قصة أوباما تلقي بظلالها على القصص الحقيقية للرئاسة

يدرك الصحافيون والسياسيون جيدا أن الناخبين بطبيعتهم يتفهمون العالم عبر القصص

TT

تبدو قصة أوباما كما لو كانت أغنية مستقاة من إحدى إلاهات الغناء التسعة القديمة.

ولننظر على سبيل المثال عندما وصفت هذه الصحيفة في يناير (كانون الثاني) خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه أوباما بأنها «محاولة لتحديد قصة» العام الأول الرئاسي لأوباما، أو في أبريل (نيسان) عندما شرعت «هفنغتون بوست» في «إعادة اكتشاف الخطاب الأوبامي»، أو هذا الشهر عندما تعجبت مورد داود، كاتبة عمود صحافي، كيف يمكن لهذا القاص الموهوب «فقدان السيطرة على قصته». وسجل المدون مارك هالبيرين على مدونته «ذي بيدج» صدمته بعنوان: «الخطابان النقدي والصحافي يتحدان ضد أوباما».

من جانبهم، يدرك الصحافيون والسياسيون جيدا، مثلما الحال مع الجميع، أن الناخبين بطبيعتهم يتفهمون العالم عبر القصص. وينظرون إلى الانتخابات باعتبارها تنافسا بين قصص صحافية متعارضة، الأمر الذي بدا أوباما، الذي يعد كاتبا بليغا، وفريق العمل المعاون له المعني بصورته السياسية، مدركين له تماما مع صياغتهم صورة أوباما كعنصر قادم من خارج واشنطن لإحداث تحول بها، وأن إيمانه الجاد والتام، غير المنحاز إلى حزب بعينه، بالكفاءة وبناء الجسور واتخاذ النهج الصائب من شأنه تحسين أوضاع الأمة. ونجحت هذه الصورة في الفوز بـ53% من أصوات الناخبين في الانتخابات العامة.

إلا أنه الآن اكتسبت القصة الأوبامية حياة خاصة.

في هذا الصدد، قال ديفيد أكسلرود، المستشار الخاص لأوباما لشؤون الخطابة وفن الوقوف على المسرح والدلالات السياسية لما يفعله الرئيس: «أصبحت هناك تغطية وتعليقات كثيرة للغاية موجهة لخطاب أوباما وكيفية تصرفه على المسرح والدلالات السياسية لما يفعله. عندما تصبح رئيسا للولايات المتحدة، فإن أهم ما عليك عمله هو التكيف مع الكوارث».

رغم نقائص حديثه، فإن عبارة أكسلرود تحمل وجهة نظر سديدة، حيث نجد أن مشكلة التسريب النفطي المرتبط بشركة «بريتيش بتروليم» باعتبارها أحدث حبكة درامية في ملحمة أوباما. إلا أن النفط المتدفق من قاع محيط خليج المكسيك لا يشكل أسوأ كارثة بيئية في التاريخ الأميركي فحسب، حيث أظلمت منطقة الخليج ومعها حياة الآلاف وسيطر على البلاد بأكملها شعور بالعجز، وإنما تعد تجسيدا لفقدان أوباما السيطرة، لحظة كاشفة يمكن خلالها إمعان النظر في بطل قصتنا. هل سيشعر بآمال الملاح المسافر بعيدا؟ هل سيهتز جسده من شدة الغضب؟ هل سيذرف الدموع لتمتزج بمياه البحر المالحة؟

لم تحمل الاستجابة الحكومية الأولية طابعا دراميا كافيا لتهدئة أصوات الكورس. وعليه، عمد أوباما إلى زيارة منطقة خليج المكسيك مرة بعد أخرى. مع تركز الكاميرات عليه، اندمج أوباما مع شخصية بطل الرواية وانحنى على الأرض وحمل في قبضته بعض الرمال يقلبها بين أصابعه. وفي المقابلات التلفزيونية الصباحية، حمل وجهه تعبيرات الغضب وبدا أنه يفكر مليا من ينبغي الانتقام منه. ثم ألقى أول خطاب من المكتب البيضاوي، مساء الثلاثاء، متحدثا بلهجة عسكرية عن «معركة»، وسعى خلال الخطاب إلى دفع قصة التسريب النفطي بعيدا عنه. وعمل على حشد التأييد للمضي قدما في سن تشريع جديد بمجال الطاقة. وصاح أوباما بصوت أشبه بالرعد قائلا: «الآن، حانت لحظة شروع هذا الجيل في مهمة وطنية لإطلاق العنان لروح الإبداع الأميركية وإحكام قبضة سيطرتنا على مصيرنا».

بيد أن جزءا كبيرا من رد الفعل تجاه الخطاب بدلا من التركيز على مأساة الكائنات البحرية في خليج المكسيك أو الأجندة التشريعية، تعامل مع الخطاب باعتباره مشهدا جديدا في فصول قصة أوباما الدائرة. على سبيل المثال، اشتكى إد هنري، مراسل محطة «سي إن إن» لدى البيت الأبيض، من أن أوباما لم يناقش حجم النفط المتدفق إلى مياه الخليج «ربما لأن ذلك لا يتماشى مع خطابه القائم على فكرة أن الحكومة مسيطرة على كامل الأمر».

في خضم هذه اللحظة المهمة على وجه التحديد، تعلو قصة أوباما فوق الأحداق، مشتتة الأنظار بعيدا عن كارثة خليج المكسيك، وملقية بظلالها على تساؤل ما إذا كانت الإجراءات الفعلية التي اتخذتها الحكومة كافية، الأمر الذي أبعد المشاهدين والمستمعين عن الواقع. الملاحظ أن القصة يجري تحديثها باستمرار - ففي يوم يكون أوباما بطلا، وفي التالي يتحول إلى جبان رعديد - بينما تطالب دوائر الإعلام النهمة والجماهير التي فقدت صبرها بوضع خاتمة.

في هذا الصدد، قال ديفيد شي، رئيس جامعة فورمان بكارولينا الجنوبية، الذي يعكف على وضع النسخة التاسعة من «أميركا: تاريخ سردي»، وهو كتاب دراسي جامعي ذائع الصيت: «إننا نناضل من أجل الإبقاء على فكرة السرد في عصر يقوم على التزامن والمعاصرة. ويخلق الطلب على التحليل ومعنى الأشياء على نحو فوري هجوما ضد السرد الحقيقي».

ويقوض كل ذلك الفكرة التقليدية التي تدور حول السرد باعتباره قوسا يأخذ في التشكل ببطء ويلزمه منظور للحفاظ عليه. في هذا السياق، أعرب روبرت إيه كارو، الفائز بجائزة «بوليتزر» مرتين، وتعد السيرتان الذاتيتان اللتان وضعهما لروبرت موزيز، وليندون جونسون، نموذجين مثاليين لنمط الكتابة السردي غير الأدبي، عن اعتقاده بأن «السرد بمعناه الحقيقي يعني مقدمة ووسط وخاتمة. تلك هي عناصر القصة».

واعترف أكسلرود بأن حملة أوباما الانتخابية ربما تكون قد خلقت ما يشبه وحش فرانكنشتاين بشروعها في سرد مثل هذه القصة الأخاذة في البداية. وأضاف: «لقد سردوا هذه القصة على نحو رائع». واستطرد موضحا أن المشكلة تكمن في أن القصة حول القصة هي ما يعبأ به الصحافيون في الأساس في الوقت الراهن. بالتأكيد، تحمل تصرفات الإدارة دلالات سياسية، وغالبا تكمن وراءها دوافع سياسية، لكن وسائل الإعلام تسعى إلى تناول كل مقترح يتعلق بسياسات البلاد وكل إيماءة دبلوماسية وكل قرار تعيين حكومي، والآن كل كارثة، عبر هذا المنظور. وأوضح أكسلرود أن «أحداثا تقع لا تتوافق بصورة كاملة مع القصة، لكن هذا لا يعني أن بإمكانك إرجائها، أو التشديد على أسلوب السرد بدلا من حل المشكلة».

إلى حد ما، يسهم البيت الأبيض في إطالة أمد هذه المشكلة. سعيا إلى حماية الشخصية السياسية للرئيس، تعمد الإدارة إلى تحصينه ضد المؤتمرات الصحافية غير المتوقعة وتقليص إمكانية الوصول إلى صانعي القرار أصحاب وجهات النظر المستقلة. وفي محاولة للالتفاف على فصول القصة المنافسة، تظهر بعض التعليقات الهامسة في الخلفية وتنشر مدونة البيت الأبيض «WhiteHouse.gov» أنباء تعمد لإطالة أمد سرد قصة أوباما إلى الأبد. إلا أنه كلما زادت سيطرة الإدارة على المعلومات والرسالة الصادرة عنها، كثرت كتابات الإعلاميين حول الأمر الوحيد الذي يمكنهم الاطلاع عليه من دون قيود، القصة. وجاءت ردود فعل أوباما متمثلة في اتخاذ إجراءات أكثر صرامة حيال «بريتيش بتروليم» وإبداء تألمه للكارثة التي حلت بالأحياء البحرية في منطقة التسريب النفطي. أما الصحافيون، بينهم بعض أكثر المراقبين تمتعا بحدة الملاحظة، فباتوا يرون أن تحولا ما يجري. لذلك، عملوا على إدخال مزيد من التصليحات على القصة، أو التلميح إلى أن الأهمية الحقيقية تكمن في القصة ذاتها. من جانبه، قال مات باي في «نيويورك تايمز» هذا الشهر: «رغم كل حديثنا عن الآيديولوجيا والكفاءة، فإن تقييمنا للرؤساء لا يعتمد على أي من هذين العنصرين بمعزل عن كل الأمور الأخرى. إن المهم هو وجهة النظر - أو ربما الاعتقاد المضلل - بأن المرء يشارك في صياغة الأحداث، وليس يتشكل بها». إلا أنه بعد مرور عقود، أصبحت ضخامة هذه المؤسسة واضحة. من ناحيته، قال كارو، الذي يعكف على تأليف المجلد الرابع من كتاب «سنوات ليندون جونسون» إنه يعمل على استكشاف مزيد من المعلومات بشأن حقبة جونسون من المقتطفات الصحافية المرتبطة بها. وقال: «الأحداث التي تقع في اللحظة ذاتها، تبدو على قدر هائل من الأهمية. لكن بعد أسبوع، نجد أن كتّاب الأعمدة الصحافية الذين كانوا يتحدثون بثقة عن فكرة ما يقولون أمرا متناقضا بنفس النبرة الواثقة».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»