بريد القراء.. عين أخرى على الصحيفة

تمرد على مساحته وحول القارئ إلى صحافي مواز

TT

تصدر الصحافة للقارئ، تتحايل وتتنافس وتدخل المعارك وتتلقى الضربات من أجل كسب صديق دائم يفتح لها أبواب المجد، وتساهم قروشه القليلة في إمدادها بإكسير الحياة. ومن هنا، وباعتباره هو «عميلها» فتحت أبوابها إليه راضية مرضية، يكتب فيها آراءه وشكاواه وآلامه، لعله يجد من يساعده على حلها أو يشاركه التفكير في ما يشغله. هكذا ظلت صحافتنا لسنوات تخصص بابا لسيدها صاحب الفضل في بقائها حية نابضة، بل لجأت بعض الصحف أحيانا إلى اختراع قراء افتراضيين تنال من خلالهم شرعية الوجود وصك الحياة.

أكثر من قرن هو عمر الصحافة في بلادنا وخلال هذه المدة تحول بريد القراء إلى عالم متكامل، له نجومه الذين تفوق شهرة بعضهم كتابا كبارا، نقرأ أسماءهم في صحف عديدة كل صباح.. ومن هؤلاء محمد حسين حجازي الذي يراسل عشرات الصحف منذ 48 عاما، حتى أطلق عليه جيرانه «مدمن جرائد» أو «مجنون أم كلثوم» لأنه يحفظ كل تاريخ أم كلثوم عن ظهر قلب، كذلك كلمات أغنياتها وقصص تأليفها، والأدهى أنه كثيرا ما يصحح معلومات الصحف الخاطئة المنشورة بشأنها. ولا يقتصر الأمر على إسهامه في التاريخ لسيدة الغناء العربي بل يسهم بانتظام في القضايا العامة. وعلى شاكلة حجازي هناك أيضا «جبرتي» بريد الأهرام، هذا الكاتب المتنكر تحت أقنعة عديدة، كل يوم يلبس ثوب القارئ الافتراضي، ويؤرخ لباب بريد القراء وموضوعاته في صحيفة «الأهرام» القاهرية.

لكن هذا العالم المتكامل بدأ يغير جلده الآن بفعل ثورتي الاتصالات والمعلومات، تغيرت ملامحه وكبر حجمه وتمرد مضمونه، وبدأ السطو على أقسام الصحيفة الأخرى.. وبرغم ركام هذا التغير ربما تذكر سيد الصحافة القديم أن له حقوقا منسية أراد استرجاعها بأثر رجعي فلم يستطع أن يقف في وجهه أحد. يحلل الدكتور محمود خليل أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة بعض ملامح هذا التمرد فيؤكد أن هناك تغيرات جذرية حدثت لبريد القراء على مستوى الشكل والمضمون ولفهم ذلك لا بد من العودة لأصل هذا الركن من أركان الصحافة فيقول: «إن أصل بريد القراء كان مجرد مساحة مخصصة ليعبر القارئ عن وجهة نظره في ما ينشر في الصحيفة، كما يعبر عن بعض أوجه معاناته ومشاكله لذلك ينظر إلى بريد القراء على أساس كونه مقياساً يحدد مدى تفاعل القارئ مع صحيفته».

وتابع خليل: «هذا التعريف كان سائدا في عصر سيادة ثقافة المطبوع، لكن بعد التحول الذي أصاب العمل الصحافي وظهور الصحف الإلكترونية والمواقع الإلكترونية للصحف المطبوعة بدأت تلك المساحات المخصصة للقارئ تزداد بصورة كبيرة، بل تطغى على مساحات المحررين وتحول القارئ إلى شريك ومتلق إيجابي وظهر مصطلح القارئ المحرِّر، فالرسالة الإعلامية اليوم أصبحت بمثابة شراكة بين القارئ والمحرر وهو ما أنتج الصحافة المواطنة citizen journalism وهي نوع من الصحافة يتيح لأي مواطن أن يقدم معلومات للغير وكانت أحد تجلياتها المدونات».

وقال خليل إن التكنولوجيا جعلت القارئ محررا محترفا لم يعد يقتصر اتصاله بالجريدة على بريد القراء بشكله التقليدي، ودلل على ذلك بما حدث أثناء انهيارات «الدويقة» بالقاهرة وكيف أن شهود العيان استطاعوا من خلال «الموبايل» أن يشكلوا من أنفسهم وحدات إعلامية كاملة تبث الحدث بكل تفاصيله.

لكن هذا التطور والمشاركة الفعالة للقارئ وتمرده على الشكل التقليدي لبريد القراء صاحبه بحسب تأكيد خليل «نوع من الفوضى الإعلامية والغوغائية التي تخاصم المنطق، جاءت بعد فترة حرمان إعلامي طويلة لم يذق فيها القارئ العربي طعم الحرية».

هذه الفوضى وفقا لخليل تتمثل في نوعية الآراء المطلقة والغرائزية والسطحية التي تسيطر على ردود القراء، فهي من وجهة نظره ردود غوغائية في أغلبها متأثرة بسيكولوجية القطيع أكثر من كونها ردودا جادة وناقدة وتساعد على حل المشكلات. وعن إمكانية اعتبار هذه الفوضى المسيطرة على أداء القارئ العربي مرحلة انتقالية بين الحرمان والمشاركة المسؤولة، قلل خليل من إمكانية حدوث ذلك، وقال إن ذلك لو حدث يعني صحة نظرية الفوضي البناءة الشهيرة في عالم السياسة، وأرجع تلك الفوضى التي يراها الآن في أداء القراء العرب إلى بنية العقل العربي نفسه التي يؤكد خليل أنها «مشوشة وتحيا حياة البين بين».

من جانبه يرصد خالد السرجاني مدير تحرير صحيفة «الدستور» اليومية التغير الذي طرأ على شكل ومضمون بريد القراء من زوايا أخرى فيقول: «بريد القراء أحد العناصر المهمة التي تساعد على توزيع الصحف لأنه يربط الصحيفة مباشرة باهتمامات القارئ ومشاكله، لذلك لا تصدر صحيفة من دون هذا الباب المهم، وقديما كانت بعض الصحف الحديثة الصدور تلجأ لفبركة رسائل من القراء لأنه ليس من المعقول أن يرسل القراء رسائلهم من الأعداد الأولى، أما الآن فالوضع مختلف، فلم يعد هناك قسم خاص للبريد نظرا لأن تعليقات القراء تكتب مباشرة تحت المادة المكتوبة من قبل المحرر في الطبعة الإلكترونية، لذلك سطا البريد على كل الصفحات ولم يعد محبوسا في ركن منفصل، بالإضافة إلى وفرة الرسائل التي تتحدث عن شكاوى وقضايا عامة من الممكن أن تمر على القائمين عن العمل من دون أن يلتفتوا إليها، لكن هذه الرسائل تذكرهم بها».

ولفت السرجاني إلى أن وفرة رسائل البريد كان السبب المباشر فيها الانترنت، وأتاح ذلك أمام هيئة التحرير في «الدستور» أن تصنفها وتنشرها في صفحات متخصصة بعنوان واحد عن قضية بعينها كفساد بعض رجال الأعمال مثلا أو إخفاقات الرياضيين وهكذا، فهي بحسب تعبيره مادة من مواد الرأي التي ينتظرها القراء ربما بشكل يفوق المواد التي تكتبها أسماء معروفة.

وفرة الرسائل أيضا التي أتاحتها التكنولوجيا كانت سببا في زيادة روافد القضايا والأحداث والأفكار التي تغطيها الصحيفة بحسب السرجاني، كما كانت سببا في زيادة اكتشاف صحافيين لديهم الموهبة الصحافية التي تمكنهم بمزيد من الصقل أن يصبحوا صحافيين محترفين، وضرب مثلا بصحافي زميل له في «الدستور» اسمه عيسى متولي كان في الأصل مجرد قارئ هاو أتاحت له مقدرته على الصياغة الجيدة لرسائل البريد أن يصبح صحافيا محترفا.

من ناحيته لفت الدكتور أحمد زكريا مدرس التحرير الصحافي بقسم الإعلام بكلية الآداب جامعة المنصورة إلى أن الشكل الجديد لبريد القراء لم يتح له فقط التمرد على حبسه في مكان ثابت في الصحيفة، بل كان سببا في تفاعلية الكاتب أو المحرر أيضا فيرد بنفسه على تعليقات القراء على قصته الصحافية أو مقاله كما أتاح للصحيفة عنصر المصداقية خاصة مع النشر المباشر لآراء القراء بسرعة كبيرة. وقد تتضمن هذه التعليقات نقدا لاذعا للمادة المكتوبة وهذا بالطبع يزيدها احتراما أمام القارئ.

وعن تجليات بريد القراء التي ظهرت بفعل ثورتي الاتصالات والمعلومات قال زكريا إن هناك بعض المواقع الإخبارية الشهيرة تتيح للقراء أن يرسلوا قصصا إخبارية وهو ما يعرف بصحافة الجمهور Public Journalism وبناء على ذلك يرسل القراء مئات الآلاف من القصص الإخبارية تتم «فلترتها» في مقر الصحيفة وينشر منها عشرات القصص والانفرادات المهمة، كل هذا يؤكد أن لبريد القراء في كل تجلياته مذاقا خاصا.