ماذا يعني أن تكون «صحافيا استقصائيا»؟

محرر التحقيقات الاستقصائية في «نيويورك تايمز» يتحدث عن حيثيات وتفاصيل عمله

TT

يقود ماثيو بردي فريقا من الصحافيين والمحررين الذين يجرون تحقيقات استقصائية. ومنذ انضمامه إلى «نيويورك تايمز» في ديسمبر (كانون الأول) عام 1993، عمل بردي كمراسل صحافي في مدينة نيويورك، فكان مراسلا ومحررا لأخبار المدينة. وكان يكتب عمودا بعنوان «مدننا» في قسم أخبار المدينة لمدة أربعة أعوام قبل أن يصبح محررا في قسم التحقيقات عام 2004. قبل مجيئه إلى «التايمز»، عمل في جريدة «فيلادلفيا إنكويرر» لمدة 12 عاما. وفيما يلي نص حديث معه حول تفاصيل عمله:

> كيف تتخذ قرارا لتحديد ما تحقق فيه؟

ـ تحديد ما نحقق فيه هو أصعب قرار نتخذه. من الواضح أنه ليست هناك وصفة محددة، لكننا نهدف إلى كتابة موضوعات نشعر بأهميتها الشديدة، وأنها لن تكتشف إلا إذا كشفنا عنها نحن. أظن أن السؤالين اللذين نطرحهما من أجل تقييم التحقيق الذي يمكن إجراؤه: ما هي أهمية الموضوع؟ وما هو الجديد الذي نأمل في قوله؟.

إن التحقيق الصحافي مكلف في الوقت والمصادر، لكننا نرى أنه من أهم الأعمال التي تقدمها «التايمز»، لأن قراءنا يعتمدون علينا في التعامل مع الموضوعات المهمة بأسلوب جاد، وأيضا في الكشف عن المعلومات التي لا يمكنهم العثور عليها في أي مكان آخر.

> ما هي قواعد «نيويورك تايمز» المتعلقة بتشويه الحقائق (على سبيل المثال، عدم الصدق مع الأفراد الذين تتعاملون معهم أو التنكر) أثناء القيام بتحقيق؟ وماذا عن البلدان الأخرى حيث تختلف القوانين؟

ـ «التايمز» لديها مجموعة شاملة من القوانين الأخلاقية، لكن إذا اختصرناها إلى الوصايا العشر، ستكون أولى وصيتين فيهما: لا تكذب، ولا تفعل شيئا غير قانوني.

لا يسمح للمراسل بالاتصال هاتفيا بشخص ما على الهاتف وتسمية نفسه باسم مزيف، وأن يقول إنه يريد أن يسأل بعض الأسئلة من أجل شركة استطلاعات رأي مثلا، يجب أن يعرف مَن يجرى معهم الحوار دائما مَن الذي يتحدثون معه.

أما بالنسبة للجزء الثاني من سؤالك، لقد قطعنا شوطا طويلا في تحقيق التوازن بين اتباع القوانين وإجراء تحقيقات صحافية قوية. قد يكون هذا معقدا بشكل خاص في الدول الأجنبية، وسأعطيك مثالا حديثا على ذلك: أوضح دليل ظهر أثناء محاكمة أحد الإرهابيين في لندن، التي انتهت أخيرا، أن السلطات هناك كانت تراقب اثنين من المتسببين في تفجير 7 يوليو (تموز) عام 2005، قبل عام على الأقل من وقوع هذه الهجمات المدمرة، لكنهم لم يتتبعوا هذين المشتبه بهما. كانت هذه معلومات مهمة، لكن صدر أمر من محكمة بريطانية بحظر النشر حتى تنتهي المحاكمة. ومثل زملاءنا في الصحافة البريطانية، لم ننشر الخبر لمدة أشهر حتى صدرت الأحكام النهائية. يتطلب الأمر حذرا أكبر في الدول ذات قوانين صحافية قمعية، وفي هذه المناطق ليس من الممكن دائما للمراسل أن يتبع القانون بحذافيره وفي نفس الوقت يرسل تقريرا بالأخبار.

> ربما يكون محرر التحقيقات أكثر من أي صحافي آخر، يكثر من نقل أقوال على لسان مصدر لا يذكر هويته، لحمايته، لأن هذا المصدر قد يكون انتهك قانونا أو اتفاقية أو أيا كان الأمر مع صاحب عمله، بعدم إفشاء معلومات أو التعليق على أوضاع محددة. بمعنى أنه أيا كانت قيمة هذه المعلومات أو التعليق وأهميتهما، فإن هذا المصدر تصرف بسوء نية أو في بعض الحالات بشكل غير قانوني بإفشاء معلومات للمراسل الصحافي. السؤال هو: هل يشترك المراسل الصحافي في «الإثم» الذي قد يشوب هذه العملية؟

ـ إن هذا حقيقي، فأحيانا ما نحصل على معلومات من أشخاص يريدون عدم ذكر هويتهم لسبب أو لآخر. وغالبا ما يتعرض هؤلاء الأشخاص، مصادر المراسل، لخطر شخصي أو لمخالفة اتفاق عدم الكشف عن معلومات. قد يرى البعض هذا التصرف غير أخلاقي، لكننا نميل إلى رؤيته تصرفا شجاعا أو على الأقل ذا روح عامة. ومن الحقيقي أيضا أنه في بعض الأحيان تكشف المصادر عن معلومات على الرغم من إلزامها بعدم إفشائها. فيما يتعلق بمسؤوليتنا القانونية، تحكم المحاكم عامة بعدم إمكانية مقاضاة الصحف بسبب نشر معلومات حصل عليها المصدر بطريقة غير قانونية، طالما كان الموضوع في خدمة الصالح العام.

بعيدا عن الناحية القانونية، هناك مشكلة أكبر في الاعتماد على مصادر مجهولة الهوية ـ فالاستعانة بكثير منها يؤثر سلبا في المصداقية. في الحقيقة، كل مصدر لديه دافع وراء الحديث مع مراسل صحافي، لذا كلما زادت معرفة القراء بمصادر المعلومات، استطاعوا أن يقيموها بأنفسهم بطريقة أفضل. ونحن نحاول أن نحصل على تصريحات مسجلة من عديد المصادر، وأن تكون لمعلوماتنا «مصادر» معروفة، بدلا من إرجاعها إلى «مسؤولين» و«متحدثين رسميين» غير محددي الهوية. لا ننجح دائما في هذا، وعندما ننقل معلومة على لسان أحد لا يريد ذكر اسمه، غالبا ما نذكر السبب وراء ذلك.

لذلك لا أظن أن هناك «إثما» في أن يكون مصدرا غير مذكور الهوية، أو أن المراسل الصحافي متورط في الأمر. لكن اعتقد أنه عند استخدام معلومات من مصدر طلب عدم ذكر اسمه، يجب على المراسلين والمحررين أن يتفهموا دوافع المصدر وان يضعوها في الحسبان أثناء كتابة الموضوع.

> كم عدد المراسلين لديك؟

ـ يعمل في قسم التحقيقات في «التايمز» 12 دائمين، لكن هناك المزيد الذين يقومون بتحرير تحقيقات أو موضوعات مفصلة في نيويورك وواشنطن وحول العالم. > عند إجراء تحقيق ما، إلى أي مدى يحتاج المراسل أن يكون على علم أو معرفة بالموضوع الذي يحقق فيه؟

ـ يمضي المراسلون حياتهم في التعليم. فدائما ما يجدون أنفسهم يحققون في موضوع يعرفون عنه القليل. إذا تضمن الأمر مادة معقدة، مثل الميزانية العامة، أو مرض ما، أو تخصيب اليورانيوم، ستكون تجربة شاقة أن يحاول كتابة موضوع من أجل صحيفة اليوم التالي.

غالبا ما يكون لدى المراسلين الذين يعملون على كتابة تحقيق أو موضوع كبير أسابيع أو أشهر من أجل التعمق فيه. وهذا ليس وقتا كافيا لكي تصبح خبيرا، لكن يجب أن يكون وقتا كافيا من أجل إنتاج موضوع يحترمه الخبراء. وفي معظم الوقت، ليس خيالا أن تكون سريعا في معرفة موضوع جديد أو مكان جديد. يحتاج الأمر إلى الكثير من القراءة وإجراء المزيد من الحوارات. يتمتع أفضل المراسلين بالتواضع الكافي ليسألوا أسئلة «تافهة» (مرة أو مرتين، إذا لزم الأمر)، وهم أذكياء أيضا في معرفة ما لا يعرفونه، ويتميزون بالشجاعة في التخلي عن انطباعاتهم الأولى.

> ما هي مواصفات صحافي التحقيقات الناجح؟

ـ أفضل الصحافيين هم الذين يميلون إلى الشك، وليس المتشائمون بطبيعة النفس البشرية. فهم يجتهدون لفهم ليس فقط جانبي الموقف، لكن ليصلوا إلى الحقيقة القابعة وراءهما. كما أن لديهم قرون استشعار تلتقط المصالح الذاتية والنفاق. وهم طموحون في موضوعاتهم، ويريدونها أن تكشف عن أشياء جديدة، أو أن تأخذ القراء إلى مكان جديد، أو أن تسمح لهم بسماع أصوات لم يكونوا ليسمعوها بطرقة أخرى.

إن فكرة أن هناك فرقا كبيرا بين مراسلي التحقيقات والمراسلين الآخرين، أو بين التحقيق الصحافي وأنواع الصحافة الأخرى، أمر يشوبه سوء فهم. فالتحقيقات القوية ليست مجالا حصريا على صحافيي التحقيقات أو أقسام التحقيقات.

لكن يميل المراسلون الذين أمضوا مشوارهم الصحافي أو جزءا كبيرا منه في عمل التحقيقات إلى موضوعات عن الأفعال غير اللائقة والمظالم والأخطاء، ثم يقتلعونها من جذورها ليكشفوا من فعل ماذا بمن ولماذا. إن محرري التحقيقات مثل جميع الصحافيين الجيدين، يعرفون كيف ينتزعون المعلومات من المحاكم، وأقسام الشرطة، ووثائق لجنة الأوراق المالية والبورصة وبياناتها المسجلة على الكومبيوتر. ويفضل صحافيو التحقيقات ألا يخضعوا لمواعيد نهائية يومية، لكن يكون دافعهم في العمل هو الرغبة بالحصول على القصة «كاملة». وأحيانا ما تكون لديهم قدرة تحمل للملل والإحباط، الذي يزداد عند البحث في كميات كبيرة من الوثائق أو عند محاولة التغلب على عقبة عدم رغبة المسؤولين في الإدلاء بتصريحات. إنهم يستهدفون إساءة استخدام السلطة والأذى الذي يلحق بالأفراد. لكنهم لا يكتفون بتوضيحه، بل يريدون فضحه، وإذا أمكن، الإشارة بأصابع الاتهام إلى المتسببين فيه. إذاً، فهم يريدون تغيير شيء ما إلى الأفضل.

* خدمة «نيويورك تايمز»