دونالد هيويت.. رعب الضوء الأحمر في الكاميرا

أشهر مخرج تلفزيوني إخباري

دونالد هيويت («الشرق الاوسط»)
TT

ودّعت واشنطن الأسبوع الماضي أشهر مخرج تلفزيوني إخباري أميركي، دونالد هيويت، الذي توفي عن عمر 86 سنة. وهيويت كان مخرج برامج تلفزيونية عدة، أبرزها برنامج «60 دقيقة» في تلفزيون «سي بي إس» الذي فاز مرات كثيرة كأحسن برنامج تحقيقات تلفزيونية، بالإضافة إلى أنه أطول برنامج مستمر في التلفزيون الأميركي منذ سنة 1968.

وُلد هيويت وتعلم وعمل وتوفي في نيويورك. وكان والده (يهودي من روسيا) ووالدته (يهودية من ألمانيا) هاجرا إلى هناك في بداية القرن الماضي.

بعد أن تخرج في جامعة نيويورك عمل صحافيا في صحيفة «نيويورك هيرالد تربيون» (في وقت لاحق اشترت الصحيفة صحيفتا «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، وحولتاها إلى «إنترناشيونال هيرالد تربيون» التي تصدر حتى اليوم من باريس).

منذ ذلك الوقت، ظهرت ميول هيويت الليبرالية والانفتاحية لأن «نيويورك هيرالد تربيون» كانت جمهورية «إنترناشيوناليست» (عالمية)، منافسة لصحيفة «شيكاغو تربيون» التي كانت جمهورية «آيسيوليشنست» (انعزالية).

في ذلك الوقت، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، سيطر اتجاهان على الصحافة الأميركية، وبخاصة التي تميل نحو الحزب الجمهوري: صحافيون انعزاليون يريدون أميركا منغلقة على نفسها، بعيدة من مشكلات العالم. وصحافيون يريدونها عكس ذلك.

كان هيويت واحدا من هؤلاء. بل دعا إلى نوع ثالث من الصحافة الأميركية: «ترانسبيرانس» (شفافية). ومنذ ذلك الوقت بدا حبه للتحقيقات الصحافية التي تكشف ما لا يعرف الناس، خصوصا وسط السياسيين والأغنياء. وظهرت هذه الميول خلال عمله في وكالة أخبار «أسوشييتد برس». ثم في وكالة أخبار وصور صارت، في وقت لاحق، تابعة لوكالة أخبار «يونايتد برس».

بعد الصحف ووكالات الأنباء وبعد انتشار التلفزيون مع بداية النصف الثاني من القرن الماضي، انتقل هيويت إلى تلفزيون «سي بي إس» ليخرج برنامجا إخباريا تلفزيونيا. وكانت تلك بداية نصف قرن في هذا المجال.

قبل سبع سنوات عندما تقاعد قالت عنه صحيفة «نيويورك تايمز» إنه كان أول من استخدم كاميرتين لتسجيل المقابلات التلفزيونية. قبل ذلك كانت المقابلات تصور بكاميرا واحدة، وتظل صورة واحدة مثبته على شاشة التلفزيون، وسبب هذا ملل كثير من المشاهدين.

بدأ ذلك سنة 1952، في برنامج اشترك فيه اثنان من عمالقة ومؤسسي التلفزيون الإخباري: إدوارد مورو، وفريد فرندلي. وصارت الشاشة تعرض صورة هذا ثم صورة هذا مما قلل ملل المشاهدين.

في سنة 1960، أشرف هيويت على إخراج المناظرة التلفزيونية التاريخية بين السناتور (الديمقراطي) جون كنيدي ونائب الرئيس (الجمهوري) رتشارد نيكسون لخلافة الرئيس إيزنهاور. وأجاد تنقل ثلاث كاميرات بين الرجلين وبين الصحافيين الذين كانوا يسألونهما. صارت تلك المقابلة تاريخية لأكثر من سبب:

أولا: كانت أول مناظرة تلفزيونية لمرشحين لرئاسة الجمهورية.

ثانيا: رجح التلفزيون كفة كنيدي الذي بدا جذابا وذكيا ومرحا، عكس نيكسون الذي كان العرق يتصبب من جبهة وجهه.

لم يقل المراقبون والصحافيون إن هيوليت انحاز إلى جانب كنيدي، لكنهم قالوا إنه أوضح أن المناظرات التلفزيونية ليست مثل المناظرات العادية. وليست مثل صحيفة تنقل رأي مرشح في صفحة ورأي مرشح معارض في صفحة مقابلة. وإن التلفزيون سيؤثر على النشاطات السياسية ـ وغير السياسية ـ في المستقبل مثلما لم يؤثر جهاز إعلامي قبله.

وعندما انتقل هيوت إلى برنامج «60 دقيقة»، أوضح أن التحقيقات التلفزيونية ليست مثل تحقيقات الصحف. قال مرة: «أحترم أي صحافي من صحيفة (نيويورك تايمز) يخرج من مكتبه، ويتجول من مكان إلى مكان، يجمع الوثائق ليكشف فضيحة أو مشكلة خفية. لكن، يحدث فرق كبير عندما تفعل ذلك كاميرا تلفزيونية».

وأشار إلى النقاط الآتية:

أولا: يهتم الشخص المتهم بكاميرا تلفزيون تدخل مكتبه أكثر من اهتمامه بصحافي يدخل مكتبه.

ثانيا: تقدر الكاميرا على نقل كلام الشخص مباشرة، بينما ينقل الصحافي عن لسان الشخص.

ثالثا: تُظهِر الكاميرا انفعالات الشخص، مما يعطي المشاهد معلومات إضافية عن دور الشخص في موضوع التحقيق.

وقبل عشرين سنة في مقابلة مع صحيفة «لوس أنجليس تايمز» تحدث عن ما سمّاه «متعة الإخراج التلفزيوني». ومما قال: «لا يوجد ضوء أهم من الضوء الأحمر على الكاميرا الذي ينتظره الشخص ليبدأ الكلام. بمجرد أن يبدأ الشخص الكلام، يجب أن يحس بأنه يتكلم ليس فقط أمامي أو أمام المشاهدين في وقت لاحق، ولكن أمام التاريخ». وأضاف: «وأنا خلف الكاميرا أحس بسعادة عندما أرى عرَقا يتصبب من شخص، أو أراه يحرك يديه أو رجليه أو كلهما».

نجح هيويت في استعمال الكاميرا لكشف كثير من الفضائح والمخالفات في أجهزة حكومية وشركات ومؤسسات، وربما أشهرها مخالفات شركة «براون آند وليامسون» للسجائر سنة 1996. سمع هيويت والصحافيون في «60 دقيقة» أن الشركة تضع مواد كيماوية في السجائر لزيادة الإدمان. ولأكثر من سنة، جمعوا وثائق تثبت ذلك، ثم طلبوا من المسؤولين في الشركة الإجابة على الأسئلة أمام كاميرات التلفزيون. لكن بعضهم رفض، وبعضهم قبل على شرط أن لا يصوَّر، وبعضهم قبل على شرط أن لا يشار إلى اسمه.

في البداية، بدا أن هيويت وزملاءه لن يقدروا على اختراق الشركة وإثبات التهمة ضدها. لكن في وقت لاحق ظهر جيفري ويغاند الذي استقال من الشركة بعد أن كان نائب مديرها لشؤون الأبحاث.

في يوم 4 فبراير (شباط) 1996 ظهر فجأة في حلقة من حلقات «60 دقيقة»، وكشف بمساعدة أوراق ووثائق كان جمعها قبل أن يترك الشركة، أن الشركة تزيد كميات النيكوتين في السجائر لزيادة الإدمان.

هز كشف ذلك الشركة وشركات سجائر أخرى والكونغرس. وسريعا بدأ الكونغرس يحقق في الموضوع، وسافر صحافيون إلى لويفيل (ولاية كنتاكي) حيث رئاسة الشركة، وتعرضت الشركة لإهانات وغرامات.

بعد ثلاث سنوات أنتجت هوليوود فيلم «إنسايدر» (العالم بأمور داخلية) عن نفس الموضوع، ولعب فيه دور هيويت الممثل فيليب هوي، ولعب دور البطولة الممثل راسيل كراو.