بيروت تمسح أوشمتها

قرار «تاريخي» اتخذته المرجعيات بإزالة صور الزعماء وإعلاناتهم

TT

تختصر الصورة واقع الحياة السياسية في لبنان، «صور جدارية وشارعية» تجمع في متونها معالم وعوالم متناقضة ذات دلالات اجتماعية وثقافية مختلفة. وهي غالبا ما تحمل شعاراتها والوانها وتُظهر هوية المعنيين بها وطائفتهم وتوجهاتهم السياسية ومطالبهم وتقاليدهم وعاداتهم الاجتماعية، حتى انها تغني عن الخبر، والأهم أنها تشكل دليلا اعلاميا واعلانيا يرشد الى هوية كل شارع ومنطقة تولى أبناؤها مهمة «تزيينها، وباتت جزءا من هوية لبنان، حتى باتت كل صورة أشبه بوشم على جسد بيروت وغيرها من المدن».

وكانت «الوظيفة الصورية» في لبنان قد تكرست بشكل واضح منذ اغتيال الرئيس الحريري في فبراير (شباط) 2005، ومنذ ذلك الحين حملت الصور دلالات سياسية واجتماعية وطائفية في مختلف المناطق اللبنانية، ولا سيما في بيروت حيث معاقل الأفرقاء السياسيين والمناطق المختلطة، حتى أنها تحوّلت الى «سلاح فتّاك» كفيل باشعال أي فتنة لتتحول الى معارك متنقلة. كل يزيّن على ليلاه، من صورة الزعيم ورئيس الحزب الى العبارات الساخنة والأعلام الحزبية على اختلاف ألوانها، التي صارت من ضرورات «فوضى الشوارع». ومع الازمات السياسية المتلاحقة تحولت الصور الى مسلسل متفجر ومتنقل استمر سنوات وأوقع عددا من القتلى والجرحى. الا ان مفاعيله يفترض ان تنحسر باعلان «بيروت مدينة منزوعة الصور». اعلان لم يجعل صور الزعماء في« خبر كان» بشكل سريع وبقي لأيام معدودة غير قابل للتنفيذ في ظل مقايضات دخلت على الخط من الطرفين، ففي حين أبدى فريق المعارضة، الذي يضم كل من حزب الله وحركة أمل، استعدادهما لنزع الصور والشعارات من بيروت الادارية فقط، كانت مواقف تيار المستقبل في بيروت تشترط ازالة الصور المنتشرة على طول طريق المطار، على اعتبار أن هذا الطريق هو مدخل بيروت وواجهة لبنان، وبالتالي يجب ألا يستقبل السائح بصور مرشد الثورة الايرانية علي خامنئي والرئيس الايراني أحمدي نجاد والسيد حسن نصرالله، وبعد أخذ ورد وصل الطرفان الى حل وسط يقضي بنزع الصور من بيروت الادارية. حرب الصور هذه كانت قد شكلت خبز اللبنانيين اليومي واستخدمت في معاركها فنون المناصرين، الذين يضيفون تعليقاتهم وآراءهم التي تعكس الواقع السياسي، اذ اضافة الى الجهد الذي يبذلونه لانتقاء الصور وتعليقها وفقا لأهوائهم، فهم يرفقونها بأقوال وشعارات وردود على خصومهم لتدخل المعارك في مسلسل قد لا تنتهي فصوله. كذلك حصدت هذه الحرب عددا من «الشهداء» الذين سقطوا بسبب ولاءاتهم السياسية والمواجهات الفردية التي وقعت على خلفية تعليق الصور، وتحديدا في المناطق التي يجتمع تحت سقفها طوائف ومذاهب وأحزاب مختلفة. أما سبب الخلاف فقد لا يعدو كونه على خلفية تعليق صورة في زاوية هنا وعلى عمود للكهرباء هناك... لتبدأ المنافسة على اشدها بين مناصري الطرفين، الذين يلجأ كل منهم الى استفزاز الفريق الآخر عبر تكبير صورة زعيمه و«زجها» بشكل استفزازي في مواجهة الخصم، وعلى مداخل المناطق باسم أبناء هذه المنطقة أو تلك، لتشكّل في ما بعد حواجز من الصعب اختراقها الا برضى «مناصري المنطقة». يختصر الأستاذ في كلية الاعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية الدكتور علي رمال وظيفة الصورة في الشارع اللبناني. يقول: «هي تشكل نظام حماية كاملاً وعاملاً نفسياً يمنح المناصرين شعورا بالأمان واستفزازا للخصوم». ويضيف «الصورة التي تعلّق في الأماكن العامة هي تجسيد لشخصية يتعلّق بها الناس ويعتبرونها مواكبة لتفاصيل أيامهم. بعدما أصبحت في لبنان ناطقة باسم مرجعيتها السياسية والدينية والطائفية، مع ما يرافقها من أقوال وشعارات مرتبطة بهذا الزعيم او ذاك، الذي ينتخبه شعبه لمرة واحدة ولكنه يبقى حاضرا من خلال صورته معهم طوال أربع سنوات». الجولة في الشارع اللبناني تترجم ما قاله رمال، كما تحدد صورة هذا المجتمع الذي اعتاد أهله على أن اعلان محبتهم لزعيمهم من خلال الصور. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن هذه الصور تقتصر على من يملكون حيثية سياسية مهمة أو قاعدة شعبية واسعة، بل ان الخيار مفتوح على كل من راوده حلم الزعامة أو الترشّح للانتخابات النيابية لتتحول جدران بيروت الى فسيفساء جامعة. لكن يبدو ان الامر لن يتحقق بكبسة زر. فتحويل «بيروت منزوعة الصور والشعارات»، الذي بدأ يأخذ حيز التنفيذ بعد ساعات قليلة من اعلان الاتفاق، لا يلغي الواقع على الأرض الذي أظهر حقائق قد تشكّل عائقا أمام شموليته، ففي حين أزيلت الصور الكبرى من الشوارع الرئيسية، التي لطالما كانت مرمى لـ «حرب صورية» كصور الرئيس الشهيد رفيق الحريري والنائب سعد الحريري، التي كانت منتصبة على مدخل طريق الجديدة وصورة السيد حسن نصرالله رافعا يده مستقبلا زائريه على أحد مداخل شارع مار الياس في بيروت، لم تنزع كليا الصور والشعارات الخاصة بـ«حركة امل» ورئيس مجلس النواب نبيه بري الذي بقي مرتديا نظاراته الشمسية في موقف للسيارات مع شعار «للمقاومة قائد وللحوار فارس وللوطنية رائد». وفي منطقة الشياح ـ عين الرمانة في ضاحية بيروت الجنوبية، حيث يتمركز مناصرو القوات اللبنانية وحزب الكتائب لم يتغيّر المشهد كثيرا، اذا لا تزال الملصقات الخاصة بمناسبة الاحتفال بذكرى الشهيد بشير الجميل منذ حوالي شهر، وتلك الخاصة بالاحتفال الذي نظمته القوات اللبنانية في ذكرى شهدائها الاسبوع الماضي، محافظة على «رونقها وألوانها البهية» مقاومة مطر سبتمبر (أيلول).

أما الصور الصغيرة فيبدو أن الاتفاق لم يشملها حتى في بيروت الادارية، وبقيت شاهدا على تلك الحرب ورواسبها، التي قد تكون عصية على الازالة، فالجدران التي تغيّر لونها متحوّلة الى صفراء وخضراء والصور التي بهت لمعانها لأنها قديمة ولم يتم تجديدها، بقيت صامدة من دون تغيير او تبديل. وهي بذلك بقيت اشارات دالة على انتماء هذه المناطق، حتى انها في أحد جدران بربور اجتاحت العلم اللبناني واحتلت مكان أرزته صور بعض السياسيين والزعماء، كتلك التي زينت حائطا بصورة موسى الصدر ورفيقيه، وكذلك علم تيار المستقبل، الذي لم يرض الا أن يرفرف بموازة العلم اللبناني في منطقة طريق الجديدة حيث ايضا بقيت بعض الصور التي تجمع الرئيس الحريري بنجله سعد وشعار «باق في قلوبنا». ويعلق رمال على «المعارك الصورية»، التي افرزتها الصور أنه في حين يتعامل معها البعض على اساس عاطفي صادق يتعامل معها البعض الآخر على أنها الرمز بالنسبة اليهم، وأن ازالتها يعني هزيمة زعيمهم ومناصريهم. وبالتالي فان رفع صورة لزعيم ما في منطقة تضم أنصار خصومه فهذا يعني انتصارا لأبناء هذه المنطقة، كما أن الصورة العملاقة وأقوال صاحبها المرفقة بها تدل بالنسبة اليهم على عظمة الزعيم وتمنحهم شعورا بالاعتزاز. وهذا ما يعكس اسوأ أنواع الربح والخسارة التي تكون في مواجهة الشريك في الوطن». ويعتبر ان الصورة في لبنان لم تعد تشكل وسيلة اقناع، بل وسيلة تحد واستفزاز، بعدما تمترس كل فريق في وسائل اعلامه الخاصة التي تقوم بمهمة مخاطبة مناصريه واقناعهم. الشارع يترجم مرة اخرى ما يقوله رمال. فالقرارات التي يتخذها «الكبار» لا تلزم «عامة الشعب». فهؤلاء لن يتمكنوا من السيطرة على المزاج الشعبي، كما تدل شرفات اللبنانيين، حيث تطالعنا الصور المتدلية من الشرفات. فكل منزل يصطاد انظار المارة بصورة «رمزه و«زعيمه»، للتعبير عن آرائه السياسية علنا من دون أي رادع.

عالم الصور لم يكن استفزازيا في بيروت حتى في خضم الحرب الاهلية. ولم تكن الطاغية آنذاك صور السياسيين وزعماء الاحزاب، وانما صور الضحايا الذين سقطوا في لعبة الموت. يتذكر الحاج علي الحياة السياسية القديمة في لبنان أيام الرئيسين كميل شمعون وبيار الجميل، اضافة الى الشخصيات البيروتية التي كانت تجيد ادارة خلافاتها من دون ان تسمح للتشنجات بالوصول الى المرحلة التي وصلنا اليها اليوم. ويقول «لم تكن تشكل الصور هذا الدور الفعال في العمل السياسي، رغم أنه لم يكن هناك وسائل اعلام، وكان دورها محدودا ينحصر في فترة الانتخابات والانجازات الوطنية، لكن بالطبع لم تكن يوما فتيلا لاشعال معارك لأن الشعب كان أكثر وعيا والزعماء حينها كانوا خواجات ورجال سياسة بكل ما للكلمة من معنى». وفي هذا الاطار، توافق جمال من منطقة طريق الجديدة، على قانونية ازالة الصور والشعارات من الشوارع والأحياء. وتؤكد أن دواخل البيوت تخضع لقوانين مالكيها، وتقول «لن أنزع صور الشهيد الحريري ونجله من شرفة منزلي». من جهته، يشكّك ناجي بجدوى نزع الصور والشعارات الحزبية من بيروت، ويسأل «هل ستنزع هذه الصور من المناطق والاحياء البيروتية على اختلاف مشاربها أم أن الأمر سيقتصر على تلك التي سقطت بعد غزوة بيروت في 7 مايو (أيار) الماضي؟». ويضيف «ان هذه الخطوة لن تقدّم أو تؤخر في المشهد العام، نظرا الى أن بعض المجموعات المسلحة غير النظامية ستبقى منتشرة في الأحياء التي سيمحون منها هذه الشعارات»، لافتاً الى «انه حين يتولى الجيش والقوى الأمنية تنفيذ هذه المبادرة، فان المعنى واضح، وهو انه سيمكن لأي كان أن يعاود رفع هذه الشعارات في أية لحظة!». ويسأل عن مصير بعض الجدران التي تغزوها صور بعض المرجعيات الروحية والسياسية في ان واحد، «فهل ستحسب ضمن هذه المبادرة أم أنها معفاة منها؟».