بريطانيا تتحول إلى معمل لمستقبل الصحف المطبوعة

تبيع 10 صحف واسعة الانتشار نحو 10 ملايين نسخة يوميا

10 ملايين نسخة يوميا في دولة يقدر عدد سكانها بـ60 مليون نسمة يعد رقما كبيرا يفوق بكثير المعدل في دول أوروبية أخرى مشابهة من حيث عدد السكان
TT

بعد أيام قلائل من إعلان «نيوز كورب» خطتها للشروع في فرض رسوم على قراء النسخة الإلكترونية عبر شبكة الإنترنت من «تايمز أوف لندن» وشقيقتها الصادرة الأحد، وقفت «ساوزرن ريبورتر» الصادرة في سيلكيرك باسكتلندا الأسبوع الماضي تجربة فرض رسوم على قراء نسختها الإلكترونية.

الملاحظ أن «تايمز» بما تتمتع به من سمعة كبيرة ومعدل توزيع يبلغ في المتوسط 505 آلاف نسخة خلال أيام الأسبوع ما عدا السبت والأحد، تحتل موقعا مغايرا تماما داخل سوق الصحف البريطانية عن ذلك الذي تشغله «ريبورتر» التي يقدر معدل توزيعها الأسبوعي بقرابة 15000 نسخة. ومع ذلك تكشف القرارات التي اتخذها مسؤولو الإصدارين بشأن الرسوم التي يدفعها القراء أن بريطانيا أصبحت الآن بمثابة معمل لإجراء تجارب حول مستقبل الصحف في الحقبة الرقمية.

ويتمثل التساؤل الأكبر الذي يجابه الناشرين حاليا فيما إذا كان يمكن إقناع أعداد كافية من القراء بدفع رسوم للاطلاع على النسخ الإلكترونية من الصحف عبر شبكة الإنترنت، بحيث تعوض تراجع العائدات الناجم عن انحسار الإعلانات في النسخ المطبوعة وعائدات التوزيع، أو أنه من الأفضل الإبقاء على مواقعها على شبكة الإنترنت مجانية وانتظار تحقيق عائدات كافية عن طريق الإعلانات.

في هذا السياق قالت فانيسا كليفورد، رئيسة شؤون الإعلانات المطبوعة في «مايندشير»، وهي وكالة إعلامية في لندن: «هناك شعور حقيقي بأننا سنتحول إلى حقل تجارب. لا تزال المملكة المتحدة تعشق الصحف، رغم الحديث الدائر حول تراجعها. إذا عجزت عن إقناع الناس بدفع المال للاطلاع على نسخ الصحف الإلكترونية هنا، فقد لا يحالفك التوفيق في ذلك في أي مكان آخر».

بناء على بعض التقديرات تبقى بريطانيا سوقا نشطة للصحف، حيث تبيع عشر صحف واسعة الانتشار على الصعيد الوطني بصورة مجملة نحو 10 ملايين نسخة يوميا. وفي دولة يقدر عدد سكانها بـ60 مليون نسمة، يعد هذا رقما كبيرا يفوق بكثير المعدل المناظر في دول أوروبية أخرى مشابهة من حيث عدد السكان، مثل فرنسا وإيطاليا. ولا تزال الخبطات الصحافية تترك تأثيرا ملموسا على الأسواق المالية وإسقاط سياسيين وإثارة غضب سائقي سيارات الأجرة.

ومع ذلك لا تزال معدلات التوزيع آخذة في الانحسار. مثلا، عانت «تايمز» وصحيفة يومية أخرى، وهي «غارديان»، من تراجع مبيعاتهما بنسبة فاقت 16 في المائة في فبراير (شباط) عن المستوى الذي كانت عليه في العام السابق. كما جاءت استعادة عائدات الإعلانات، حتى عبر شبكة الإنترنت، نشاطها بعد فترة الركود بطيئة.

تحت وطأة الضغوط التي تعرضت لها كي توقف نزيف الخسائر، وجدت جهات النشر الخاصة بالصحف البريطانية نفسها محط اهتمام الأخبار على نحو متزايد. الشهر الماضي قدمت إحدى دور النشر، «إندبندنت نيوز آند ميديا»، فعليا أموالا إلى المستثمر الروسي ألكسندر واي. ليبيديف كي يستحوذ على صحيفة «إندبندنت». وقبل ذلك بأيام، استقالت الرئيسة التنفيذية لدى «غارديان ميديا غروب»، كارولين مكول، من منصبها لتتولى رئاسة «إيزي غيت». وفي ذلك الوقت أعلنت «نيوز كورب» خططها لفرض رسوم على القراء الذين يتصفحون «تايمز» و«صنداي تايمز» عبر شبكة الإنترنت بداية من يونيو (حزيران).

في الوقت الذي تفرض «فايننشال تايمز» و«وول ستريت جورنال» منذ أمد بعيد رسوما على قراء موقعيهما على شبكة الإنترنت، يضع هذا القرار «تايمز» في مقدمة الصحف الأخرى ذات الاهتمامات العامة التي تنوي فرض رسوم للاطلاع على محتواها على الشبكة العنكبوتية، بما في ذلك «نيويورك تايمز»، التي تتمثل طبعتها الدولية في «إنترناشونال هيرالد تريبيون». ويمهد هذا القرار الساحة أمام اندلاع جدال شديد بين وجهات النظر شديدة التباين بشأن مستقبل الصحف البريطانية.

من ناحية أخرى يرى أنصار فرض رسوم على القراء، مثل جيمس هاردنغ، رئيس تحرير «تايمز أوف لندن»، أن تكاليف تقديم صحافة رفيعة المستوى يتطلب من القراء دفع أموال مقابل الاطلاع على المحتوى عبر الشبكة العنكبوتية.

وأكد خلال خطبة ألقاها على مسامع الصحافيين العاملين تحت قيادته أن «القول بأن صحافتنا لا قيمة لها وأن من الضروري عرضها مجانا عبر شبكة الإنترنت لا يعد نموذجا اقتصاديا ملائما».

واعترفت «تايمز» بأن مطالبة القراء بدفع جنيه إسترليني واحد، أو نحو 1.50 دولار يوميا، أو جنيهين إسترلينيين أسبوعيا، من شأنه تقليص حجم جمهور القراء الذين تحظى بهم حاليا النسخة الإلكترونية المعروضة عبر الشبكة العنكبوتية، والذين يتجاوز عددهم 20 مليون قارئ شهريا. إلا أن هاردنغ قال إن الكثير من هؤلاء القراء مجرد «عابرين» جاء دخولهم إلى موقع الصحيفة عبر محرك بحث أو رابط ما آخر ولا يشكلون قيمة تذكر لجهات الإعلان التي تفضل القراء الأكثر تمسكا بصحيفة أو موقع ما على الشبكة.

وسعيا منها للتأكيد على قناعتها بأن التمتع بجمهور عبر شبكة الإنترنت أقل حجما وأكثر تمسكا بموقع بعينه ينطوي على أهمية أكبر، تنوي «تايمز» التوقف عن إتاحة مقالاتها عبر خدمة جمع الأنباء المرتبطة بمحرك البحث «غوغل»، «غوغل نيوز»، حسبما أعلنت متحدثة رسمية باسم الصحيفة، رغم استمرار ظهور هذه المقالات عبر محرك البحث «غوغل».

وفي إطار جهودها لإقناع القراء بدفع أموال، ينوي موقع «تايمز» على شبكة الإنترنت إضافة جلسات من أسئلة وإجابات مع الصحافيين النجوم، بجانب أدوات أخرى. وسيجري تضمين تطبيقات مرتبطة بالهواتف الجوالة في الاشتراكات الخاصة بالموقع.

في هذا الصدد علق نيك توماس، محلل لدى «فورستر ريسرتش» بقوله: «إنها خطوة جريئة تنتمي إلى نمط الإجراءات التي شاهدناها من قبل مردوخ»، في إشارة إلى روبرت مردوخ، رئيس «نيوز كورب». وأضاف: «لكن هل هذا كفيل بضمان أنها ستنجح؟ الأمر يعتمد في جزء منه على كيفية استجابة المنافسين». في المقابل أعلن أحد المنافسين، وهو «ديلي ميل آند جنرال ترست»، الأسبوع الماضي، أنه من غير المحتمل أن تقدم على فرض رسوم على قراء النسخة الإلكترونية لصحيفتها الرئيسية «ديلي ميل» عبر شبكة الإنترنت. أما شركات نشر الصحف البريطانية الأخرى فأبدت قدرا أكبر من التحفظ في تصريحاتها في هذا الشأن. في الوقت الذي أبدت «فايننشال تايمز» إمكانية إقناع القراء بدفع أموال - حيث ارتفع عدد المشتركين في موقعها الإلكتروني بنسبة 15 في المائة العام الماضي إلى 126000 قارئ، مما تمخض عنه زيادة في عائدات الاشتراك بنسبة 43 في المائة - تعد «فايننشال تايمز» واحدة من الإصدارات المتخصصة، ويتولى دفع الكثير من الاشتراكات شركات وجهات عمل.

الملاحظ أن «ساوزرن ريبورتر» وصحف محلية وإقليمية أخرى تملكها شركة «جونستون برس»، ومقرها إدنبرة، واجهت صعوبات أكبر في فرض رسوم على القراء. وعليه عاودت الشركة الأسبوع الماضي إتاحة موقعها على شبكة الإنترنت مجانا.

وقد رفضت «جونستون برس» التعليق على تقرير ورد في «برس غازيت» حول أن أعداد المشتركين في موقع «ساوزرن ريبورتر» استقر عند مستوى ضئيل. واكتفت الشركة بالقول إن فرض رسوم على القراء للاطلاع على المحتوى الإلكتروني كان خطوة ترمي لخدمة أغراض بحثية.

أما أبرز القلاع الصحافية البريطانية المدافعة عن توفير المحتوى الإلكتروني مجانا فتمثلت في «غارديان». وقد أعلن آلان روسبريدجر، رئيس تحريرها، أن فرض رسوم يعد أمرا سيئا من الناحية التجارية، علاوة على أنه يتنافى مع روح الانفتاح التي تمثلها شبكة الإنترنت. وصرح مؤخرا بأنه «إذا فرضت سياجا عالميا حول المحتوى الخاص بك فهذا يعني أنك تنسحب بعيدا عن عالم يقوم على التشارك المفتوح الحر».

في الوقت الذي يساور الناشرين القلق حيال أن كعكة الإعلانات عبر شبكة الإنترنت قد لا تنمو أبدا بدرجة كافية، فإنهم يدركون أيضا مخاطرة أخرى وراء فرض رسوم على المحتوى الإلكتروني، وهي خسارة القراء لصالح «بي بي سي» التي تعد مواقعها المجانية من بين أكثر مصادر الأنباء شعبية على شبكة الإنترنت داخل بريطانيا.

حتى في الوقت الذي تتحرك «نيوز كورب» نحو جني مزيد من العائدات من القراء، يتحرك بعض الناشرين في الاتجاه المقابل. على سبيل المثال، في أعقاب شرائه «إيفننغ ستاندرد»، وهي صحيفة لندنية، العام الماضي، حولها ليبيديف إلى إصدار مجاني، الأمر الذي أحدث زيادة هائلة في معدل التوزيع ورفع عائدات الإعلانات.

الآن هناك تكهنات بأن ليبيديف قد يقدم على تغيير مشابه بالنسبة لـ«إندبندنت»، التي تراجع معدل توزيعها إلى 184000 نسخة.

ومن المعتقد أن تأثير مثل هذه الاستراتيجيات المتباينة بشدة - ما بين فرض رسوم وتوفير الإصدارات مجانا - سيتضح بدرجة أكبر في الشهور القادمة، بيد أن ذلك لا يعني أن حلولا واضحة ستصبح متاحة أمام الجميع. في هذا السياق، كتب روسبريدجر في مذكرة موجهة إلى فريق العاملين المعاون له: «من المحتمل أن لا يتوافر في النهاية إطار عمل «صائب» للجميع بالنسبة للمستقبل. قد تظهر نماذج متباينة داخل صحيفة واحدة. وحتى الوصول إلى الشكل الأمثل، قطعا سنقترف بعض الأخطاء».

* خدمة «نيويورك تايمز»