الثورة الإعلامية في باكستان وراء إجماع المجتمع المعارض للتطرف الديني والعمل المسلح

كانت السبب في الإطاحة بحكومة الرئيس السابق.. وتروج لشكل جديد من الأخلاق السياسية

إجماع إعلامي باكستاني على رفض العنف الديني بجميع أشكاله وألوانه (أ ب)
TT

«كامران خان وشديد مسعود.. أنصتا جيدا، سوف نقطع أياديكما إذا لم تغلقا فميكما على الفور»، تلفظ بهذا التهديد القيادي البارز في الحزب الحاكم داخل باكستان، رانا أفتاب أحمد، مخاطبا مذيعين بارزين وذلك خلال تجمع عام داخل لاهور قبل شهرين. وفي ذلك الوقت كان الرئيس الباكستاني، آصف علي زرداري، وحكومة حزب الشعب الباكستاني يواجهان أزمة سياسية شديدة إثر مزاعم بوجود فساد مالي وغسل أموال، وجعلت القنوات الإخبارية من الوضع أكثر صعوبة بتناولها فضائح الفساد بدقة شديدة.

وأصبح مذيعا برنامجين حواريين مشهورين، وهما الدكتور شديد مسعود، وكامران خان، هدفا لتهديدات الحزب الحاكم، وذلك بسبب انتقادهما الحزب الحاكم خلال وقت الذروة، (حيث يستضيف كل منهما برنامجا حواريا على مدار ساعة يبث مساء).

وعلى إثر الدور المهم الذي لعبته وسائل الإعلام القوية في إنهاء حكومة الرئيس السابق، برويز مشرف، تشعر هاتان القناتان الإخباريتان بمقدار أكبر من الثقة في الهجوم على أي حكومة، فيما تشكك الحكومات في دورهما كوسيلة لنشر المعلومات والأفكار داخل المجتمع. وخلال دقائق من وصول التهديد، ظهر مضيف البرنامج الحواري كامران خان مباشرا على شبكة «جيو» التلفزيونية موجها تحذيرات مضادة للحكومة، داعيا إياها إلى عدم الدخول في أي «مغامرة». وقال خلال بث مباشر جاء فيه عرض لقطات فيديو: «تظهر قيادات في الحزب الحاكم وهي تتعدى على الصحافيين الباكستانيين وتكيل لهم التهديدات، لا تظنوا لدقيقة واحدة أن هذا التهديد سوف يردعنا».

وداخل دولة نامية مثل باكستان، حيث تدفع الصعوبات الاقتصادية وغياب العدالة الاجتماعية المواطنين إلى عدم قبول أي شيء يأتي من جانب في الحكومة، كان كامران خان هو الفائز بوضوح خلال حرب الكلمات المتلفزة. وقال مسؤول في شبكة «جيو» التلفزيونية يعمل في إدارة القناة الإخبارية: «في ذلك اليوم جاءتنا الآلاف من الرسائل عبر البريد الإلكتروني عبر خلالها المواطنون عن دعمهم الشديد لمسعود وكامران خان».

ويقول إعجاز شافعي جيلاني، رئيس «غالوب» الدولية، وهي الهيئة الخاصة الوحيدة لاستطلاع الآراء وذات مصداقية، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إن الجمهور الذي يتابع شديد مسعود وكامران خان يبلغ الملايين. ويأتي الاثنان، مع آخرين كثر من مقدمي برامج حوارية شعبية، ثمرة ثورة شهدتها وسائل الإعلام الباكستانية. وقد تخطت هذه الوسائل جميع المحظورات السياسية والاجتماعية، وكانت القوة التي وقفت وراء الإطاحة بحكومة الرئيس السابق برويز مشرف وتروج حاليا لشكل جديد من الأخلاق السياسية. وأخيرا، تقف الثورة الإعلامية كقوة رئيسة وراء إجماع داخل المجتمع الباكستاني معارضا للتطرف الديني والعمل المسلح. وأصبح معظم المذيعين التلفزيونيين يحظون بشعبية داخل المجتمع الباكستاني.

وتقول شاهيناز خان، وهي مدرسة شابة في مدرسة عليا: «أهتم كثيرا بأمن الصحافيين خلال أوقات الأزمات السياسية، ودائما ما أتصل بمكاتب القنوات التلفزيونية وأسألهم عن الصحافيين والمذيعين البارزين».

ولكن، ليس كل المواطنين متعاطفين مع القنوات الإخبارية الخاصة.. ويقول عظيم شودري، وهو صحافي تحول إلى العمل السياسي، وقريب من حكومة مشرف: «دور القنوات الإخبارية الخاصة لا يكون إيجابيا على الدوام. وتصبح هذه القنوات ذات منحى هجومي أكبر في أوقات الأزمات السياسية من خلال عرض الأخبار والمواضيع التي تتناولها البرامج الحوارية».

ويشار إلى أنه قبل 10 أعوام كان يوجد داخل باكستان قناة إخبارية واحدة، وكانت تمتلكها وتديرها الحكومة. وفي الوقت الحالي تجاوز عدد القنوات الإخبارية الـ100 قناة، ويديرها عدد من الصحافيين المحترفين ورجال الأعمال.

ويقول خبير إعلامي: «تجعل هذه القنوات الجموع الباكستانية متعلقة بشاشات التلفزيون». ويضيف: «ستجد كل السمات المرتبطة بالحياة السياسية الباكستانية أو الدينية أو قطاع الموضة أو الإرهاب أو حتى الخلافات العائلية على القنوات».

وتقول طاهرة نقوي، وهي مدرسة في منتصف عمرها، تقضي جزءا كبيرا من وقت فراغها تشاهد البرامج الإخبارية والبرامج الحوارية السياسية: «أنا امرأة عاملة، ومن الصعب بالنسبة لي المشاركة في الأنشطة السياسية، ولكن مشاهدة هذه القنوات الخاصة وهذه البرامج الحوارية والإخبارية تجعلني أشعر بأنني جزء مما يحدث».

وقد بدأت الثورة الإعلامية تنتشر داخل المجتمع الباكستاني خلال الأعوام الأولى من فترة الرئيس السابق، برويز مشرف. ويشير مسؤولون سابقون داخل حكومة مشرف إلى أن ذلك كان بناء على تحرك متعمد من جانب الحكومة العسكرية لتطبيق قوانين جديدة متحررة بهدف توفير مساحة للقنوات الإخبارية الخاصة.

ولم يأت في مخيلة الحاكم العسكري السابق الجنرال مشرف أن إطلاق العنان للإعلام داخل المجتمع الباكستاني سوف يتحول ضده ويؤدي في النهاية إلى الإطاحة بحكومته.

ويقول مسؤول متقاعد كان في موقع المسؤولية إبان ولاية مشرف: «كان الجنرال مشرف يرى أن القنوات الإخبارية الباكستانية سوف تجذب الجمهور الباكستاني بعيدا عن القنوات الإخبارية الهندية، التي كانت تلحق ضررا كبيرا بالمصالح القومية للبلاد».

وما دفع الحكومة إلى وضع قوانين إعلام متحررة داخل باكستاني حملة عسكرية في عام 1999، عندما كان الجنرال مشرف رئيس أركان الجيش، ولم يكن دبر للانقلاب العسكري بعد.

ويذكر أنه في مايو (أيار) 1999 دشن برويز مشرف هجوما على كارجيل، وهي منطقة جبلية في كشمير الهندية. ووقعت معركة بين الجيشين الهندي والباكستاني. وفي ربيع عام 1999، حرك مشرف قواته في السر، وتمكن من الاستيلاء على المواقع الهندية من دون قتال. وخلال الحرب التي تلت، تعرضت باكستان لضربات، وانسحبت تحت ضغط من جانب الولايات المتحدة.

وفي ذلك الوقت كان التلفزيون الباكستاني المصدر الوحيد للأخبار المتلفزة. ومن المثير للسخرية أن مصداقية التلفزيون الباكستاني بين الشعب الباكستاني كانت منخفضة جدا وهو ما دفعهم إلى التحول إلى القنوات الإخبارية الهندية للحصول على آخر المعلومات المتعلقة بأزمة كارجيل. وخلال هذه الأيام ارتفعت أسعار أطباق الأقمار الصناعية المهربة بدرجة كبيرة، وكانت المصدر الوحيد لاستقبال بث القنوات الإخبارية الهندية.

ويقول مسؤول بارز في حكومة مشرف: «عندما كان الجيش الباكستاني يقاتل الهنود في جبال كشمير، كان الشعب الباكستاني متحمسا بمقدار أكبر للاستماع إلى ما تنقله القنوات الإخبارية الهندية». «وكان هذا الوقت الذي أعلن فيه الجنرال مشرف عن خططه بخصوص القنوات الإخبارية الخاصة داخل باكستان»، حسب ما أضاف المسؤول المتقاعد. وأتيحت هذه الفرصة عندما أصبح رئيسا عقب تنفيذ انقلاب في أكتوبر (تشرين الأول) 1999.

وتحققت أمنية الجنرال مشرف عندما أصبحت وسائل الإعلام الإخبارية الباكستانية ذات نبرة قومية. ولكن تلا ذلك تبعات غير مقصودة. ويقول فصيح الرحمن، وهو محلل سياسي ومعلق تلفزيوني: «على المستوى الثقافي، نجد أن وسائل الإعلام الباكستانية تروج للديمقراطية بمقدار كبير وتعارض تداخل الجيش في الشؤون السياسية. وجاء ذلك نتيجة لقوة القنوات الإخبارية في أعين المشاهدين، فكلما زاد عدد المشاهدين زادت قوة القنوات في أروقة السلطة».

وأدى الميل إلى رؤية الأشياء من منظور المواطنين إلى دفع وسائل الإعلام الباكستانية في اتجاه تناول مواضيع دينية بالنقاش. وعلى مدى عقود كان شكل البرامج الدينية في وسائل الإعلام المملوكة للدولة أن يقوم عالم دين بإلقاء محاضرات إلى جمهور صامت. وتقوم القناتان الإخباريتان البارزتان «جيو» و«دنيا» ببث برنامجين حواريين دينيين يحظيان بشعبية واسعة داخل باكستان. ويقول خبير إعلامي: «حاولت كلا القناتين الترويج للنقاش الديني، عن طريق ضم صوت المواطنين في البرامج».

وفي البرنامج الديني الأول، يواجه رجل الدين البارز، الدكتور جاويد الغامدي، مجموعة من طلبة الجامعة (ذكور وإناث) ويتناولون مواضيع شائكة. وفي البرنامج الديني الثاني «عالم أون لاين»، الذي يستضيفه أمير ياقت حسين، يتم استضافة علماء دين من المدارس المختلفة للإجابة عن تساؤلات يطرحها المشاهد العادي عبر الهاتف.

وتظهر آخر الاستطلاعات التي أجرتها مؤسسة «غالوب» الدولية أن برنامج «عالم أون لاين» هو البرنامج الحواري الذي يحظى بأعلى شعبية من بين البرامج التي بثت في تاريخ التلفزيون الباكستاني.

وقد أدى ذلك إلى تغير جذري في نمط التعليم الديني، على الأقل بين الطبقة الوسطى الباكستانية.

ويقول محمد يوسف، صاحب المكتبة الأكبر داخل إسلام آباد «مستر بوكس»: «يوجد تراجع كبير في عدد المواطنين الذين يأتون من أجل شراء الكتب الدينية. ويبدو أن المواطنين أكثر اهتماما بالاستماع إلى علماء الدين مثل جاويد الغامدي أكثر من قراءة كتبه».

وليس صحيحا أن الشيء الوحيد الذي يعرف الإعلام الباكستاني هو إثارة المشكلات للحكومة. ويتفق معظم المحللين السياسيين الجادين على أن وسائل الإعلام القوية داخل باكستاني تقف وراء إجماع لدى المجتمع الباكستاني بشأن خطورة التطرف والعمل المسلح.

ويقول فصيح الرحمن: «كانت معظم القنوات الإخبارية الباكستانية مصدرا لأفكار جيدة لمواجهة الفلسفات المتطرفة التي ترعاه طالبان الباكستانية داخل المناطق القبلية. وفي الواقع، فإن القنوات الإخبارية هي التي عرفت المواطنين الباكستانيين أن التطرف الديني ضلال وزيغ، وأن المتجمع الباكستاني لديه تاريخ من الفكر السياسي المتحرر والتسامح الديني».

وتحدث نقاشات بين التنظيمات الدينية والفصائل المتحررة داخل المجتمع في كل يوم على القنوات الإخبارية الخاصة من خلال البرامج الحوارية الرائجة الذي يبلغ عدد المشاهدين لها الملايين. وقد عبر رئيس الوزراء، يوسف رضا جيلاني، في مناسبات كثيرة عن تقديره الشخصي للقنوات الإخبارية الباكستانية بسبب موقفها ضد التطرف الديني والعمل المسلح.

ولم يمنع التوافق الواضح بين الحكومة ووسائل الإعلام الإخبارية في معارضة التهديد المتطرف القنوات الإخبارية والمذيعين بها من تدشين حملات قوية ضد الرئيس آصف علي زرداري. وكانت الانتقادات التي توجه للرئيس من خلال البرامج الحوارية في وقت الذروة السبب وراء التوتر الأخير بين القنوات الإخبارية الباكستانية وحكومة حزب الشعب الباكستاني.

وكل ليلة يشاهد الملايين من الباكستانيين المضيف كامران خان يطرح توقعات عن سقوط وشيك لحكومة زرداري في برنامجه الحواري «اليوم مع كامران خان». ويقول فيصل رضا عبدي، السكرتير السياسي للرئيس: «منذ نحو 6 أشهر لم يناقش برنامج الدكتور شديد مسعود (العالم في رأي) شيئا سوى سقوط حكومة زرداري، وهذا شيء غير عادل».

ولكن هذه المرة، فإن نتائج حملة القنوات الإخبارية ضد الحكومة مختلفة، فعلى عكس ما حدث مع حكومة مشرف لم تنهر حكومة زرداري تحت ضغوط وسائل الإعلام الباكستانية.

ويقول خبير إعلامي: «إما أن تنضج وسائل الإعلام أو إذا استمر الوضع في وسائل الإعلام ربما نشهد مواجهة حاسمة بين الحكومة ووسائل الإعلام».