مراسل «دير شبيغل» بالقاهرة: أجريت مع السادات آخر حوار في حياته.. وكنت بجانب الخميني على طائرة العودة

فولكهارد فيندفورد لـ «الشرق الأوسط» : يموت الصحافي عندما تموت فيه شهوة المعرفة وحب التعلم

مراسل «دير شبيغل» بالقاهرة فولكهارد فيندفورد
TT

طبقات من الخبرة مع البشر والأمكنة والوقائع والأحداث يحملها هذا الرجل فوق ظهره، وتشكل زاده وحكمته خلال 63 عاما قضاها الصحافي فولكهارد فيندفورد في القاهرة كمدير لمكتب مجلة «دير شبيغل» الألمانية المرموقة، يشغل حاليا رئيس جمعية المراسلين الأجانب في مصر، وفي رحلته الصحافية الطويلة قصص وحكايات ومنعطفات جديرة بالرواية. أجاد لغات المنطقة ودرس ثقافتها، واكتسب عادتها، لكنه لم يفقد حياديته، ولا دأبه. «الشرق الأوسط» التقته في القاهرة وفتشت في دليله المهني، الذي يحكم عمله وحقق من خلاله بريقه.. وهنا نص اللقاء:

* متى بدأت قصتك مع الصحافة؟

- كنت تلميذا في المدرسة الألمانية الكائنة بحي الزمالك الراقي بالقاهرة عام 1955، كانت هناك مشكلة بين ألمانيا وفرنسا بشأن نزاع حدودي، أبديت رأيي وكتبته، وشهد لي زملائي وأساتذتي. استكملت دراستي في مصر ودرست العربية والفارسية والعبرية، ثم التحقت بالإذاعة المصرية لأقدم برامج مختلفة، ثم القسم العربي بالإذاعة الألمانية، وعام 1967 التحقت بالمعهد الألماني للدراسات العربية، ومعهد مرموق وشهير بتحقيق المخطوطات العربية، وكنت في ليبيا ممثلا للإذاعة الألمانية وأجريت حوارا مع العقيد القذافي قائد الثورة وقتها، وبعدها تعاملت مع «دير شبيغل»، وأسست أول مكتب لها في بيروت عام 1974.

* سنوات طويلة قضيتها في مصر.. ما سبب وجودك في مصر في بداية حياتك؟

- من الممكن أن تسميها ظروفا عائلية تخص والدتي بعد وفاة والدي في روسيا أثناء الحرب العالمية الثانية، كنت في الثالثة عشرة من عمري وقت مجيئي إلى القاهرة، وقبلها درست اللغة العربية في ألمانيا، ثم امتد بي الزمن لأقضي فيها ما يقرب من 80% من سنوات حياتي.

* وجودك في بيروت في فترة ملتهبة هل أصقل خبراتك كصحافي؟

- أصعب فترة في حياتي بدأت عندما أسست المكتب في بيروت في 1 يناير (كانون الثاني) 1974، وانطلقت الحرب الأهلية بعدها بعام، فلك أن تتخيل أنني كي أنتقل من ضاحية في بيروت إلى أخرى حيث مقر السفارة الألمانية كنت أضطر إلى الذهاب إلى قبرص.. لم أحتمل أكثر من عامين وقررت الرحيل خاصة بعد وقوعي في براثن الخطف من قبل إحدى الميليشيات، وعموما لا أحب تذكر تلك التفاصيل، وبدأت رحلتي الطويلة مع مكتب «دير شبيغل» بالقاهرة، التي أنطلق منها بين الحين والآخر إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط لتغطية حدث أو قصة أو أحاور مصدرا مهما.

ما حدث في بيروت لم أره في حياتي، عاصرت غزو قبرص عام 1974، وحروبا أخرى، لكن في بيروت كان الأمر مختلفا، وأنا لست مؤيدا للقول إن الحروب تصنع الصحافيين، فلكي يكون الصحافي جيدا بشكل عام ومراسلا محترفا بشكل خاص فعليه أن يعرف جيدا تاريخ المنطقة التي يغطيها، وثقافتها، ولغاتها، فأنا أعرف بجانب الألمانية الفارسية والعبرية، كما أنني أكن عشقا خاصا للعربية «فكيف أدخل الوغى وليس معي سلاح؟!».

* لكن هناك أسماء شهيرة لمراسلين أجانب حققوا نجاحا ولم يكونوا يعرفون العربية مثل مايكل سلاكمان وروبرت فيسك؟

- نعم، لكنهم يتكلمون الإنجليزية وهي لغة منتشرة نسبيا وتساعدهم على التعامل بيسر في المنطقة العربية، وأنا أعرف مراسلين كبارا يمتلكون الموهبة والدراسة والكفاءة لكنهم محدودو التأثير لأنهم ينتمون لبلد صغير مثل سلوفينيا ولغتها محدودة.

* يقال إن المراسل إذا استقر لفترة طويلة في مكان ما يفقد عينه اللاقطة وقد تتأثر حياديته؟

- إقامتي في مصر جزء من تكويني الشخصي، معظم معارفي مصريون وأصدقائي، وأغلب وقتي أقضيه هنا، وأنا ملم إلماما جيدا بتاريخ المنطقة وثقافتها، ورغما عني أكتسب صفات مصرية مثل المصري الذي يعيش في ألمانيا 50 عاما لا بد أن يلتقط من الألمان بعض عاداتهم، لكني لا أعتقد أن ذلك كله يؤثر على الحيادية، فأنا تحكمني مبادئ مهنية، وإنسانية قبلها، ولا أرى عيبا في التعاطف ما دمت لا أتجاوز تلك المبادئ.

* ما أبرز القصص التي انفردت بها أثناء عملك مراسلا صحافيا في مصر؟

- أجريت آخر حوار مع الرئيس السادات قبيل مقتله بأربعة أيام فقط، وقد أجريت معه ما يقرب من 11 حديثا أثناء حياته، كما ركبت طائرة الخميني أثناء عودته من باريس إلى طهران.

* كيف تكون مصادرك.. ومن أهم من اقتربت منهم إنسانيا؟

- المصدر قد يكون سياسيا كبيرا أو موظفا عاديا جدا سمحت له الظروف بأن يكون مهما في لحظة ما، أو زميلا صحافيا، وأنا أقترب من كل الأنواع، وفي أحيان كثيرة أقابل شخصيات مهمة للغاية قد يشكل الحوار معها حدثا في ذاته، لكنها تكون مقابلة عادية، أستكمل من خلالها قصصا، ولا أنشر ما دار فيها، كما أنني إذا دعيت من قبل شخصية مهمة كملك أو رئيس لا أرفض الحضور حتى لو كان مجرد الحضور دون عمل.

وفي مصر اقتربت من شخصيات شهيرة، منهم نجيب محفوظ كان صديقي أكثر من كونه مصدرا، كنت أجلس معه في الإسكندرية كثيرا، وفي مقهى ريش بالقاهرة بوسط البلد، وحتى بعد موته كنت أتلمس خطاه هناك، كان بسيطا جدا ومتواضعا للغاية، وقد ترجمت بعض أعماله، وأعتبره «فاتح النوافذ في الذهن والجدران»، كما كان توفيق الحكيم جاري في فترة من الفترات، وعرفته عن قرب، وكذلك أنيس منصور، صاحب كتاب «حول العالم في 80 يوما» وهو أعلى الكتب توزيعا في العالم العربي.

وعلى الجانب السياسي أتشرف بأن أمين عام الأمم المتحدة الأسبق بطرس غالي صديقي، إضافة إلى الدكتور مرسي سعد الدين فهو شخصية غير عادية، وكان آخر ملحق ثقافي مصري في إنجلترا أيام الملكية.

أما السادات فأعتبره رجلا صادقا مع نفسه، ومن السياسيين القلائل في العالم الذين كانوا يملكون رؤى مستقبلية ناجمة عن تفكير عميق، ومحاولة تصور وتحليل، وذلك رغم أخطائه فهو بشر في النهاية.

* برأيك ما قيمة التعليم المستمر للصحافي والتدريب للمراسل؟

- أؤمن بأن الحياة مدرسة، ويموت الصحافي عندما تموت فيه شهوة المعرفة، وحب التعلم، عندئذ يفقد الاتصال بالحياة.. والصحافة مهنة التعب، كأن من يمارسها عليه أن «يبلبط» في النيل طول الوقت كي ينجح، أما لو اكتفى بركوب مركب فخم وأثير فسيتوقف عطاؤه.

* تعمل مراسلا لمجلة مرموقة هي «دير شبيغل»، ووجودك في مصر يجبرك على الكتابة في تخصصات كثيرة ومتنوعة، هل يؤثر ذلك على العمق في التغطية؟

- في «دير شبيغل» 850 صحافيا، ولها 28 مكتبا على مستوى العالم، إضافة إلى المقر في هامبورغ، ووجود هذا العدد الضخم يعني أن كل صحافي لا يضمن أن تنشر له قصة كل أسبوع أو أسبوعين، وبالتالي فالوقت متاح للتعمق، كما أننا نؤمن بفرق العمل، فأثناء زلزال هايتي مثلا كان هناك مراسل في المكسيك وآخر في هايتي ومتخصصون في شؤون الزلازل في هامبورغ.. واتحاد كل الجهود ينتج قصصا مميزة.

* مهنة الصحافي الأجنبي تقابل بالريبة في العالم العربي.. كيف تتغلب على ذلك؟

- كل الشكوك أو 80% منها يتبدد بالحوار والهدوء، والصحافي يبني سمعته كما يبني خبرته، وبالوقت هذه القلاقل تنتهي.

* أجريت حوارا مؤخرا مع الرئيس عمر البشير.. كيف تعد للحوارات مع المصادر المهمة؟

- كلفت بالحوار منذ 19 يناير الماضي، وأجري في نهاية مارس (آذار)، وطوال تلك الفترة كنت أقرأ تصريحات المعارضة وأطياف السياسة في السودان، وتصريحات الرئيس، وأنا عموما أزعم الإلمام بشؤون السودان نسبيا، فقد زرتها منذ عام 1956، وهو مجتمع متنوع وثري وجدير بالتتبع.

* من خلال كل هذه الخبرة.. ما أهم نصيحة توجهها للمراسلين وأنت رئيس جمعية المراسلين الأجانب في مصر؟

- أنصح أي صحافي بألا يبدي رأيا في موضوع لم يدرسه جيدا أو يتعمق فيه.. والمشقة جزء من العمل، والاستسهال يجلب المشكلات.