تغطية التنصيب.. تجربة استثنائية في كل شيء

مراسلون أمضوا الليلة في مكاتبهم.. وتحولوا إلى جيش من المشاة وسط الحشود

TT

أن تجد نفسك وسط بحر متلاطم من البشر، الأمر ليس مثيرا. أن يكون هذا البحر المتلاطم قد اندلق في مساحة لا تتعدى ثلاثة كيلومترات، المسألة ليست استثنائية. أن يكون البحر المتلاطم مثل قوس قزح، يضم سودا وبيضا وصفرا يرتدون أزياء وقبعات بكل الألوان، هذه أيضا ليست جديدة في «بلاد الأحلام»، لكن أن تحمل هاتفا و حاسوبا محمولا وتعمل وسط هذه الأمواج! هذه هي التجربة غير المسبوقة بالنسبة إلي على الأقل. كان صراخ الناس يتحول أحيانا إلى موجات زعيق هستيرية، خصوصا عندما وقف باراك أوباما أمام القاضي ليؤدي القسم، ويردد الجمل القصيرة، بل ويتلعثم في أول جملة بسبب رهبة الموقف. أن تجلس وسط هذه الحشود لتكتب أو تتحدث في الهاتف، يحتاج إلى الأمر إلى مهارة وشيء من اللاوعي وغير قليل من اللامبالاة بما يدور حولك، حتى تستطيع التركيز وأنت تكتب على الحاسوب.

معظم المراسلين الأجانب الذين توجد مكاتبهم في مبنى الصحافة الوطني، الذي يبعد بضعة أمتار عن شارع بنسلفانيا الرابط بين مباني الكابيتول والبيت الأبيض، أمضوا ليلة الاثنين - الثلاثاء في مكاتبهم. ناموا هناك لأن جميع الطرق والجسور بين واشنطن وولاية فرجينيا، التي تعد مرقدا كبيرا لسكان العاصمة، أغلقت منذ ليلة الاثنين. قطارات الأنفاق بدورها كانت تعمل في اتجاه واحد. في الفجر، والفجر هنا ليس مجازا بل هو الفجر دون خيوط بيضاء، بدأت الكتل البشرية تزحف نحو ساحة «ناشونال مول». البرد قارس يصك الأسنان.

كانت هناك ثلاثة أنواع من شارات الصحافة، الشارة الأولى تتيح لحامليها تغطية الحدث من نقطة الكابيتول، أي من داخل وخارج الكونغرس، وحاملو هذه البطاقة حصلوا عليها قبل أكثر من شهر، في حين سمح للمراسلين المعتمدين لدى الكونغرس بأن يكونوا ضمن هذه المجموعة. الشارة الثانية هي التي أتيح لأصحابها تغطية الاستعراض الذي جرى في الشارع الذي يفصل بين حديقة لافاييت والبيت الأبيض، أما الشارة الثالثة فهي التي تسمح لحامليها بالتحرك في شارع بنسلفانيا، أي في المسافة الفاصلة بين الكابيتول والبيت الأبيض. كنت ضمن جيش من «المراسلين المشاة» الذين يتجولون بين الحشود. ومعظمهم من الصحافيين العاملين مع الإذاعات والصحف. مراسلو التلفزيونات، خصوصا الشبكات الرئيسية، كانت يعملون من نقاط ثابتة. شبكة «سي إن إن» نصبت 102 من الكاميرات بين الكابيتول والبيت الأبيض، وفي أي نقطة مجموعة من الصحافيين، وفي بعض الأحيان ضيوف متحدثون،كما أقاموا استوديوهات وسط الحشود، واستعملوا تقنية متقدمة يمكنها أن تعزل صوت الجمهور وهتافاتهم عن أصوات المذيعين وضيوفهم. حاولت جاهدا أن أفهم كيف تعمل هذه التقنية، حتى أكتب عنها، لكن لم أعرف تفاصيلها. شبكة «إيه بي سي» نصبت نحو 112 كاميرا في نقاط ثابتة. الشبكات الأميركية كانوا كرماء مع «المراسلين المشاة»؛ قدموا لنا وجبات خفيفة وقهوة ساخنة وسمحوا لمراسلي الإذاعات باستعمال الخيام التي نصبوها من أجل إرسال مراسلاتهم الصوتية، لتفادي زئير الناس في الخارج. كما وفروا لنا كراسي وطاولات صغيرة لاستعمال الحواسيب. وبعض الشبكات نصبت شاشات عملاقة لنقل وقائع حفل التنصيب في الكونغرس، وخطاب باراك أوباما. قناة «بي آي تي»، وهي قناة خاصة بالسود، والتي ليست لها إمكانيات الشبكات الكبرى، كانت توزع قهوة ساخنة على الحشود، في حين وزعت شارات صغيرة على المراسلين كتب عليها «غطيت حفل التنصيب» (I covered the inauguration).

لم يكن صعبا على أي مراسل تسجيل هتافات الجمهور ورصد تعابير الوجوه. السود المنفعلون كانوا يبكون، وبعضهم كانوا في حالة ذهول، ومعظم الذين سألتهم كانت إجاباتهم متقاربة، يمكن تلخيصها: «هذا شيء لا يصدق». البيض كان فضولهم عارما، الشباب المؤيد لأوباما كانوا يصيحون صيحات الإعجاب عندما يقترب منهم الصحافيون، اللاتينو كانوا في معظمهم صامتين، وهم عادة يميلون إلى الانزواء. أما الهتافات التي ظل الناس يرددونها، فلا تخرج عن هتافين: الأول صياح هستيري بكلمة واحدة: «أوباما... أوباما... أوباما»، ثم جملة أوباما التي دخلت التاريخ: «نعم نستطيع» (Yes we can).

تغطية الحدث من شارع بنسلفانيا كانت سهلة، وصعبة، في الوقت نفسه. سهلة لأن قوات الأمن العلنية والسرية، وهم نحو 40 ألف رجل، كانت متساهلة جدا معنا، ما إن يدركون أنك صحافي حتى يسهلوا انتقالك من متر إلى آخر، نعم، من متر إلى آخر، وهي مسافة طويلة جدا في يوم سيكون له تاريخ يروي عبر الأجيال. وكانت التغطية صعبة أيضا لأن الناس كانوا في حالة انفعال شديد، يقولون كلاما يصعب نقله إلى الورق، كلاما أحيانا يتحول فقط إلى زعيق، قد يصلح للإذاعات، لأنها عبارة عن مشاعر متداخلة، يختلط فيها الفرح الغامر بالحزن الشديد. فرح غامر لأن «حلم» مارثن لوثر كنغ قد تحقق، وبزيادة، إذ دخل البيت الأبيض رجل أسود. وحزن شديد لأن الناس، خصوصا الذين تجاوزت أعمارهم الستين، عاشوا أياما صعبة في تاريخ أميركي معيب، كان مطعم صغير فيه يرفض تقديم وجبة لرجل لأنه أسود، كما قال أوباما وهو يتذكر «سنوات الجمر» التي عاشها والده حسين أوباما في أميركا.

كانت اللحظة الاستثنائية، هي تلك التي راحت فيها الأمواج البشرية تستمع لخطاب أوباما، الذي ثبت بالملموس بأنه لا يجد نفسه إلا وسط الجماهير، فقد تلعثم في عبارات القسم، لكنه ألقى خطابا من أقوى خطابته السياسية، ولم يخطئ ولو مرة واحدة. وميزة أوباما أنه يستطيع مخاطبة أعظم العقول، ويستطيع مخاطبة أبسط العقول أيضا، وفي الحالتين فإنه يظل على مستواه الرفيع. يستطيع أن ينقل إليك فلسفته بأي لغة... بلغة الحكماء أو بلغة العامة، الذين غصت بهم جنبات شارع بنسلفانيا. تجربة تغطية الحدث المدوي من شارع بنسلفانيا، استثنائية في كل شيء. عندما خرجت من الشارع مشيا على الأقدام ولمسافة طويلة جدا، تذكرت عبارة جودي غارلاند من فيلم «ساحرة أوز»، وسأعدل العبارة لتصبح «... لدي شعور بأنني لم أعد في هذا العالم».

* مدير مكتب «الشرق الأوسط» في واشنطن