يتحملها».

وإذ اعتبر ان الاصطفاف الحالي في وسائل الإعلام سياسي وليس طائفيا، نبه الى «أن الإعلام ليس جزءا من السياسة. لكن حاليا الإعلام مسيّس بالمعنى الضيق للكلمة، بينما من المفروض ان يدافع عن قضية وموقف وليس ان يتحول شريكا يلتزم بهذا الزعيم او ذاك الحزب. وفعلا الإعلام الحزبي بالمعنى الضيق يستثمر في التحريض ويولّد جوا من الكره الإنساني والسياسي تجاه الآخر. فإعلام «حزب الله» مثلا له الحق بالدفاع عن قناعات الحزب ومشروعه، لكن لا يحق له ان يمارس الشحن الطائفي والسياسي ضد خصمه. وعندما يقول عون إننا نحرض، يبقى كلامه في غير موضعه. نحن نأخذ ثوابت وطنية ولا نتهجم. وما نشرناه عن مسألة مقتل حنا هو ما أورده مصدر وزاري. هذه هي أصول اللعبة. لا يمكن ان ننتظر انتهاء التحقيق لنكتب. مقتل الرئيس الأميركي جون كنيدي لم ينته التحقيق فيه حتى الآن. هل يعقل ان تلزم الصحافة الصمت حياله؟».

المديرة المسؤولة في تلفزيون «نيو تي في» مريم البسام، قالت: «إن الاصطفاف الطائفي والسياسي لوسائل الإعلام تسبب بما أصاب «نيو تي في» مع أنها ليست محطة طائفية. أما الملاحظة الأهم فهي سرعة التنفيذ التي تميزت بها الأجهزة القضائية في هذه القضية، على رغم وجود قضايا عالقة تخص المواطنين وحقوقهم منذ أكثر من ثلاثين عاما»، وأضافت: «لو كانت سرعة القضاء في إصدار الأحكام وتنفيذها تشمل كل الدعاوى، لكنا فهمنا. لكن المستغرب ان ينفذ حكم ولم يقفل ملفه بعد. قبل التنفيذ بفترة قريبة اجتمع محامي المحطة مع محامي الوزير السابق شارل رزق للبحث في المسألة، إلا ان ذلك لم يحل دون حصول الحجز، وكأن هناك خيطا رفيعا بين رزق والجهة المسؤولة».

واستغربت البسام سلوك الرقابة والأجهزة الأمنية، وقالت: «عندما تم بث مشاهد لمستودعات للأسلحة عبر محطتنا مع تصريح لأحد المواطنين يتهم فيه حزب القوات اللبنانية بامتلاك الأسلحة، تحركت المفرزة الأمنية وحققت مع المصور بشأن الكلام الذي تم بثه، ولم يتحرك احد لملاحقة أصحاب المستودع أيا كانوا. ثم المؤسف في ما يجري ان يصار الى استجواب الإعلامي من قِبل محققين في المباحث الجنائية وليس من قِبل قضاة محكمة المطبوعات. لكن يبدو ان الاصطفاف الحاصل فتح المجال للتطاول على المؤسسات الإعلامية». وأشارت إلى أن العاملين في الإعلام المرئي والمسموع في لبنان يفتقدون نقابة تحميهم وتشرح وضعهم، فهم غير مقبولين من نقابتي المحررين والصحافة، وقالت: «نحن جسم إعلامي غير شرعي في نظر القانون، لا مستندات او وثائق نقدمها للقضاء عندما نواجهه، وبالتالي يستطيع القانون ان يعاملنا وكأننا خارجون عنه وليس كأننا إعلاميون». واعتبرت أن «الإعلام أصبح أشبه بدمى يحركها السياسيون ويصطادها القضاء بشكل استنسابي. الجسم الإعلامي ترك نفسه يستباح ورضي بالتحول إلى أداة للسياسيين وصوت لهم، مع ان السياسة تتغير ويبقى الإعلام»، وأضافت: «هناك واقع لا يمكن تغييره. كل وسائل الإعلام حزبية وليست ريعية. لكن المطلوب ان تقدم مادة راقية ومثيرة للاهتمام تثير إعجاب الخصم بذكائها ومستواها العالي. لكن ما يؤذي الإعلام هو المواد السطحية والمبتذلة والخالية من الموضوعية».