المهنة.. مندوب صحافي لدى جهة حكومية

تحولت إلى خدمة للمصدر على حساب حق القارئ في المعرفة

TT

حين تتصل بالهاتف لتحديد موعد مع مسؤول أو تطلب استفسارا من إحدى الوزارات أو الشركات الكبرى أو غيرهما من الجهات عن معلومة تساعدك في كتابة تقرير إخباري عن قضية ما، لا تتعجب حين تجد أن المستشار الإعلامي للمسؤول أو الوزارة أو الشركة أو الجهة، هو زميلك في المهنة، أي مندوب صحافي أرسلتْه صحيفتُه لتغطية أخبار الوزارة، فتحول بمرور الزمن إلى مندوب للمسؤول ووزارته في الصحيفة، لا العكس. أي أن المندوب الصحافي يتقاضى راتبا رسميا من صحيفته كونه مندوبا لها في الوزارة، ويتقاضى مكافآت غير رسمية من الوزارة أو الشركة كونه حاميا لها من الانتقادات وناشرا لـ»إنجازاتها» و»إنجازات» وزيرها، دون أي مراعاة لحق القارئ في المعرفة.. وفي مثل هذه العلاقات المقلوبة التي يعاني منها الوسط الصحافي المصري وبخاصة في السنوات الأخيرة، يتراجع دور الإعلام، وتبدو الصحافة أقل هيبة مما كانت عليه في الماضي. يحيى قلاش السكرتير العام السابق لنقابة الصحافيين المصريين قال إن الوصف الذي يطلقه البعض على مندوب الصحيفة في وزارة ما بأنه أصبح مندوبا للوزارة في صحيفته، مقولة قديمة، لكن كانت تعتبر من الأوصاف التي يمكنها أن تقضي على المستقبل المهني للصحافي، في ذلك الوقت، أما في الوقت الحالي فقد أصبحت فخرا لبعض الصحافيين وتجد أحدهم يتباهى بكونه انقلب من مندوب للصحيفة في الوزارة إلى مندوب للوزارة في الصحيفة أمام رئيس التحرير، بل إن بعض رؤساء التحرير أصبح يحث مندوبيه في الوزارات المختلفة لـ«تلميع» المصدر، وإبراز إنجازاته المزعومة مع نشر صورة للوزير أو المسؤول، خاصة إذا كان المصدر الخبري مصدرا للإعلانات أيضا. وعن السبب في تغير الحال أوضح قلاش: هناك أشياء كثيرة تغيرت في المجتمع المصري على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وبالتبعية أثَّرت تلك المتغيرات على المنظومة الصحافية التي قال إنها أصبحت تعاني من مشاكل عديدة، منها تغير النظرة للصحافة ودورها.. وعلى حد قوله.. «يبدو أن مسألة الاستقلال بالنسبة للصحافة آخذة في التراجع وتغلُب عليها فكرة الصناعة مثل صناعة السلعة، لا فكرة الرسالة التي كانت تؤديها لصالح توعية المجتمع وإنارة طريقه كما كان يحدث في الماضي.. المناخ العام بمصر في العقود الثلاثة الأخيرة ساعد على وجود هذه الحالة الإعلامية، فليس لدينا في مصر مشروع عام يلتف حوله المجتمع، وبالتالي لم يعد هناك دور واضح للصحافة سواء كانت قومية أو حزبية أو مستقلة».

وتابع قلاش قائلا إن هناك أسبابا أخرى لمثل هذا الخلل الإعلامي الذي لم يعد مقبولا في بلد كمصر تتميز بتاريخ صحافي حافل، ومن هذه الأسباب «التشوه التشريعي» الخاص بالصحف.. «توجد مجموعة تشريعات مُقيدة للنشر، ونظرة العديد من القوانين قائمة على تقييد حق النشر، حتى أصبحت الصحافة متهما وبات الصحافي متهما، وكل منهما عليه دائما أن يثبت العكس».

وقال: حتى الصحافة القومية (شبه الرسمية) في مصر والتي تحتل أكثر من 80% من حجم الصحافة الورقية المكتوبة في البلاد، حدث داخلها انهيار، ولو نظرت إلى ما حدث داخل غالبيتها من إفراز لكوادر جديدة، ومن طرق لاختيار تلك الكوادر في المواقع القيادية.. «في المؤسسات الصحافية لم يعد شرطا أن تأتي برئيس تحرير مهني كفء ذي حرفية إعلامية، بل أصبح شرط تولي هذا الموقع في العديد من المؤسسات هو أن تكون لديه القدرة على كتابة ما هو مطلوب سياسيا.. فمعايير استمرار رئيس التحرير في موقعه أو رحيله اختلت»، وبالتالي اختلت معها واجبات الصحافي والمندوب الصحافي في الوزارات والجهات المختلفة. وتابع موضحا أن الاعتبارات السياسية في اختيار رؤساء التحرير كانت موجودة عادة في ظل أي تنظيم سياسي، لكن كان هذا يصاحبه اعتبار للجانب المهني، و.. «في ظل هذا الضعف المهني للمؤسسات الكبيرة أصبحت أولويات عدد منها تختلف، وبالتالي الأولوية لم تعد هنا للخبر الذي يأتي به المحرر الصحافي المندوب في وزارة أو جهة، بل الأولوية هي أن يأتي بإعلانات لجريدته.. في ظل مثل هذه الأوضاع المقلوبة يمكن لوزير ما أن يمنع الصحافي المندوب في وزارته من الدخول لمبنى الوزارة بل بعضهم يتجرأ ويتصل بإدارة الصحيفة ويجبرها على تغيير المندوب.. أي أن الوزير بات ينتصر على الصحافي، وهذا الأمر أصبح معتادا، بينما كان في الماضي شيئا لا يتقبله الوسط الإعلامي ولا يرضى به». وقال قلاش: «لو رجعت 30 سنة للوراء ستجد أن المساس بالمحرر كان يقتضي اعتذارا من المصدر سواء كان وزيرا أو غيره من المسؤولين، وكانت الجريدة تؤيد مندوبيها وتدافع عنهم وهي التي تملك قرار استمرار أي منهم في تغطية شئون الوزارة أو استبداله بآخر، ومثل هذه القوة التي كانت تملكها الصحافة كانت تجعل المصدر يستوعب مهمة الصحافي ودوره، لدرجة أن بعض المسؤولين كانوا في الماضي يأتون للنقابة لتقديم الاعتذار عن إهانة لحقت بمندوب صحافي و.. «اليوم لو تكلمت بمثل هذا الكلام عن اعتذار المصدر وما أشبه سيكون في نظر الوسط الصحافي العام كلاما مضحكا.. الحالة العامة تتراجع، وفيها نظرة متربصة بالصحافة، ومن الطبيعي في حالة الضعف هذه أن تجد إحساسنا بالمندوب الصحافي بأنه تحول إلى مندوب للوزارة».

وأضاف قلاش: من قبل كان المندوب الصحافي يتحايل من أجل تمرير موضوعات تخدم الوزارة أو الجهة أو المصدر الذي أرسلته صحيفته إليه، لأن المندوب كان يدرك أن الانحياز للمصدر وموالاته خطأ مهني كبير، ولذلك كان رئيس التحرير يتدخل على الفور حين يلاحظ أن محررا ما بدأ يحتال لمجاملة المصدر وكان يتخذ من مثل هذا المحرر وقفة، حتى لا يكون مروجا لوزارة أو لمسؤول.. «كانت الخطوط واضحة، وكانت مهمة الديسك شمّ الإعلان من بين ثنايا الإعلام من طريقة كتابة الخبر.. أما اليوم فالمحرر يفتخر أمام رئيس التحرير بدوره في محاباة مصادره والوزارة التي يتابع أخبارها، هذا الدور المقلوب هو الشائع الآن، ومن يقوم به من مندوبي الصحف يكون محط تقدير وإعجاب أمام رئيسه في أغلب الأحيان». ويحظى الصحافي الخادم لمصدره على حساب استقلاله المهني، بالعديد من المزايا كمكافأة له ولصحيفته على مجهوداته ومجهوداتها المختلفة في «تلميع» المصدر، والدفاع عنه، ومن هذه المزايا، غير المكافآت المادية المعروفة باسم «كشوف البركة» التي جرت محاولة لم تكتمل للكشف عنها قبل ست سنوات، هناك أيضا الهدايا السنوية والموسمية، وكذلك إتاحة سفر المندوب الصحافي الموالي للوزارة ضمن سفريات المسؤول الخارجية والإقامة معه في الفنادق الكبرى ومنحه بدلات سفر أيضا، وفي المقابل حرمان المندوبين الصحافيين المشاكسين من هذه المعاملة وحجب المعلومات عنهم، وإظهارهم أمام صحفهم بالعاجزين عن معروفة ما يدور حولهم. «في اليوم الأول لي كمندوب لصحيفتي وبعد أن سلمت الخطاب وملأت استمارة التعرف، طلب مني مستشار لمسؤول الجهة التي سأغطي أخبارها لصحيفتي، أن نشرب فنجاني قهوة في مكتبه، وقال لي: لدينا شركات كثيرة تريد مجاملتنا عن طريق نشر إعلانات عنها في الصحف التي نختارها نحن، وإذا نسقنا هذا مع بعضنا بعضا فستفيد صحيفتك وتستفيد أنت أيضا..». هكذا أوضح صحافي مصري في إحدى الصحف الخاصة طالبا عدم الكشف عن اسمه، وأضاف:»قلت له إن موضوع الإعلانات من اختصاص إدارة الإعلانات من الجريدة، وليس من اختصاص إدارة التحرير، وبعد نشري لتحقيق عن مخالفات في مشروعات لتلك الجهة، تم تصنيفي على اعتبار أنني صحافي مش فاهم حاجة، وأنني مش مفتح دماغي، وبعد ذلك فوجئت بنقلي لمتابعة شئون النقابات، دون أن تخطرني الجريدة بالسبب، لكنني أعتقد أن السبب لا يحتاج إلى تأويل، لأن هذا ما يحدث عادة».

وفي سلسة مقالات أثارت ضجة واسعة في حينها كان أحد كبار الكتاب المصريين يهدد بنشر قوائم قال إنه حصل عليها تتضمن أسماء مندوبين صحافيين يتقاضون من الوزارات والجهات التي يغطون أخبارها مكافآت مادية وعينية أطلق عليها «كشوف البركة». وحتى يومنا هذا يُتهم مندوبون صحافيون علانية من جانب صحف منافسة، بأنهم تحولوا من صحافيين إلى مروجين للجهة التي يتابعون أخبارها، ويدللون على ذلك بموضوعات بعينها خاصة حين يثار الجدل حول قضية سياسية أو اقتصادية أو حقوقية بمصر أو خارجها. محمود نفادي رئيس شعبة المحررين البرلمانيين نائب رئيس تحرير صحيفة الجمهورية (شبه الرسمية) قال إن هذا الأمر تتحكم فيه شخصية الصحافي وتأهيله، فمن الممكن أن يتحول الصحافي من مندوب لجريدته في وزارة معينة إلى مندوب للوزارة في الجريدة، ويختلف هذا من مصدر أخبار إلى آخر.. كما يختلف من جهة يغطيها الصحافي إلى أُخرى، فعلى سبيل المثال هناك وزارات لديها موارد إعلانية، بمعنى أنها تحتاج بطبيعة عملها لنشر إعلانات في الصحف، ودائما يكون لديها مصدر إخباري واحد هو المسؤول الأول فيها وهو الوزير، وهذا النوع من الوزارات يختلف عن الوزارات السياسية التي لا تحتاج طبيعة عملها لنشر إعلانات في الصحف، مثل مجلس الوزراء ومجلس الشعب، كما إن هذا النوع الأخير من الوزارات والجهات تتميز بتعدد المصادر الإخبارية داخلا حيث لا يقتصر الأمر فيها على المسؤول الأول. أضاف نفادي إن الخلط بين الإعلان والإعلام دفع الكثير من المندوبين الصحافيين لأن يصبحوا أشبه بمن يمثل الوزارة التي يغطي أخبارها في صحيفته، لا العكس.. أي أن مندوب الجريدة في الوزارة هنا يتحول إلى مندوب للوزارة في الجريدة، يدافع عن وزيرها ولا يتعرض له ولا لوزارته بالنقد.. وهذا منتشر في الوزارات التي بها إعلانات، لأن الوزارة تعتقد أن الإعلانات التي تنشرها بمقابل مادي في الجريدة دعم منها للجريدة، ومصدر قوة للوزارة يحميها من النقد الذي قد يمارسه مندوب الجريدة لديها.. ولذلك تجد بعض المندوبين الذين يدركون هذه الحقيقة يفضلون إمساك العصا من المنتصف، حتى لا يتعرض أي منهم لمشاكل.

وقال نفادي إن بعض الوزارات، معتمدة على قوة ما لديها من إعلانات، أصبح لديها القدرة على تغيير المندوب الذي قد يفقد عقله وينتقد سياسة الوزارة أو وزيرها، مشيرا إلى أنه بات واضحا في الفترة الأخيرة اختفاء نقد المندوبين الصحافيين في العديد للوزارات التي يغطون أخبارها، وبحسب ما نراه في الفترة الأخيرة تستطيع أن تقول إن هذا النوع من المندوبين لم يعد يقتصر على بعض الصحف القومية (شبه الرسمية) بل أصبح منتشرا بين مندوبي صحف مستقلة (خاصة) وحزبية.

وعن رؤيته للحل قال نفادي: «لا بد من وقفة»، مشيرا إلى أن العلاقة بين المصدر ومندوب الصحيفة لا بد أن تكون مرجعيتها في نهاية المطاف «حق القارئ في المعرفة»، والمشكلة التي يواجهها بعض المندوبين الصحافيين هي أن الجهات المكلفين بتغطية أخبارها لا تراعي مبدأ حرية تداول المعلومات، وهذا يجعل المندوب المخلص في العمل لجريدته، ينقب عن الأخبار، ما يجعله يتعثر أحيانا في بعض الموضوعات التي لا تريد الوزارة أو الجهة أيا كانت كشفها، ولذلك، وأمام رفض المصدر مد الصحافي بأي إيضاحات عن الموضوع الذي يتناوله يجعله عرضة للوقوع في أخطاء، ومن هنا تبرز المشاكل بين الاثنين المصدر والصحافي.. واقترح نفادي أن تبادر الصحف بحماية مندوبيها عند نشره موضوعات معارضة للوزارة الفلانية أو الوزير العلاني.

ولا تقتصر هذه الظاهرة عند هذا الحد، بل تحول العديد من المندوبين الصحافيين لدى الوزارات والهيئات إلى رؤساء تحرير من الباطن، حيث يشرف معظمهم على منشورات صحافية خاصة بالوزارة أو الهيئة المكلف بالعمل لديها، وذلك في شكل صحف ومجلات شهرية، كما أصبح بعضهم يتولى خطط التنظيم والدعاية الإعلامية للكثير من الندوات والمهرجانات التي تنظمها وترعاها هذه الوزارات.. ويتحدث الوسط الصحافي المصري حاليا عن صحافي عادي، معتمد لدى مؤسسة ثقافية كبرى، تولى فجأة رئاسة تحرير مجلة ثقافية تصدرها المؤسسة، بعد رحيل ناقد أدبي كبير كان يتولى رئاستها.