معركة إعلامية بين «بي بي سي» الفارسية ومسؤولي طهران

لم تفلح الجهود الإيرانية في الطعن بمصداقيتها أو التشويش عليها

اتهامات حكومية لـ«بي بي سي» الفارسية بتأجيج الاحتجاجات التي صاحبت الانتخابات الرئاسية في إيران («نيويورك تايمز»)
TT

لندن، كما يصفها آيات الله الحاكمون في إيران، فإن القوة الرئيسية التي تخطط لإنهاء الحكم الإسلامي في البلاد ليست في شوارع طهران ولكنها في الأدوار العليا من مبنى أرت ديكو الشهير في وسط لندن.

وتتكون مجموعة «مروجين» ـ كما أطلقت عليهم وكالة الأنباء الإيرانية شبه الرسمية ـ لأخبار الحرب الشاملة ضد الجمهورية الإسلامية من 140 رجلا وامرأة يعملون في شبكة «بي بي سي»، التي تقع بالقرب من شارع أكسفورد الذي يُعتبر قِبلة التسوق في لندن.

وفي الأساس، كان الإيرانيون المغتربون ـ الذين يعملون في المحطة الفارسية لشبكة «بي بي سي» التلفزيونية ـ يظهرون على الهواء مباشرة لمدة ستة أشهر متواصلة ويخاطبون جمهورا يوميا يقدر من ستة إلى ثمانية ملايين إيراني، وهو ما يعد عددا كبيرا من المشاهدين بالنسبة إلى تعداد سكان إيران الذي يصل إلى سبعين مليونا.

وتأتي تقديرات أعداد المشاهدين وفقا لبعض المطّلعين على الأمور في «بي بي سي» من تقرير أعدته شركة لخدمات البث خاضعة لإدارة الدولة الإيرانية وتم تسريبه، كان يحذّر قبل اندلاع الاضطرابات التي حدثت في إيران من الخطر التي تمثله القناة الجديدة.

وتقع (بي تي في) ـ كما يطلق عليها العاملون في غرفة الأخبار في لندن ـ على رأس ذلك النوع الجديد من الثورات السياسية مثل التي اندلعت في طهران، حيث أرسلت الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها والتي جرت قبل أسبوعين عشرات الآلاف من المحتجين إلى الشوارع زاعمين حدوث تزوير في الانتخابات التي أسفرت عن إعادة المنافس المتشدد محمود أحمدي نجاد إلى السلطة.

وفي تلك الاحتجاجات، كان النظام السياسي العتيق يترنح تحت وطأة أسلحة جديدة فتاكة: المحطات الفضائية التي تقع مقرات قيادتها في الخارج مثل «بي بي سي» والتي يصل بثها إلى إيران وأدوات الشبكات الاجتماعية مثل «تويتر» وبعض المواقع مثل «فيس بوك» الذي يعمل كدفتر لتدوين الأحداث اليومية للاضطرابات وكمنتدى لتنسيق أنشطة الاحتجاج وكمكان لبث مقاطع الفيديو التي تم التقطاها بالهواتف الجوالة والتي تسجل لقطات المواجهة في طهران وتنقلها إلى الجمهور في أنحاء العالم كافة، والأكثر أهمية هو نقل تلك المشاهد إلى داخل إيران نفسها.

يقول سينا موطالبي (36 عاما) الذي يرصد عوامل التفاعل لتغطية قناة «بي بي سي» في غرفة أخبار لندن: «إنه بلد مختلف تماما الآن نظرا إلى وسائل الإعلام الجديدة».

وكان موطالبي الذي يدرك سلطة التكنولوجيا الجديدة وإصرار الحكومة الإيرانية على قمعها، من أكثر المدونين المعادين للحكومة شهرة في عام 2003، وقد اعتقلته الحكومة لمدة قصيرة في سجن إيفين الشهير بطهران مع المجرمين والمغتصبين والمجرمين الآخرين.

وقد اكتسب عدد آخر من العاملين بقناة «بي بي سي» خبرتهم الأولى من العمل في الصحف الإصلاحية أو المدونات في طهران.

وقد أشارت الحكومة إلى عدة قنوات إخبارية أجنبية بسبب ما أطلقت عليه «تغطية منحازة»، ومنها «سي إن إن» التي تُبَثّ باللغة الإنجليزية بالإضافة إلى «صوت أميركا» و«بي بي سي» التي تُبَثّ في إيران باللغة الفارسية، اللغة الرسمية للبلاد.

وكما يقول المسؤولون في «بي بي سي» فإن قناة «بي بي سي» التي تُبَثّ باللغة الفارسية تم اعتبارها التهديد الرئيسي، جزئيا، لأن ماضي بريطانيا الاستعماري أكسبها موقعا خاصا في الديموغرافية الرسمية في إيران. وقد وصف حامد رضا موقدمفار رئيس وكالة أنباء «فارس» شبه الرسمية، تغطية القناة بأنها «حرب نفسية»، وقال إن مهمتها الأساسية كانت «نشر الأكاذيب والإشاعات وتشويه الحقائق».

بل إن صحيفة «فاتان إمروز» الموالية لأحمدي نجاد قد ادّعت أن جون ليان مراسل «بي بي سي» في طهران الذي طُرد من إيران يوم 21 يونيو (حزيران) استأجر «سفّاحا» لقتل ندا أغا سلطان، المرأة الشابة التي أصبحت شهيدة في نظر المحتجين بعد وفاتها إثر إطلاق الرصاص عليها خلال المظاهرات.

وقد أجرى التلفزيون التابع للدولة لقاءات مع بعض المتظاهرين الذين قالوا إن القناة الفارسية أثّرت عليهم ودفعتهم للنزول إلى الشوارع، فقالت إحدى السيدات إن القناة أوحت إليها وإلى ابنها بالنزول إلى الشوارع مسلحَين بالقنابل اليدوية. وقالت امرأة أخرى إن تقرير القناة حول هجوم قوات مكافحة الشغب على المتظاهرين دفعها إلى النزول إلى الشوارع ولكنها وجدت أن المتظاهرين لا قوات الشرطة هي التي «تضرب الناس».

وقد دفعت تلك المزاعم بابتسامة حزينة إلى وجوه طاقم العمل في لندن، فيقول روب بينون القائم بأعمال مدير قناة «بي بي سي» الذي تم تعيينه قبل عامين والذي قام بإنشاء القناة وتدريب العاملين من الإيرانيين والأفغان الذين تولوا تدريجيا المهام الموكلة إليهم: «إذا كنت أبث أي شيء يصطبغ بالصبغة السياسية فإنني أكون حينها لا أؤدي وظيفتي بفعالية».

وعلى الرغم من أن الإذاعة والمحطات التلفزيونية التي تبث بلغات أجنبية من شبكة «بي بي سي» تمولها وزارة الداخلية البريطانية ـ تقليد بدأ حينما كانت بريطانيا إمبراطورية ـ فإنها تخضع مثلها مثل عمليات «بي بي سي» كافة لميثاق المؤسسة وتعهدها بأن تعمل كمؤسسة محايدة ومستقلة سياسيا.

وتقدر ميزانية القناة الفارسية السنوية ـ التي تبث أيضا إلى متحدثي الفارسية في أفغانستان وطاجستان ـ بـ25 مليون دولار.

ويقول بينون (51 عاما، وخريج جامعة كامبريدج) إن الحياد يصبح ضرورة خاصة في حالة مثل حالة الاضطرابات في إيران، وهذا يعني عمل اللقاءات مع مؤيدي أحمدي نجاد أينما كانوا، وهي مهمة صعبة للغاية لأن الحكومة تمنع المسؤولين من الحديث إلى القناة.

وعادة ما نعرف وجهة نظر الحكومة من وكالات الأنباء الرسمية أو الصحف الموالية للحكومة، ولكن الثلاثين دقيقة المخصصة للبث الإخباري تم تخصيصها الأسبوع الماضي لأخبار التنمية السياسية في طهران مع وجود فواصل لعرض تقارير حول سياسة التفجيرات الأميركية الجديدة في أفغانستان والرياضة والحالة الجوية لإيران وأفغانستان.

ويتم تجميع معظم الأخبار الصحافية التي تأتي من طهران من مقاطع الفيديو التي تصور بالهواتف الجوالة وتصل إلى القناة من طهران عبر البريد الإلكتروني.

ويقول الخبراء في الشؤون الإيرانية الذين كانوا يتابعون برامج القناة عبر شبكة الإنترنت إنها نجحت في المهمة الصعبة وهي طرح وجهات نظر محايدة لتطورات الأحداث التي كانت محل خلاف بين الإيرانيين. وفي هذا الإطار يقولون إن القناة التلفزيونية الجديدة بدأت بداية أفضل من الإذاعة التي تبث بالإنجليزية والتي أنشأتها «بي بي سي» عام 1941 لكي تروّج لمصالح بريطانيا الاستراتيجية في إيران خلال الحرب العالمية الثانية.

ويقول علي الأنصاري أستاذ الدراسات الإيرانية في جامعة سانت أندروز في سكوتلاند الذي كان أبوه يعمل دبلوماسيا خلال فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي: «إنهم حذرون للغاية، ويذكّرون المشاهد دائما بما يستطيعون تأكيده وما لا يستطيعون تأكيده ولا يسمحون للناس باستخدام قنواتهم لتشويه سمعة المنافسين، وهو ما تفعله شبكة البث الحكومية في إيران، ولكن التناقض يأتي من أنهم تعرضوا بالتحديد لذلك الهجوم العنيف لأن الإيرانيين يرون أنهم محايدون وموضوعيون».

ومع تصاعد الأحداث في إيران، زادت القناة ساعات البث اليومية من ثماني ساعات إلى إحدى عشرة ساعة حيث أصبحت تغلق في الواحدة مساء بتوقيت طهران.

ورصدت روكسانا شابور المتحدثة الرسمية باسم القناة زيادة تدفق الاتصالات التفاعلية مع الإيرانيين في ذروة الاحتجاجات، حيث بلغت عشرة آلاف رسالة إلكترونية في اليوم ونحو ستة مقاطع فيديو في الدقيقة تصل من الناس الذين يسجلون الاحتجاجات.

وقد سجل موقع القناة www.bbcpersian.com نحو ثلاثة ملايين متصفح لصفحات الموقع خلال اليوم التالي للانتخابات.

ومثل القنوات الأجنبية الأخرى، تبث قناة «بي بي سي» برامجها إلى أطباق الأقمار الصناعية التي تعلو أسطح آلاف المنازل في إيران. ويعد ذلك في حد ذاته، استخفافا بالمعارضة من قبل آيات الله الحاكمين الذين كانوا يحرّمون أطباق الأقمار الصناعية باعتبارها غير إسلامية ولكنهم تخلوا عن ذلك بعد أن اكتشفوا أنه غير عملي وأن له خطورة سياسية لأنه يعطي شعبية واسعة للتلفزيونات الأجنبية.

وبدلا من ذلك قررت الحكومة عمل محاولة جديدة لعرقلة إشارات قنوات البث الفارسي عندما بدأ عد الأصوات في ليلة الانتخابات.

وحتى الآن كانت تلك الجهود تذهب سدى، لأن مهندسي «بي بي سي» كانوا ينقلون الإشارة إلى قمرين صناعيين إضافيين من الصعب عرقلتهما.

وقد تم طرد مراسلي «بي بي سي» من إيران واحدا تلو آخر مثلهم مثل العاملين في المؤسسات الإخبارية الغربية الأخرى. ولم يُسمح للقناة الفارسية بتعيين مراسلين لها في طهران، كما أن شبكة «بي بي سي» التي تبث بالإنجليزية كانت قد منعت مراسليها في طهران من الظهور على القناة الفارسية في محاولة لحمايتهم من العداء الذي تكنه حكومة طهران للقناة الجديدة.

يقول جون سيمسون مراسل الشؤون الخارجية الشهير في «بي بي سي» إنه كان يعامَل معاملة الأبطال في شوارع طهران عندما كان الناس يعرفون أنه يعمل في «بي بي سي»، وذلك ليس لأن الناس قد تعرفوا عليه، ولكن لتعاطفهم مع القناة الفارسية. وكان سيمسون قد قال في تقرير إذاعي حول عودته من طهران إن حكام إيران الإسلامية كانوا يعتقدون أن «بي بي سي» هي جزء من محاولة أكبر للتلاعب بالأحداث في البلاد، مضيفا: «بالتأكيد نحن نفتخر ـ والفضل للقناة الفارسية ـ بعودة نفوذ (بي بي سي) الكبير في إيران مرة أخرى، كما كان المتشددون في إيران دائما يقولون».

* خدمة «نيويورك تايمز»