خطة تقليصات لـ«بي بي سي».. نقطة تحول في تاريخها الممتد إلى 88 عاما

إلغاء برامج موسيقية شبابية ومحطات إذاعية واستيراد برامج توفر لها مليار دولار

TT

إعلان هيئة البث البريطاني (بي بي سي) اعتزامها حزمة من التغييرات والتقليصات في برامجها لقنوات الراديو الموسيقية والتلفزيون والمسلسلات الأميركية المستوردة ومواقع الإنترنت (بي بي سي أون لاين) أثار معركة لم تظهر معالمها بعد وإلى أين ستنتهي، خصوصا مع التغييرات السياسية القادمة بسبب الانتخابات البرلمانية العامة التي ستجري مع بداية شهر مايو (أيار) المقبل.

حزمة التقليصات لـ«تثبيت القيم» القديمة التي اعتادت عليها الهيئة هي معركة وصفها بعض المراقبين بأنها بين تيارين، أحدهما تقليدي والآخر تجديدي. ويرى محللون أن هذه التخفيضات التي ما زالت تحتاج إلى إقرار مجلس أمناء الهيئة ستمثل نقطة تحول في تاريخ (بي بي سي) الممتد على مدى 88 عاما. وقال مارك تومبسون الأمين العام للهيئة، للعاملين في الهيئة، إنه يتوقع أن تؤدي هذه الخطوات إلى خفض النفقات بمقدار 660 مليون جنيه إسترليني (أي ما يقارب مليار دولار)، وسوف يتم استثمار هذا الوفر في زيادة جودة البرامج المنتجة.

فقد أعلن مارك تومسون عن إغلاق إذاعة «البرنامج السادس»، وهي محطة موسيقية تعنى بالمواهب الجديدة وبكل ما هو غير تجاري من القديم، وكذلك إذاعة «الشبكة الآسيوية» الموجهة إلى رعايا الجالية الشرق آسيوية، إلى جانب إذاعتي «سويتش» و«بلاست» الموجهة إلى من هم تحت العشرين.

كما أعلن تومسون عن تقليص الموقع الإخباري على شبكة المعلومات إلى النصف بحلول عام 2013، وكذلك وقف إصدار بعض المجلات مثل «عالم الحديقة» ومجلة «الإذاعة والتلفزيون».

وفي محاولة منه لبيع خطة التقليص الجديدة، التي تواجه الاعتراضات والانتقادات من قبل بعض أعضاء الحكومة والبرلمان ومن بعض العاملين ومن المهتمين بموسيقى الشباب ومن قيادات بعض النقابات، وحتى من المدير العام السابق غريغ دايك، كتب تومسون في صحيفة «الغارديان» مقالا ليتزامن مع إعلان الخطة أمس قائلا: «للـ(بي بي سي) مهمة واحدة لا غير: الإعلام والتعليم والترفيه من خلال برامج وخدمات راقية المستوى وأصلية وذات قيمة عالية. إنها تطمح في تحقيق هذه المهمة بعيدا عن أي أهداف سياسية أو تجارية.. الـ(بي بي سي) هي جزء من البيئة العامة لأن عامة الناس الذين هم وراء هذه المؤسسة». ووعد المدير العام بتوجيه الأرصدة المتوفرة بسبب هذه الإجراءات لصالح تغطية الأخبار الدولية وإنتاج برامج أشد جودة، وتحسين مستوى الخدمة بشكل عام. وقد تم عرض مشروع الاستراتيجية على مجلس أمناء الهيئة للمصادقة عليه، بعد انقضاء فترة محددة لتشاور أفراد الجمهور فيها.

هذه الخطوات جاءت لتعكس ليس فقط ما تعاني منه الهيئة من مشكلات بسبب القيم الجديدة لوسائل الإعلام بسبب التكنولوجيا الحديثة والتوجهات الجديدة للسوق الإعلانية والإعلامية، وهذا ما بدا ظاهرا في تندني مستوى المبيعات للصحف وتوزيع الكثير منها مجانا في الكثير من عواصم العالم الغربي خصوصا.

إلا أن ما يميز هيئة البث البريطاني عن غيرها من المؤسسات هو كونها مؤسسة مملوكة للقطاع العام، أي دافعي الضرائب من خلال الرسوم الشهرية المفروضة على كل بيت يستقبل إرسالها. هذا الوضع الخاص للهيئة في السوق الإعلامية البريطانية يسلط الضوء والأعين على كل ما تقوم به الهيئة، التي تقع تحت ضغوط سياسية أحيانا من قبل الحكومة. وعلى الرغم من ذلك تحافظ المؤسسة على مصداقيتها واستقلاليتها في وضع سياسياتها وبرامجها التطويرية دون أي تدخلات رسمية. وأضاف تومسون في مقالته أن «المقترحات الجديدة ليست سياسية، وتأتي في خضم رؤية الـ(بي بي سي) وما تمثله وتوجد من أجله. إنها، أي المقترحات، ليست لتقلل من عمل الـ(بي بي سي) وتجعلها صغيرة، أو أن تفهم على أنها خطة لتراجعها عن الثروة الرقمية التي تجتاح العالم. ما يريده عامة الناس، وما أريده أنا، هو (بي بي سي) مع ثقتها بما تتميز به من قدرات خاصة، أي تقديم خدمات لا توازي نوعيتها أي مؤسسة إعلامية أخرى».

وجاءت هذه التقليصات والتغييرات على خلفية سلسلة من الأزمات التي واجهتها الهيئة خلال السنوات الماضية، بدأت باستقالة مديرها العام كريغ دايك، وفضيحة المكالمات التلفونية «البذيئة» التي سجلها اثنان من نجوم الهيئة (جونثان روس وراسل براند) على آلة تسجيل أحد الممثلين البريطانيين، وأخيرا الرواتب العالية التي يتقاضاها بعض العاملين ومقدمي البرامج مثل جونثان روس الذي يتقاضى 10 ملايين دولار في السنة. إثارة موضوع راتبه أدت في النهاية إلى إنهاء عقده الذي ينتهي مع الـ«بي بي سي» هذا الصيف. وقد يطالب في المستقبل أيضا حزب المحافظين إذا وصل إلى السلطة أن تعلن الهيئة عن حجم رواتب مقدمي البرامج، خصوصا النجوم منهم مثل جيرمي باكسمان، الذي يقدم نشرة «نيوز نايت» الشهيرة المسائية. وفي رده على اقتراحات تومسون قال غريغ دايك في مقالة أخرى نشرتها صحيفة «الغارديان» على صفحتها الأولى أول من أمس، التي جاءت كرد على مقال تومسون التي نشرت هي الأخرى في الصحيفة وفي نفس اليوم: «إن برامج الـ(بي بي سي) لا غبار عليها»، مضيفا أن المشكلة هي الطريقة التي تتعامل بها الإدارة مع العاملين «على الهواء، تبدو (بي بي سي) واضحة وجيدة إلا أن أصدقاءها قليلون. إنها لم تتمكن من إدارة فضيحة روس وبراند بحنكة، كما أنه لا داعي أن تدفع ما يقارب 1.5 مليون دولار للمدير العام (أي مارك تومسون). إنها وظيفة مربحة، إلا أنه يتقاضى أكثر من ضعفي ما كنت أتقاضاه خلال قيامي بنفس الوظيفة (أي عندما كان يعمل هو مديرا عاما للهيئة لكنه اضطر للاستقالة بعد التحقيق الذي قامت به لجنة هاتون حول انتحار الدكتور كيلي الذي أدلى بتصريحات حول الحرب العراقية، ونقلها مراسل الإذاعة الرابعة، التي اعتبرت غير دقيقة، وبعد انتقادات اللجنة لأداء الـ«بي بي سي» استقال دايك).

وقال دايك أن مارك (تومسون) قام بأشياء كثيرة، إلا أنه لن يتمكن من اصطحاب العاملين معه في مهمته (يعني بذلك أن الكثير منهم سيخسرون وظائفهم). وقال تومسون إن إغلاق شبكتها الإذاعية الآسيوية الشهيرة وتقليص مواقعها على الإنترنت جاء في إطار خطة تهدف إلى إعادة هيكلة الهيئة العريقة لتواكب «عصر الإذاعة الجديد».

وذكرت نقابات العاملين في الـ«بي بي سي» إن هذه الخطة تهدد نحو 600 وظيفة نتيجة إغلاق «الشبكة الآسيوية» ومحطة للموسيقى الرقمية، إلى جانب خفض قوة عمل قطاع الإنترنت بنسبة 25 في المائة، في حين سيتم خفض شبكة مواقع الإنترنت الخاصة بالهيئة بنسبة 50 في المائة تقريبا. ووفقا لإحصاءات مستمعي الـ«بي بي سي» فإن نحو 360 ألف شخص يستمعون إلى «الشبكة الآسيوية» أسبوعيا، وتقول الهيئة إن الجمهور الآسيوي أصبح معقدا بدرجة يصعب خدمته بشبكة واحدة.

واجه إعلان المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن مشروع الاستراتيجية الجديدة للهيئة اعتراضات بسبب ما تضمنته من خطة إغلاق بعض الخدمات وتقليص غيرها. وقد رفضت شخصيات مهتمة بالشأن الموسيقي قرار إغلاق البرنامج السادس، كما بدأت بالفعل حملة للإبقاء عليه منذ تسرب محتوى مشروع الاستراتيجية إلى وسائل الإعلام قبل ثلاثة أيام.

وحذر جيري موريسي السكرتير العام لاتحاد التقنيين في صناعة السينما والمنوعات من أن هذه الإجراءات قد تتسبب في فقدان نحو 600 وظيفة. واتهم موريسي الإدارة «بتقديم الخدمات وفرص العمل قربانا على مذبح السياسة قبيل الانتخابات العامة»، وقال إنه لا يستبعد احتمال اللجوء إلى الإضراب العام لمواجهة ذلك.

والمعروف أن الـ«بي بي سي» تمول من ريع رسوم البث التي تفرض على كل منزل يستقبل إرسال الـ«بي بي سي» التلفزيوني. وبسبب ذلك تتعرض لانتقادات من جانب هيئات البث التجارية، التي تقول إنها عرضة لمنافسة غير متكافئة جراء ذلك، كما تتعرض لاتهامات متواترة بعدم الحياد من جانب سياسيين سواء في الحكومة أو في المعارضة.

وقد أعلن حزب المحافظين المعارض عزمه تجميد قيمة الضريبة إذا ما فاز في الانتخابات المقبلة المقرر إجراؤها خلال ثلاثة أشهر. كما نوه بن براد شو وزير الثقافة الحالي بأن هناك تفكيرا في خفض قيمة رسوم البث إلى النصف.

ووصف جيمس ميردوخ، ابن إمبراطور الإعلام روبرت ميردوخ، الخطوات التي تنوي الـ«بي بي سي» القيام بها بأنها «مخيفة».