«ديرشبيغل».. 63 عاما من الإعلام الاستقصائي الساخن

تسببت في استقالة وزير الدفاع عام 1962 بعد تقرير لها عن الجيش الألماني

TT

«ديرشبيغل» اسم شهير في عالم الإعلام والصحافة، مصداقيتها وتأثيرها تخطيا حدود رجل الشارع العادي، ليصلا إلى السياسيين داخل وخارج السلطات التنفيذية في جميع أنحاء العالم. كما أنها ليست مجرد مجلة أو مؤسسة إعلامية فاعلة داخل ألمانيا وفقط، بل إن تقاريرها وخبطاتها الصحافية المتميزة وأسلوبها الاستقصائي ونهجها النقدي، جعلتها لاعبا رئيسيا في رسم السياسة واتخاذ القرارات داخل وخارج ألمانيا.

هذا التميز الإعلامي للمجلة التي تحتوي على موضوعات متنوعة في السياسة والثقافة والاقتصاد، اعتمد على دقة الرصد وعمق التحليل وسخونة النقد، واعتبر سمة من سمات المجلة العريقة والتي يبلغ عمرها الآن ثلاثة وستين عاما، واحتفلت عام 2007 الماضي بمرور 60 عاما على تأسيسها. ترجع فكرة ظهور هذه المجلة الأسبوعية، إلى الصحافي الألماني رودولف أوغشتاين «رائد الإعلام الألماني الحر» كما يطلق عليه، فهو مؤسس هذا الصرح الإعلامي الكبير، حين وضع حجر الأساس للمجلة في مدينة هانوفر، وهو في بداية العشرينات من العمر. وبمجرد انتهاء الحرب العالمية الثانية اتجه أوغشتاين إلى مدينة هانوفر، وطلب من الضابط البريطاني جون سايمور، المسؤول عن التراخيص الخاصة بالصحف، إصدار المجلة، والتي تعني ترجمة اسمها «المرآة». وبالفعل حصل على موافقة سايمور، الذي وصف الفكرة بأنها لبنة مهمة في ترسيخ ودعم الديمقراطية في ألمانيا، والتي كانت آنذاك مقسمة إلى مناطق نفوذ تحت سيطرة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي.

ومنذ ذلك الحين رأى أوغشتاين - في أحاديث نقلت عنه - أن مجلة «ديرشبيغل» يجب أن تلعب دورا رائدا في دعم عجلة الديمقراطية وأن تكون بمثابة «الدرع الحامية للديمقراطية»، و«أن واجب ديرشبيغل يجب أن يتمثل في مراقبة عمل النخبة السياسية الألمانية، كونها السلطة الرابعة».

وبالفعل ظهر العدد الأول للمجلة يوم السبت في الرابع من يناير (كانون الثاني) 1947، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. ورغم أن تأسيس مجلة أسبوعية في هذا التوقيت كان مغامرة غير محسوبة (نظرا للاعتبارات السياسية في البلاد بعد هزيمتها)، فإنها استطاعت وبسرعة كبيرة أن تحظى بثقة القارئ الألماني، وأن تكون شاهدا على أحداث تاريخية مفصلية.

تاريخ المجلة يشير إلى انتقالها عام 1952 من مدينة هانوفر إلى مدينة هامبورغ، شمال ألمانيا. هذا الانتقال لم يكن في المكان فقط، بل انعكس على عمل المجلة ونجاحها، فقد ارتفع حجم توزيعها، ووصل إلى 121 ألف نسخة بعد سنوات قليلة من إصدارها، كما صدر إلى جانب المجلة الرئيسية مجلة اقتصادية متخصصة تحت عنوان «مانيجير ماغازين» (Manager-Magazin). وزاد عدد المحررين وتوالت التقارير الإخبارية المميزة.

غير أن أهم المحطات والأحداث الرئيسية في تاريخ المجلة، كانت ما عرف باسم «فضيحة ديرشبيغل»، وذلك في أكتوبر (تشرين الأول) 1962.

تفاصيل هذه الفضيحة تتلخص في نشر المجلة لتحقيق حول مناورة لحلف شمال الأطلسي تحت اسم «Fallex 62»، يؤكد «أن الجيش الألماني يمتلك قدرات دفاعية محدودة، وغير قادر على صد هجوم مباغت». وإثر نشر هذا التحقيق، اتهمت حكومة المستشار الألماني الأسبق كونراد آديناور، المجلة بنشر معلومات خطيرة تضر بالأمن القومي الألماني، وتمت مداهمة مقر المجلة وإصدار مذكرات استجواب بحق عدد من العاملين فيها واعتقالهم، كما تم توجيه تهمة الخيانة العظمى إلى أوغشتاين.

وقد أثارت حملة المداهمة موجة عارمة من الغضب والاحتجاج، وتسببت في أزمة حكومية، استقال على إثرها وزير الدفاع آنذاك فرانس جوزيف شتراوس. وفي فبراير (شباط) عام 1963 أطلق سراح أوغشتاين لتسقط التهمة عنه بشكل نهائي في عام 1965. وخرجت «ديرشبيغل» في نهاية المعركة منتصرة لتحقق مصداقية أكبر لدى الرأي العام، وواصلت مشوارها وأسلوبها الصحافي الاستقصائي وكشف قضايا الفساد في ألمانيا. وهو الأمر الذي أسس لمرحلة جديدة في الإعلام الألماني، يقوم على فكرة أنه «لا سطوة سياسية على الإعلام».

ولأنها من كبرى المؤسسات الإعلامية، لم تتوان «ديرشبيغل» عن أن تواكب المستجدات التكنولوجية الجديدة في الحقل الإعلامي، وعملت دائما على استخدام كل جديد في هذا الحقل لخدمة المجلة.

فأطلقت الموقع الإلكتروني عام 1994 انسجاما مع رسالتها الإعلامية بمواكبة العصر، وأصبح هذا الموقع من أكثر المواقع الإعلامية الإخبارية زيارة للناطقين باللغة الألمانية. وافتتحت في فبراير (شباط) 2008 أرشيفها الرقمي.

حجم عوائد مؤسسة «ديرشبيغل» الإعلامية وصل عام 2006 إلى 322 مليون يورو، علما بأن جزءا من الأرباح يذهب إلى العاملين، بعدما منح أوغشتاين مؤسس المجلة ومالكها الوحيد منذ عام 1969 (بعد أن خرج شريكاه المصور رومان شتمبكا والتاجر جيرهارد بارش) العاملين نصف أسهم المؤسسة الإعلامية العريقة، وذلك قبل رحيله في عام 2002.

تضم مؤسسة «شبيغل» حاليا أكثر من 800 عامل، نصفهم في أقسام التحرير، ويقودها «شتيفان آوست»، منذ عام 1994، والذي يواجه انتقادات نظرا لتراجع دور المجلة الإعلامي الريادي وفقدانها خصوصيتها وتوجهاتها النقدية، بحسب مراقبين.

غير أن آخرين يرون أن هذا النقد غير صحيح، وأن المجلة ما زالت تنتج في كثير من الأحيان موضوعات حول المشاكل التي تؤثر على ألمانيا مثل الاتجاهات الديموغرافية، والجمود في النظام الفيدرالي، أو الصعوبات التي يواجهها نظام التعليم الألماني.

اشتهرت المجلة أخيرا بكتابة تقارير مثيرة حول قضايا منطقة الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني وقدرات إيران التسليحية. كما نشرت تقريرا مثيرا للجدل العام الماضي حول تورط حزب الله في عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. وتعد «ديرشبيغل» الوسيلة الإعلامية المفضلة لدى الرؤساء ومشاهير السياسة والاقتصاد حينما يريدون الإدلاء بأي حوارات صحافية، لما تتمتع به من شهرة عالمية وصيت واسع.

وتتشابه «ديرشبيغل» في أسلوبها وتخطيطها إلى حد كبير مع المجلات الإخبارية الأميركية الشهيرة «التايمز» و«النيوزويك»، من حيث الاتساع وكمية التفاصيل في موادها. وكانت المجلة قد كسرت حاجز المليون نسخة عام 1990 بسبب وجود عدد كبير من القراء الجدد في ألمانيا الشرقية. وحاليا هي أكثر مجلة توزع وتطبع في ألمانيا وأوروبا.

* وحدة أبحاث «الشرق الأوسط»