عندما تحاصرك النيران

مراسل «الشرق الأوسط» في غزة يروي تجربة العمل تحت القصف

الدبابات الاسرائيلية تقصف غزة (رويترز)
TT

كانت الساعة الحادية عشرة صباحاً، كنت في مكتبي في الطابق الأرضي من البيت الذي يقع في حي «بركة الوز»، غرب مخيم المغازي، وسط القطاع، عندما شرعت في تحرير مقابلة أجريتها مع أحد المسؤولين، كان الهدوء مطبقاً، باستثناء زقزقة عدد من العصافير كانت تحط على غصن شجرة الزيتون الذي تمس فروعه نافذة المكتب. لكن لم يكد تمضي عشر دقائق، حتى دوى انفجار هائل في المكان، فإذا بجدران المكتب تهتز والنوافذ تتطاير في كل مكان، وعندما نظرت عبر النافذة المتحطمة، فإذا بكوة من اللهب والدخان تندفع في الفضاء صوب النافذة، فما كان مني إلا أن استلقيت على أرضية المكتب واندفعت نحو الباب، وما أن خرجت حتى دوى انفجار آخر أدى الى سقوط المكتبة، فإذا بالظلام يخيم على المنزل لكثافة الدخان، عندها تذكرت أن ابنتي أروى ثلاثة أعوام وإيناس 14 عاماً في الطابق العلوي من البيت، سمعت صرخاتهما، اندفعت صوبهما، وعندما احتضنت أروى، فإذا بانفجار ثالث يضرب المنطقة، شعرت عندها وكأن هذه الانفجار في المنزل، ورغم عجزي في البداية عن التصرف، إلا أنني حاولت أن أخفف روع ابنتي اللتين كانتا تتشبثان بي، بعد أن تحطمت النوافد والأبواب وامتلأ الجو بالدخان السميك، لدرجة اننا لم نعد قادرين على المكوث في البيت بسبب ضيق التنفس، أخذنا طريقنا للأسفل صوب الحديقة، ندوس على الزجاج بغية استنشاق الهواء. مضت عشر دقائق دون أن أعرف حقيقة ما حدث، لكن سرعان ما عرفنا أن طائرتين حربيتين إسرائيليتين نفاثتين قد ألقتا ثلاث قنابل تزن الواحدة منها طناً على موقع يعود لـ «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة حماس الذي يبعد عن البيت 200 متر. وهنا كان علي أن انطلق للاطمئنان على ولدي وابنتي الذين كان من المفترض أن يكونوا في طريقهم من المدرسة للبيت عندما وقع الهجوم الإسرائيلي، الذي زاد القلق لدي أن اطفالي يمرون في طريق عودتهم بالقرب من أحد مراكز الشرطة الذي تعرض للقصف أيضاً، لكن ما أن قطعت مسافة 50 متراً حتى رأيت ثلاثتهم عائدين، فأدخلتهم البيت وحاولت تخفيف روعهم. وبعد ساعة كان علي أن أشرع في العمل لإعداد تقارير حول ما حدث وتداعياته، لكن التيار الكهربائي كان قد انقطع، كان لدي مولد كهرباء اشريته حديثاً تحسباً لأي طارئ من هذا القبيل، لكن لم يكن لدي وقود لتشغيله، ولم يكن من الممكن أن اغادر لمدينة غزة للعمل في مكتبي هناك، حيث أنه الى جانب أني افترضت أن التيار الكهربائي قد قطع هناك أيضاً، فان الأوضاع الأمنية والقصف المتواصل جعل هذه الفكرة مخاطرة كبيرة. وعندها أخبرني شقيقي أن له صديقا يقطن في قلب مخيم «المغازي»، يملك مولداً وأنه بإمكاني التوجه عنده لإنجاز العمل هناك، وبالفعل توجهت برفقة أخي الى هناك وقام الرجل بتشغيل المولد وشرعت في العمل وأنا في مزاج نفسي صعب للغاية، حيث كنت مضطرا للاتصال بالبيت بين الفينة والاخرى للاطمئنان على الأولاد، وفي ساعات المساء عدت للبيت، بعد أن استطعت شراء كمية من الوقود لتشغيل المولد في الأيام القادمة، حيث تبين لي أن انقطاع التيار الكهرباء سيرافقنا مدة طويلة بعدما تبين أن هذا اليوم هو أول ايام حملة «الرصاص المصهور» التي تشنها إسرائيل ضد حكم حركة حماس في القطاع.

في ظل انقطاع التيار الكهربائي وضعت آلية للعمل تقوم على الانشغال في الصباح ببلورة أفكار العمل والشروع في اعدادها عبر كتابتها على الورق، ومحاولة متابعة تطورات العملية العسكرية الإسرائيلية، بحيث تكون المتابعة ميدانية إذا حدثت تطورات في المنطقة الوسطى من القطاع التي أقطن فيها عبر زيارة مناطق القصف وإجراء المقابلات مع الأشخاص ذوي الصلة، أما التطورات التي تقع خارج المنطقة الوسطى والتي لا يمكنني الوصول اليها، فأتابعها عبر محطات الراديو فضلاً عن الاتصال بالناس الذين يقطنون هذه المناطق الى جانب الاستفسار من المسؤولين والزملاء الصحافيين في المناطق الأخرى. وبعد الساعة الثانية بعد الظهر أقوم بتشغيل المولد وأشرع في تحرير المواد، وفي نفس الوقت متابعة التطورات المتلاحقة وتضمينها للمواد التي أعدها، في الساعة الخامسة يتوجب علي أن انهي العمل، وذلك لتوفير الوقود، مع العلم أنه لم يعد هناك وقود في القطاع بعدما قصفت إسرائيل الأنفاق التي يتم خلالها تهريب الوقود. في بعض الأيام يعود التيار الكهربائي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وعندها استغل ذلك وأقوم بمحاولة تحرير بعض التحقيقات التي لا ترتبط بالحدث اليومي، حتى أقلص الحاجة لاستخدام المولد، ولتقليص الضوضاء الكبيرة التي يحدثها والتي من الصعب معها على المرء أن يعمل بشكل طبيعي.

لكن تعقيدات العمل في ظل القصف لا تقف عند انقطاع التيار الكهربائي وما ينجم عنه من صعوبات، بل يتعداه لتدهور الشعور بالأمن الشخصي وتأثيره على القدرة على العمل. الجمعة الماضي اتجهت الى مستشفى «شهداء الأقصى»، المستشفى الوحيد الذي يقدم خدماته للفلسطينيين في المنطقة الوسطى من القطاع لمعاينة أوضاع المستشفى وقدرته على التعامل مع العدد الكبير من الجرحى في ظل الحصار المفروض، أنا ومعظم الناس لا يتحركون بسياراتهم الخاصة خوفاً من التعرض للقصف، فحاولت العثور على سيارة أجرة لنقلي للمستشفى الذي يقع على مسافة 7 كلم، وبعد طول انتظار على شارع صلاح الدين الذي يربط شمال القطع بجنوبه، عثرت على سيارة أجرة، لكن السائق ابلغني أنه سينزلني على مسافة 2 كلم من المستشفى، حيث أنه يريد مواصلة الطريق نحو مدينة «دير البلح»، ترددت ثم وافقت. وبعدما نزلت من السيارة واخذت اسلك الشارع المتجه نحو المستشفى، فإذا مروحية عسكرية من طراز «اباتشي» تطلق صاروخاً صوب الحقل الذي يتاخم الشارع للمستشفى وعلى بعد 50 مترا مني، فيحدث ارتطامه بالأرض انفجاراً مدوياً، فوجدت نفسي انبطح على الأرض مكرراً النطق بالشهادة، ولم تمض لحظات حتى أطلقت نفس المروحية صاروخاً آخر لكن هذه المرة كان سقوطه قريباً مني، فإذا بالتراب المنبعث من الانفجار يغطي ملابسي، ظللت منبطحاً على الأرض حتى غادرت المروحية سماء المنطقة وواصلت طريقي نحو المستشفى. إلى جانب ذلك، فإن تتالى الأحداث والتطورات بسرعة يجعل من الصعب السيطرة على تغطيتها وتصنيفها، ويزيد الأمور تعقيداً حقيقة اختفاء معظم المسؤولين الذين من الممكن أن يتوجه اليهم الصحافي في الوضع الطبيعي، مثل الوزراء والمسؤولين الحكوميين وممثلي الفصائل الذين نزلوا تحت الأرض، ناهيك عن عدم القدرة على الحصول على معطيات دقيقة، ومن تبقى من المسؤولين، لا سيما في القطاع الصحي يزودون الصحافيين بمعلومات مختلفة بسبب حالة الإرباك وإشكاليات الاتصال بين الدوائر المختلفة. وعادة ما يكون المزاج الشخصي في الحضيض بسبب الخوف، فرغم مرور 13 يوماً على تواصل عمليات القصف، إلا أنني لم استطع التأقلم مع هذا الواقع، سقوط صواريخ الاحتلال وقذائفه على منازل أشخاص لا علاقة لهم بالمقاومة يجعلني مثل كل الناس هنا يشعرون بالخوف من أن تسقط إحدى القذائف على منزلي، فضلاً عن أنه عندما تسقط الصواريخ والقذائف في محيط البيت وهذا يحدث عدة مرات في اليوم، يتوجب علي أن اترك العمل لكي أخفف عن أولادي ومحاولة طمأنتهم. فعند تواجدي في المستشفى وأنا أعاين جثث القتلى الملقاة على أرضيات الغرف بعد أن امتلأت ثلاجات الموتى بالجثث، والجرحى الذين يوشكون على الموت لصعوبة أوضاعهم أو لعدم وجود إمكانيات طبية، فإنه بالإضافة للألم الذي يعتصر قلبي لهذه المشاهد، فإنني لم استطع التحرر من الخوف من أن يحدث هذا لأبنائي.