الفضائح.. نفايات الصحف الصفراء أم كنوزها؟

تشكل تحديا للصحف التقليدية.. وتعتمد قاعدة «الأخبار هي المعلومات التي يرغب الأشخاص في كبتها»

TT

دون وجود «ناشونال إنكويرر»، لم تكن إليزابيث إدواردز ستجلس أبدا مع أوبرا وينفري لمناقشة مسألة خيانة زوجها لها وكتابها الجديد بهذا الشأن. من جهته، علق إدواردز على التقارير الصحافية التي تناولت هذا الموضوع بقوله: «هذا لن يغير حياتي بأي شكل من الأشكال»، وذلك في إشارة إلى تقارير صحافية وصفتها وينفري بأنها صادرة عن صحف «صفراء» أشارت إلى أن المرشح السابق لمنصب نائب الرئيس، جون إدواردز، قد يكون له ابن غير شرعي. ومع تسرب أخبار من المقابلة التي أجرتها وينفري بصورة مسبقة إلى وسائل الإعلام، أعلنت «ناشونال إنكويرر» أن وينفري ذاتها لم يبق من عمرها «سوى ثلاث سنوات فقط!». وتحت العنوان الرئيسي، شرحت الصحيفة أن هذه التكهنات أطلقها «خبراء» اعتمادا على تاريخ وينفري في اتباع حميات غذائية وفقدان الوزن ثم اكتسابه مجددا على نحو متكرر، وإدعاءاتها بمعاناتها من مشكلات في الغدة الدرقية، علاوة على تقديرات طبيبين لم يتفحصا النجمة الإعلامية قط. والملاحظ أن وسائل الإعلام المرموقة لا تخوض في مثل هذا النمط من التكهنات المبهمة حول حياة الأفراد. كما أنها تجنبت الخوض في قصة العلاقة المزعومة بين جون إدواردز وريل هنتر، حتى أجبرتهم «ناشونال إنكويرر» على ذلك. ويعد هذا هو السبب وراء الانتقادات الموجهة إلى «الصحافة الصفراء»، وفي الوقت ذاته السبب وراء استمرار وجودها، ذلك أنه رغم عدم قيام أي جهة أخرى بما تقوم به، فإنه في بعض الحالات تظهر الحاجة إليها. والمؤكد أنه عندما تتحول صورة شخص ما إلى سلعة ـ مثلما هو الحال مع جون إدواردز، المليونير ذي الأصول الاجتماعية المتواضعة ـ فإن فكرة الخصوصية والذوق العام تتحول إلى جزء من جهود التسويق. أما الصحف الصفراء، فنظرا إلى وقاحتها وتطفلها، تتمكن من سبر أغوار الحقيقة وراء مثل هذه الصور بأسلوب تعجز عنه وسائل الإعلام التقليدية. وقبل أن يتحول اللفظ إلى سبة، كانت «الصحف الصفراء»، ولا تزال، مصطلحا يشير إلى شكل معين للصحف أصغر من الشكل المعتاد ويباع بسعر أرخص يشكل تحديا للصحف التقليدية كبيرة الحجم. والآن، تحول مصدر التحدي الأكبر للصحف التقليدية إلى شبكة الإنترنت المتميزة برخص تكلفتها على نحو بالغ وإمكانية الاستعانة بها في كل مكان، ما أجبر الصحف التي كانت تتميز بمكانة كبرى في يوم من الأيام على تقليص حجم نسخها المطبوعة حتى باتت تقترب في الشكل من حجم الصحف الصفراء سيئة السمعة. جدير بالذكر أنه في الأسبوع الماضي، عقدت لجنة شؤون التجارة التابعة لمجلس الشيوخ جلسات استماع حول «مستقبل الصحافة» ـ حيث جرى تناول قضية ما إذا كانت ستتوافر مساحة إلى الصحف التي يقوم فكرها على احترام حقوق المواطنين والتي تتكبد خسائر مستمرة حاليا في ظل البيئة الإعلامية الجديدة التي يغلب عليها الاهتمام بالآراء ووجهات النظر والمفتوحة أمام الجميع؟ وإذا ما رغبت «وسائل الإعلام التي تمثل تراثا»، مثلما جرى وصف الصحف التقليدية المرموقة خلال جلسة الاستماع تلك، في البقاء على قيد الحياة لفترة أطول عما توقعت به «ناشونال إنكويرر» بالنسبة إلى أوبرا، فإن عليها تعلم بعض الدروس المستفادة من كيفية اضطلاع الصحف الصفراء بعملها. يُذكر أنه داخل القاعة الرئيسة لـ«واشنطن بوست» توجد لوحة معلقة تضم «قائمة بالمبادئ الصحافية» التي أيدتها الناشرة الراحلة للصحيفة «إيوجين مير». وينص أحد هذه المبادئ على أنه «باعتبارها جهة نشر للأنباء، ستلتزم الصحيفة بمراعاة آداب السلوك التي يتعين على النبلاء التزامها». على أرض الواقع، كان من العسير انتقاد المعايير والممارسات التي تميزت بقدر كاف من النشاط مكن من التعامل مع قصة «ووترغيت»، لكن هذه القاعدة لا تحمل الكثير من الإرشاد والتوجيه في ما يخص كيفية التعامل مع الأوغاد والانحرافات التي يقترفونها ـ خصوصا عندما تكون هذه الانحرافات غير خاصة على نحو كامل وغير علنية على نحو كامل أيضا. من بين المبادئ الأخرى التي أقرتها وثيقة مير قول الحقيقة: «على ذات النحو تقريبا الذي تم التحقق به من الحقيقة». وعليه، أصبح واضحا أن أحد السبل المؤدية للخروج من العمل بالمجال الصحافي ممارسة الكذب. من ناحية أخرى، عند بداية الكشف عن مسألة ارتباط إدواردز بقصة عاطفية خارج إطار الزواج في أكتوبر (تشرين الأول)، أكد المتحدث الرسمي باسمه في تصريحات أدلى بها لـ«ناشونال إنكويرر» أن هذه الأقاويل: «كاذبة، ومحض هراء»، وجاء ذلك في وقت كان المرشح لا يزال يخوض فيه منافسة محتدمة تمكن من الوصول خلالها إلى المركز الثاني، متقدما على هيلاري كلينتون، داخل ولاية أيوا. وفي مواجهة هذا النفي القاطع، استشهدت الصحيفة بـ«مصدر مقرب من السيدة» و«رسالة بريد إليكتروني تحوي مفاجآت مدوية» لدعم ما وصفته بأنه «مزاعم مفزعة، حال اتضاح صحتها». إلا أنه من ناحيتها، تفضل وسائل الإعلام المرموقة الاعتماد على عبارات أرقى من «حال اتضاح صحتها». لكن مثلما هي الحال مع القصة المتعلقة بأوبرا، فإن «ناشونال إنكويرر» حرصت على استعراض عملها ومجهودها فحسب، بمعنى أنه إذا لم يرُق لك التقديرات ونتائجها، فلست مضطرا إلى تصديقها. وبعد تسعة شهور، عندما كان مراسلو «ناشونال إنكويرر» يطاردون جون إدواردز داخل ردهات «لوس أنجليس هوتيل» في منتصف الليل، بدأت المصادر المجهولة التي تستعين بها الصحيفة تبدو أكثر إقناعا. يُذكر أن الصحافيين العاملين لدى صحف غير صفراء يتعين عليهم تجنب الاعتماد على مصادر مجهولة فيما عدا الظروف التي تفرض محاولة التخفيف من حدة الموضوع. إضافة إلى ذلك، لا تقبل مبادئ هذه الصحف دفع أموال للمصادر مقابل الحصول على معلومات، بينما يعد هذا الإجراء واحدا من الممارسات الشائعة لدى الصحف الصفراء. وفي الوقت الذي دائما ما تتعرض فيه القاعدة الأولى لانتهاكها، يجري الالتفاف حول الثانية، خصوصا من قِبل منتجي البرامج التلفزيونية الساعين للحصول على أنباء صحافية حصرية. لكن يسود اتفاق واسع النطاق حول أن هذه القواعد صائبة من حيث المبدأ. بيد أن ذلك لا يعني أن التوجه الذي تنتهجه الصحف الصفراء يتعذر الوثوق به في جوهره، فعلى سبيل المثال أكدت «ناشونال إنكويرر» أن المصادر التي يجري دفع أموال لها قد تكون أكثر استحقاقا للثقة من الأخرى التي لا يتم دفع مال لها، وذلك لأن سبب تحدث مثل هذه المصادر إلى وسائل الإعلام صريح ومباشر. المعروف أن «ناشونال إنكويرر» حصلت على صورة لـ«أو جيه سمبسون» وهو يرتدي حذاء طراز «برونو ماغلي» من مصدر حصل على أموال. يُذكر أن سمبسون أصر خلال محاكمته بتهمة القتل على أنه لم يسبق له ارتداء مثل هذا النوع من الأحذية قط. وحتى الصحافيون الرافضون لدفع أموال مقابل الحصول على أخبار صحافية قد يعترفون بأن التمييز بين المصادر المجهولة والأخرى المعروفة ليس بذات القدر من البساطة الذي تصوره المبادئ المتبعة من قِبل الصحف المرموقة. ويرى البعض أن فكرة التعامل مع التصريحات المسجلة باعتبارها مؤشرا على الحقيقة لا تعدو كونها خرافة جذابة.

على سبيل المثال، يمكن النظر إلى مسألة أفول نجم جورج ستينبرينر، حيث قضت صحف نيويورك شهورا، إن لم يكن سنوات، في الاعتماد على التصريحات المطبوعة لوكيل الدعاية الخاص بستينبرينر، كما لو أنها تخص رجل الأعمال الشهير ذاته. وفي الوقت ذاته، وصف مراسل يُدعى فرانز ليدز، كان يكتب لحساب «كوند ناستبورتفوليو»، مقابلته لستينبرينر في منزله وهو يرتدي البيجاما في وسط النهار، وبدا مشوشا. ورغم أن هذا الأمر من قِبل الصحافي جرى النظر إليه باعتباره منافيا لآداب اللياقة، فإنه لم يحدث إلا بعد الكشف عن أن أبناء ستينبرينر أنفسهم بدؤوا في التحدث علانية باعتبارهم المالكين الجدد لفريق «نيويورك يانكي» لكرة السلة. ومن الممكن أن تشكل هذه الفجوة بين ما تعلمه وسائل الإعلام (أو تشتبه في أنها على علم به) وما تجري الإشارة إليه فعليا من قِبلها دعوةً مفتوحةً للتورط أكثر في أفعال طائشة بالنسبة إلى من ينجحون في الفرار من تسليط الأضواء عليهم. في الواقع، يتمثل السبب الأكبر وراء فقدان بيل كلينتون للرئاسة في مبالغته في تقدير حدود ما يمكن لوسائل الإعلام غض الطرف عنه. ودائما ما فاقت جهود الصحف الصفراء في كشف النقاب عن علاقاته العاطفية خارج إطار الزواج في سرعتها ما ورد في السجلات العامة الرسمية، لكن بحلول الوقت الذي شرعت فيه «ناشونال إنكويرر» في جمع معلومات تفصيلية حول مونيكا ليونيسكي، كان الخط الفاصل بين الأخبار العامة والأخرى الخاصة قد تلاشى. وحتى بعد ضبطهم متلبسين بارتكاب تجاوزات، يصر الأفراد على استغلال ميل وسائل الإعلام إلى التحفظ، حيث يعترفون بالحد الأدنى من التجاوزات الذي يعتقدون أن بإمكانهم الإفلات من العقاب من خلاله. على سبيل المثال، عند مواجهته بتقرير يثبت فشله في اجتياز اختبار للعقاقير المنشطة عام 2003، اعترف نجم فريق «يانكي»، أليكس رودريغيز، بأنه تعاطى عقاقير تعمل على تحفيز الأداء آنذاك على سبيل التجريب لا أكثر، لكن «ثبت عدم تعاطيه مثل تلك العقاقير» من ذلك الحين. وبالمثل، اعترف جون إدواردز بأنه مر بنزوة قصيرة الأمد فحسب مع ريل هنتر، وأن ذلك حدث فقط عندما كان مرض السرطان الذي تعاني منه زوجته في حالة انحسار. وحتى الآن، ينفي إدواردز إدعاء «ناشونال إنكويرر» بأنه أنجب طفلا غير شرعي من هنتر. وعن هذا الأمر قالت إليزابيث إدواردز في حديثها لأوبرا: «إنه لا يبدو مثل أطفالي، لكن ليست لدي أدنى فكرة عن حقيقة الأمر». وعندما تنجح مثل الاعترافات الجزئية، فإن نجاحها يعود إلى عدم ارتياح وسائل الإعلام المرموقة إزاء الاضطلاع بدور المدّعي، أو حتى القاضي، ذلك أن الصحافة المهنية الموضوعية تتطلع نحو الحيادية، تماما مثل قاعة المحكمة، حيث يمكن للأطراف كافة الدخول والإدلاء بدلوهم. وتقوم هذه الصحف على مبدأ ضرورة تجنب التأكيد على حقيقة ما، ناهيك عن التوصل إلى نتيجة معينة، إذا كان شخص آخر يمكنه القيام بذلك نيابة عن الصحيفة. أما «ناشونال إنكويرر» فتخلص إلى النتائج بنفسها، ولا تخجل من إعلانها على صفحاتها كافة. وتتبع الصحيفة المقولة التي ينسبها البعض إلى لورد نورثكليف من «ديلي ميل» البريطانية، وينسبها آخرون إلى روفين فرانك من محطة «إن بي سي»، حول أن الأخبار هي تلك المعلومات التي يرغب الأشخاص في كبتها. ويتمثل هدف الصحيفة في اجتذاب أكبر عدد ممكن من القراء والاستعداد في الوقت ذاته للدفاع عن نفسها داخل ساحة القضاء. ويعني ذلك أن «ناشونال إنكويرر» يتعين عليها التمسك بقدر بالغ من الوضوح حيال ما تقوله وسبب قولها له. ويمكن مقارنة تغطية «ناشونال إنكويرر» لقضية إدواردز بالتشوش الذي اتسمت به تغطية صحيفة «نيويورك تايمز» العام الماضي لقصتها حول جون ماكين وفيكي أيزمان، المعنية بجهود الضغط، فبدلا من القول بأنه تجمعهما فضيحة جنسية، قالت الصحيفة إن مستشاري ماكين شعروا بالقلق إزاء «الصورة الظاهرية التي توحي بوجود صلة وثيقة» بين الاثنين. على الجانب الآخر تعامل منتقدو الصحيفة مع هذا التقرير باعتباره هجوما ذا دوافع حزبية ضد ماكين، بل ووصف أحد كبار مستشاري ماكين، ستيف شميدت، الصحيفة بأنها أصبحت أشبه بالصحف الصفراء، بقوله: «إنه أمر تتوقع مشاهدته في (ناشونال إنكويرر)، لا (نيويورك تايمز)». من ناحيتها، قاضت أيزمان الصحيفة، ثم توصلت إلى تسوية، ونشرت هيئة تحرير الصحيفة مقالا قصيرا كان أكثر إرباكا من القصة الأصلية. لكن أكثر ما ميز القصة رغبتها البالغة في التزام الحياد وعدم إبداء ميل تجاه حزب بعينه، وهي رغبة بلغت في قوتها حدا جعل الصحيفة تنسى الفكرة الرئيسة التي سعت لتوصيلها للقارئ من وراء نشر القصة.

وفي إطار صحافة التحقيقات، لم تكن هذه القصة بأقل كفاءة من تلك التي نشرتها «نيويورك تايمز» الخريف الماضي حول سكن جو بايدن في منزل فخم وأنه «على ما يبدو استفاد» من كونه سيناتورا أميركيا (رغم أنه «لم يخرق أي قوانين»). وإذا كانت تلك هي فكرة إحدى الصحف البارزة عن التغطية الصحافية الحقيقة، فعلي البحث عن المزيد من الأصدقاء المجهولين. وما بين توجه الصحف الصفراء والأخرى المرموقة، يمكن التوصل إلى توجه للتجسس للتعرف على الحقيقة.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»