صحف المسنين في مصر.. مرآة لمجتمع يدير ظهره لهم

تحقق نسبة توزيع مرتفعة في الغرب

صحف المسنين عملة نادرة في المجتمعات العربية («أ.ف.ب»)
TT

في السنة الأخيرة لهم في كلية الإعلام بجامعة القاهرة عام 2003 اجتمع 11 طالبا وطالبة للبحث عن فكرة غير مطروقة لتنفيذها كمشروع للتخرج. بعد كثير من البحث و«فلترة» الأفكار، استقر الجميع على تنفيذ مجلة للمسنين. كان لمعان العيون وصيحات الثناء وبكارة الطرح دوافع مهمة للمضي في تنفيذ المشروع، بدأ المجتمعون في اختبار الفكرة، فتبين لهم أن شريحة المسنين وقتها تقترب نسبتها من 10% من سكان مصر، شريحة مهملة في «الميديا» ولا يلتفت أحد لحاجاتها، فقط صفحة أسبوعية من صحيفة الأهرام وست ساعات يوميا في إذاعة الكبار. ولَّدت الاجتماعات الدورية للزملاء وبحثهم الميداني عن كل ما له صلة بالمسنين أفكارا خلاقة، تحولت إلى موضوعات ممتعة تآخت على صفحات المجلة التي حملت اسم «أعز الناس». وتضمن العدد أشياء كثيرة عن عالم المسنين، من تحقيق عن طب المسنين وتخصصاته العديدة، إلى مقاهيهم وفنانيهم المفضلين، إلى «رباط الونس»، وهي جمعية تهتم بتزويج الكبار ممن تقتلهم الوحدة. وكان اللافت كما يقول أحمد عبد المقصود رئيس تحرير المجلة فوز المجلة بالمركز الأول، وكافأتهم مؤسسة الأهرام بتخفيض تكلفة الطباعة من 17 ألف جنيه إلى 11 ألف جنيه، ثم نال كل منهم جائزته من الكلية وهي 36 جنيها فقط.

يتابع عبد المقصود: بعد أن تخرج الطلبة، لم يمت حلم تنفيذ مشروعهم في حياتهم العملية الجديدة، عرضوا الفكرة على رجل أعمال شهير، لكنه لم يتحمس لتنفيذها، واعتذر الصحافيان لويس جريس وإسماعيل النقيب عن رئاسة تحريرها لظروف خاصة، ومع انغماسهم في الحياة العملية خفت بريق حلم العمر، وذبلت أوراقه الخضراء، وبقيت معاناة المسنين بلا رصد وتحليل حقيقيين، وظلت شريحتهم بلا صوت إعلامي يرعى متطلباتها، على عكس وضعهم في الغرب، حيث تسجل صحف المتقاعدين أعلى نسبة اشتراكات في أميركا تحديدا. صحف المسنين عملة نادرة في مجتمعاتنا العربية، هذا واقع لا ينكره أحد، له أسباب عديدة، بعضها يتعلق بنظرة المجتمع العربي لهم وفلسفة تعامله معهم، لكن الأفق ما زال متسعا لمخاطبتهم، فبحسب الدكتور شريف اللبان الأستاذ بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، فإن العالم حاليا يتجه بشكل كبير للإعلام المغرق في التخصص، وتنبهت لذلك كبريات الصحف والمجلات في العالم، و«التخصص لا يعني الموضوع فقط، بل أيضا الشرائح العمرية، والبعد الجغرافي أيضا، إضافة إلى ما يعرف بتخصص التخصص في الموضوع، فلم تعد هناك مجلة رياضية فقط، فهذا المسمى أصبح لمجلة عامة، وهناك الآن مجلات للجولف وأخرى للتنس أو كمال الأجسام وهكذا، فالاتجاه الآن لم يعد التوجه للجمهور الضخم، كما كان هو الحال قبل 10 سنوات سابقة، لقد أصبحت هذه المجلات تتوجه للجمهور النوعي وتكرس لذلك بطرق ووسائل فنية متنوعة وجذابة..المسنّون جزء من تلك الفئات المهمة التي تحتاج لإشباع حاجاتها الإعلامية».

في الغرب الواقع مختلف، تروج صحف المسنين على عكس مجتمعاتنا العربية وخاصة مصر، وفسر اللبان هذا التناقض بقوله: «الأمر يتعلق بفلسفة المجتمع تجاه هؤلاء، ففيما تنظر إليهم المجتمعات الغربية كرواد أفنوا سنين عمرهم في خدمة وطنهم، وقدموا عصارة خبراتهم لراحة الأجيال التي تليهم، وتقدم لهم الرعاية من كل نوع، يحدث العكس تماما في مجتمعاتنا، فنحن نعيش في مجتمعات تدير ظهورها للمسنين وتعتبرهم عالة عليها، وتتعامل معهم وفق منطق «خيل الحكومة» الذي يتم التخلص منه برصاصة بين حاجبيه عند تقاعده عن العمل».

ويشدد اللبان على أن الإعلام مرآة للمجتمع، مشيرا إلى أنه إذا ازدهرت صحف الجريمة في بلد ما، فهذا دليل على أن نسبة الانحراف فيه زائدة، وبالمثل، إذا قلت نسبة صحف المسنين، فهذا دليل على إهمالهم، كما أن «المسن في مجتمعاتنا في الأغلب لا يتصالح مع نفسه كنتيجة لقمع المجتمع له، ويهرب من هذا المسمى وكل ما يتعلق به، لأنه اقترن في ذهنه بمفهوم العالة».

وهناك سبب آخر لاهتمام الغرب بالمسنين ككتلة جمهور حيوية، بحسب اللبان، وهو ارتفاع متوسط الأعمار هناك بشكل أكبر من مثيله في المجتمعات العربية، وهو ما يتيح تكون كتلة لها خصائصها المتفردة التي يمكن أن يضعها الإعلام في حساباته وهو يبحث عن حاجاتها.

ويربط الدكتور هشام عطية أستاذ الصحافة بجامعة القاهرة بين ندرة صحافة المسنين في المجتمعات العربية وبين غياب التخطيط لإصدار الصحف أو وسائل الإعلام كصناعة هدفها الربح، مشيرا إلى أن «هدف إصدار الصحف أو تدشين المحطات الفضائية سياسي في الأغلب الأعم ، ومن هنا، لا وجود للتخطيط الاقتصادي الذي نصادفه في الغرب، وهو تخطيط يضع في اعتباره فئات الجمهور العمرية، واهتماماته، والعادات القرائية وغير ذلك من العوامل، فحتى الميزانيات ليست شفافة، وسرية في أحوال كثيرة».

وشخَّص عطية الحالة الإعلامية العربية حاليا بأنها «تعاني من غياب فقه الأولويات الصحفية، وليس المسنون فقط هم الغائبون، بل الشباب أيضا، والمرأة، وفئات عديدة تستقبل خدمات إعلامية لا تناسب حاجاتها ولا تشبعها».

وعلى الرغم من الواقع السيئ لصحافة المسنين في المنطقة العربية، فإن عطية شدد على أنها مجال واعد ومضمون النجاح، «خاصة أنها تخاطب فئة اعتادت أن تتعامل مع النسخ الورقية، بعكس الأجيال الشابة، ولديها متسع من الوقت لقراءة الصحف، كما أنها كتلة كبيرة من السكان ولديها مشاكل شائكة عديدة من الممكن أن تساهم الصحافة في حلها والاشتباك معها».

وفي تفسيره لندرة صحافة المسنين في المنطقة العربية، أرجع الدكتور أحمد زكريا أحد أسبابها إلى غياب الوعي الإعلاني، «فالصحافة قائمة على الإعلان، والمعلنون ينظرون لتلك الشريحة المسنة على أساس انتهاء عمرها الافتراضي، وفي الأغلب لا تملك أموالا كافية لشراء السلع، فيخشون الإعلان في صحف لهم، أما في الغرب فالوضع مختلف، لأن صحف المتقاعدين هناك قائمة على الاشتراكات».

ويصف زكريا المفهوم السابق بالقاصر «لأن هناك سلعا عديدة يهتم بها المسنون من الممكن الإعلان عنها، كما أن هناك موضوعات تهمهم، ومنها على سبيل، زواج الونس، والبحث عن مستحقاتهم المالية الضائعة، وكل هذه الموضوعات ينبغي التعامل معها بدقة وشفافية، ولا يتم التعامل معها على سبيل العطف، وسد الخانة».