رئيس تحرير «نيويوركر»: لم أرفض تحقيقا جيدا بسبب التكلفة المادية

ديفيد ريمنيك لـ «الشرق الأوسط» : «سي آي إيه» شعرت بالقلق لأن إرهابيي العراق ظنوا أحد كتابنا ليس صحافيا

ديفيد ريمنيك («نيويورك تايمز»)
TT

ديفيد ريمنيك رئيس تحرير «نيويوركر»، 51 عاما، يتمتع بخاصية لا توجد في كثير من الإعلاميين، فهو يعرف مقدما أنه يعمل في مهنة المتاعب، وهو مشغول بها، لا يتوقف عن العمل والتفكير بها، فهو يقدم التقارير الإخبارية، ويؤلف الكتب، ويدير المجلة، ويركض خلف الإعلانات من أجل توفير التمويل اللازم لكتابة القصص الناجحة المؤثرة، وهو مزيج يجمع بين مهارات اللاعب والمدرب في نفس الوقت. فعائلته، ومحرروه، ووكلاء الإعلانات، يشعرون دائما كأنهم يحتلون قمة أولوياته، كما أنه استطاع تحقيق الأرباح لواحدة من أعرق دور النشر في العالم. بعد أن طلبت «الشرق الأوسط» إجراء حوار صحافي معه عبر البريد الإلكتروني، أرسل رسالة تقول: «سأسهر على الأسئلة»، وفي صباح اليوم التالي كانت الأجوبة جاهزة على بريد «الشرق الأوسط». يقول المقربون منه إنه شعلة من النشاط لا يتوقف عن العمل، أما هو فقال لـ«الشرق الأوسط»: «الصحافي الجيد الذي نبحث عنه تميزه الموهبة والحماسة»، مؤكدا أن مشاهير مهنة المتاعب بالولايات المتحدة «ليسوا من خريجي هارفارد أو حاصلين على درجات الدكتوراه»، وفي فريقه بـ«نيويوركر» عشرات الصحافيين الموهوبين، الذين تركوا بصمات مهمة في تاريخ المهنة أمثال سيمور هيرش الذي فجر فضيحة «سجن أبو غريب»، وكشف عن مذبحة «ماي لاي» فيتنام عام 1969، وقد أطلقت أميركا على هذه العملية اسم «العنقاء»، ولورانس رايت صاحب كتاب «البروج المشيدة: «القاعدة» والطريق إلى 11 سبتمبر» (أيلول)، وجورج بيكر، الصحافي الاستقصائي المتخصص، الذي كتب أكثر من مقال مهم عن مرحلة ما بعد الحرب في العراق. فإلى نص الحوار:

* كيف بدأت حياتك المهنية في مجال الصحافة؟ وهل كانت هناك لحظة حاسمة تأكدت فيها أنك اخترت الطريق الصحيح؟

- عندما كنت طفلا كنت أعشق الصحف والأخبار، وبدأت الكتابة في صحيفة المدرسة العليا التي كنت أذهب إليها. وفي سن المراهقة كتبت في صحف محلية. وخلال المرحلة الجامعة، داخل برينستون، كنت صحافيا حرا أرسل موضوعات إلى الكثير من الصحف الإقليمية. وعملت صحافيا أساسيا في بادئ الأمر لدى صحيفة «نيوزداي» في لونغ أيلاند وبعد ذلك في صحيفة «واشنطن بوست»، حيث بدأت أكتب تقارير صحافية من 1982 حتى 1992. وعملت لمدة أربعة أعوام في مكتب صحيفة «واشنطن بوست» بموسكو خلال أعوام غورباتشوف - يلتسين. ولم أفكر في يوم من الأيام في القيام بشيء غير ذلك. ودائما ما كنت أرى أن العمل الصحافي هو الذي سيمكنني من خلاله رؤية العالم، وأنه المجال الذي يمكنني من الكتابة. وأعتقد أني كنت على صواب.

* هل يمكن أن تخبر القراء العرب عن كتابك الأخير «الجسر: حياة وصعود باراك أوباما»، وعن الأشهر التي استغرقتها في تأليف هذا الكتاب، وكم عدد المرات التي قابلت فيها الرئيس أوباما؟

- كتاب «الجسر» عبارة عن سيرة شاملة لباراك أوباما تنتهي بانتخابه رئيسا للولايات المتحدة. وبعيدا عن حياة أوباما نفسه، يركز الكتاب على قصة ملحمية أليمة وطويلة خاصة للعرق داخل أميركا، وكيف أصبح ممكنا انتخاب هذا الرجل، وهو أميركي من أصول أفريقية، رئيسا للولايات المتحدة. وقابلت أوباما لأول مرة عندما كان يفكر في الترشح لمنصب الرئيس، وأجريت مقابلة معه فينكس. وقضيت ما يزيد قليلا على العام في تأليف هذا الكتاب.

* ما هو التحقيق الأكثر كلفة والذي استغرقت الوقت الأطول في صحيفة «نيويوركر»؟

- من الصعب حساب ذلك، ولكن بالتأكيد استغرقت بعض التحقيقات عاما في كتابتها. واستغرق البعض أكثر من ذلك، واستغرق البعض أسابيع قليلة. وفي بعض الأحيان يتم تحقيق مثل قصة سيمور هيرش داخل أبو غريب سريعا. الفكرة هي أن يستغرق التحقيق الوقت الذي يستحقه.

* كصحافي تحقيقات، يستغرق الكثير من مقالاتك أسابيع أو أشهر من البحث. هل يمكن أن توضح كيف تقنع مصادرك بتقديم المعلومات القيمة التي تحتاج والتي دائما ما تكون سرية ولا يتاح للآخرين الاطلاع عليها؟

- أعتقد أن سمعة المجلة وشهرتها في العمل الصحافي الحريص والعميق تجعل المصادر، وبالطبع القراء، يشعرون بالاطمئنان. المجلة موجودة منذ ما يزيد على ثمانين عاما، وهذا وقت جيد داخل أميركا.

* التحقيقات التي تستغرق وقتا طويلا، لا سيما تلك التي تتم في دول أخرى تكلفتها المادية كبيرة. من الذي يدفع تكلفة إجراء هذه التحقيقات؟ وهل تم رفض فكرة ما داخل «نيويوركر» بسبب التكلفة؟

- لم أرفض قط تحقيقا جيدا لأسباب ترتبط بالتكلفة المادية.

* أنت رئيس تحرير مجلة أسبوعية كبيرة، فمن أين تحصل على الموافقة على تحقيق تريد كتابته، أو إذا اكتشفت ما تعتقد أنه سيكون قصة شيقة؟

- كرئيس تحرير للمجلة، لديّ استقلالية تامة، ولا يجري التشاور أبدا مع مالك المجلة سي نيوهاوس بخصوص القصص قبل إخراجها. ولا يقرأ سوى المنتج النهائي. وأرى أن ذلك وضع مثالي. ويجب أن يعتمد على تقييم هذا المحرر.

* إلى أي مدى يمثل الشرق الأوسط منطقة هامة في تغطيتكم الإخبارية؟

- وُجهت إلي انتقادات بسبب الكثير من الأشياء، ولكن لم أُنتقد يوما بدعوى أني لا أهتم بمنطقة الشرق الأوسط بالصورة الكافية. وفي فترتي، نشرنا تحقيقات متعددة من كل مكان داخل المنطقة كتبها لورانس رايت وجورج بيكر وجون لي إندروسون وسيمور هيرش وديفيد ريمنيك وماري آن ويفر وآين باركر وآخرون. والأماكن التي جرى تغطيتها هي السعودية والعراق وسورية ومصر ولبنان وإسرائيل وفلسطين واليمن والأردن وأماكن أخرى. ومن المهم قطعا فهم المنطقة، لا سيما الساحة السياسية داخلها، بالإضافة إلى ثقافتها.

* هل ترى أن من المهم أن يكون يقوم صحافيون متخصصون بتغطية أخبار معينة، على سبيل المثال صحافيون لديهم معرفة بتنظيم القاعدة أو الأوضاع داخل العراق أو أفغانستان أو لبنان؟

- بالطبع، ولكن لا أعتقد أنه يجب أن يحصل على درجة الدكتوراه، ولكن من الحمق الاعتقاد أن يمكنك الذهاب إلى دولة وتقضي أسبوعين هناك وبعد ذلك تعود بشيء يتجاوز نظرة سطحية لما يحدث فيها. وهذا هو السبب الذي يجعلنا ندفع الصحافيين إلى البقاء لمدة مناسبة، والقراءة بعمق حول الموضوعات التي يتناولونها، والعودة إلى المنطقة بصورة دورية.

* كرئيس تحرير لمجلة «نيويوركر» وعلى ضوء التحقيقات التي تقومون بتغطيتها، هل شعرت أنك تخضع لرقابة من مكتب التحقيقات الفيدرالي أو غيرها من الهيئات الأمنية؟

- رقابة؟ لا. في إحدى المرات اكتشف لاري رايت أن هناك اهتماما به لأنه اتصل بمصادر معينة داخل الشرق الأوسط. واتصلت بي وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لأنهم كانوا يشعرون بالقلق لأن المتمردين في العراق ظنوا بطريق الخطأ أن أحد كتابنا تابع للاستخبارات المركزية لا صحافيا. ولكن بصورة عامة، لا.

* على ضوء الاستخدام الكبير للإنترنت، هل تعتقد أن الصحافة المطبوعة تواجه تهديدا معينا؟ وما رأيك في اقتراح فرض رسوم على مطالعة المحتوى الإخباري على الإنترنت بدلا من إتاحته للقراء مجانا؟

- من الواضح أن الدوريات المطبوعة كافة تتحرك ناحية إصدارات رقمية لنفسها، وأعتقد أنه سيمكن للقراء مطالعة العناوين الرئيسية وأخبار بسيطة مجانا. ولكن إذا كانوا يريدون أخبارا مفصلة مثل تلك التي تنشرها صحيفة «نيويورك تايمز» أو مجلة «نيويوركر»، فإن ذلك يبرر فرض رسوم على مطالعتها. وأعتقد أن الطلب، والقراء، يتحكمان في الأمر. وأعتقد أن الملايين يريدون شيئا مفصلا يتجاوز مجرد عناوين رئيسية.

* كان للتباطؤ الاقتصادي آثار كبيرة على الكثير من القطاعات، كيف ترى مستقبل الصحف، لا سيما مجلة «نيويوركر»، في هذه الأوقات الصعبة؟

- لم يكن الركود الاقتصادي عام 2008 بالشيء السهل، ولكني متأكد من أننا سنكون في حال أفضل.

* وُجد أخيرا أن واحدا من كل عشرة خريجين جامعيين غير قادر على العثور على وظيفة داخل المملكة المتحدة، على الرغم من حصولهم على درجات عملية كبيرة. ما الدرجة العلمية التي يحتاج إليها من يرغب في العمل لدى صحيفة بارزة أو مجلة مثل «نيويوركر»؟ وإلى أي مدى من المهم أن يكون لديه هذه المؤهلات؟

- لا يمثل الحصول على درجة علمية من جامعة هارفارد ضمانا لأي شيء. في العمل الإعلامي بقي سيمور هيرش الصحافي المبدع صاحب التغطيات المثيرة والبصمة الصحافية أقل من 10 ساعات في كلية القانون بجامعة شيكاغو، ولست متأكدا ما إذا كان كارل بيرنستين (شريك بوب ووودوارد في موضوع ووترغيت) أتم الدراسة الجامعية أم لا. ما نبحث عنه هو الموهبة والحماسة.

* ما نوع الكتابة الذي تفضله بصورة شخصية، المقالات التحقيقية أم المقالات الخاصة أم الأسلوب الأدبي؟

- النقطة هي أن يكون المرء متميزا في المجالات كافة، بدءا من التحقيقات وصولا إلى الشعر. ومن دون الأدب، على سبيل المثال، لن توجد مجلة «نيويوركر». أشعر بالمتعة عند نشر قصة إخبارية رائعة أو مقال نقدي بالصورة التي أشعر بها عند نشر تحقيق رائع.

* في رأيك، ما القصة الإخبارية لديكم الأكثر نجاحا لك حتى الآن؟

- التحقيقات التي جذبت أكبر اهتمام من مختلف أنحاء العالم هي تحقيقات سيمور هيرش الثلاثة التي كشفت خلالها عن فضيحة أبو غريب داخل العراق، وتحقيقات جين ماير حول التعذيب إبان إدارة بوش.

* هل يمكن أن تصف لي اليوم النموذجي داخل «نيويوركر»؟ وعلى سبيل المثال، كيف تدرس الأفكار الجديدة؟ وكيف تدار اجتماعات التحرير؟ وما عملية إخراج المنتج النهائي؟

- لا يوجد يوم نموذجي في «نيويوركر» سوى أنني أبدأ يومي في الصباح الباكر بالقراءة والمرور على بقية الأقسام وانتهي متأخرا أيضا بالقراءة، وفي داخل كواليس العمل اليومي هناك لقاءات لا تتوقف مع المحررين والكتاب، ونخطط معا لأعمال قادمة. ونحل مشكلات العمل اليومية، ولا نتوقف أبدا عن الحلم بيوم آخر أفضل.