ستيفن فرانكلين: تغيير الصورة السلبية عن العرب مسؤوليتنا كمراسلين أجانب

المدرب الصحافي بجامعة نورث ويسترن الأميركية لـ «الشرق الأوسط»: تحولات الإعلام السعودي في العقدين الأخيرين فاقت التصورات

ستيفن فرانكلين («الشرق الأوسط»)
TT

لثلاثين عاما ظل ستيفن فرانكلين يجوب أرجاء العالم كمراسل أجنبي وصحافي عمالي، وكإنسان يهتم بشؤون البشر، ويناصر أحلامهم في العدل والمساواة والحرية.

في عام 1968 وطئت قدماه أرض مصر للمرة الأولى ليعشق من خلالها الشرق الأوسط، ويتجول في أرجائه للعمل والحياة معا. ورغم مأساوية معظم الأحداث التي اضطر إلى تغطيتها، فإنه كان يبحث دائما عن جوانب إنسانية يلقي عليها المزيد من الضوء، ما جعله أحد أكثر الصحافيين تميزا في العالم، ورشح لنيل جائزة بوليتزر الصحافية المرموقة.. ولكنه أحرز المركز الثاني.

عمل فرانكلين في عدد من الصحف العالمية في أميركا والوطن العربي، مثل «شيكاغو تريبيون». وهو حاليا مدير لمشروع لتدريب الصحافيين بالجامعة العمالية في جامعة نورث ويسترن الأميركية. وقد دفعه اجتهاده وإصراره على أن يتعلم حزمة من اللغات مثل العربية والتركية والعبرية والإسبانية والفرنسية، كما أبقى تواصله الإنساني على صداقات بلا حدود حول العالم.. يعطي الكثير من وقته لتدريب الصحافيين بلا مقابل، إيمانا منه برسالة يحملها، وأن الصحافيين يجب أن يتعاونوا ويشد بعضهم من أزر بعض.

أخيرا حضر فرانكلين إلى القاهرة كضيف رئيسي في ورشة عمل أقامتها نقابة الصحافيين المصريين للتدريب على مهارات التغطية الإخبارية والتحقيقات الصحافية الاستقصائية الخاصة بالشؤون العمالية.. وعلى هامش هذه الورشة التقته «الشرق الأوسط» في هذا الحوار..

* حدثنا عن خلفيات عملك كصحافي متخصص بالشؤون العمالية، وما الذي أثار اهتمامك في قضايا العمل والعمال؟

- عملت في البداية كصحافي اقتصادي، ولكن ما لبثت أن بدأت في الاهتمام بقضايا العمال لأني أعتقد أن العمال هم كل البشر، بدءا من الرؤساء وحتى المرأة في منزلها والطالب في مدرسته. وقد كنت أثير «جنون» زملائي في قسم الاقتصاد بتقاريري العمالية، لأنهم كانوا يهتمون بالجانب الآخر من القصة، وهو التواصل مع أصحاب العمل وتغطية الأرقام والإحصاءات، بينما أهتم أنا بالجانب الأكثر إنسانية - من وجهة نظري على الأقل - وهو الخاص بالجموع العمالية. هذا التخصص يواجه ندرة فائقة في العالم أجمع، ففي أميركا اليوم على سبيل المثال لا يوجد سوى 4 متخصصين أنا أحدهم، حتى إنني عندما تركت العمل في «شيكاغو تريبيون» لم يجدوا بديلا يغطي هذه النوعية من الأخبار. ويحضرني موقف طريف في هذا الشأن، ينم عن نظرة المجتمع عموما إلى من يتخصص في الشؤون العمالية، حيث إنني كنت أحضر مؤتمرا صحافيا يناقش أحد رؤساء الشركات، فسألته سؤالا، لينظر لي نظرة فاحصة قبل أن يسألني بدوره: «ألست أنت من يغطي الشؤون العمالية؟ ماذا فعلت لتعاقبك صحيفتك وتخصصك في هذا الأمر؟».

* عملت بمنطقة الشرق الأوسط لفترات طويلة وتتحدث عدة لغات من بينها العربية، فكيف تعلمتها؟

- حينما حضرت لمنطقة الشرق الأوسط للمرة الأولى لم أكن أعرف العربية، ولذلك سارعت إلى البحث عن معلم فور عودتي إلى أميركا. وأذكر أن المعلم الذي درس لي كان من المدرسة القديمة للمعلمين، وعلى ما أذكر كان أزهريا، فكان يعلمني بطريقة ما تطلقون عليه اسم «الكُتّاب»، حيث يجعلني أقرأ في القرآن ثم يختبرني، وحينما لا أجيب يعاقبني بالوقوف في ركن القاعة رافعا يدي إلى أعلى كالتلاميذ.. وما زلت أخشاه حتى اللحظة الحالية حينما يرد على خاطري.

* إذن تعلمت العربية من خلال قراءة القرآن؟

- نعم، وأثر هذا على لغتي، حيث إنني أتحدث بالفصحى.. كما أنني استفدت من القرآن حيث تعلمت بعض سمات الثقافة العربية وخلفياتها.. مما يسّر علي التعامل في الوطن العربي في ما بعد.

* وكيف سارت أيامك في الوطن العربي؟

- أتيت إلى مصر في عام 1968، بعد أقل من عام على حرب يونيو (حزيران)، للعمل كمراسل أجنبي. وهي فترة شائكة بلا شك.. حيث كان المجتمع المصري عموما متشككا تجاه «الأغراب» أيا كان انتماؤهم، فما بالك إن كان أميركيا؟! ولكنّ المصريين معروفون بدقة حدسهم وطيبتهم المفرطة.. ولذلك تمكنت من التواصل معهم بسلاسة بعد أن حزت على ثقتهم. أيضا ذهبت إلى لبنان في فترة حرجة.. في عام 1982، فترة الاجتياح الإسرائيلي. وبقيت لفترة في الأراضي الفلسطينية والإسرائيلية. وذهبت إلى أفغانستان أيام حكم طالبان، وإلى الحدود العراقية السعودية قبيل عملية عاصفة الصحراء مباشرة. وهي في مجملها ظروف صعبة.. ولكن العوامل الإنسانية والاحترافية كانت تخفف من وتيرتها ووقعها على نفسي.

* برأيك لماذا يشعر الناس بالخوف؟

- هذا طبيعي، فأنت غريب، والناس قد تعتقد أن لديك «أجندة» أو استراتيجية خاصة.. وقد يكون هذا ناتجا عن خطأ عندي في طريقة توجيه الأسئلة لعدم إلمامي ودرايتي الكافية بمكنونهم الاجتماعي والثقافي.. فهناك اختلافات ثقافية حتى بين الدول العربية ذاتها.. وعندما وعيت كيف أتواصل مع الناس كتبت أخبارا أفضل. كما التقيت شخصيات تكره «الأميركان» دونما أسباب، وترفض الحديث معي بمجرد معرفة هويتي.

* وما سر وجودك في القاهرة حاليا؟

- أنا في القاهرة للعمل كمدرب في الصحافة العمالية لفترة قصيرة بالتعاون مع نقابة الصحافيين، وذلك نابع من إيماني بمسؤولية الصحافيين لمساعدة بعضهم بعضا، سواء من حيث العمل الميداني أو التدريب بالنسبة لمن هم أقل خبرة. ويجب أن يظل الصحافيون حول العالم مترابطين ومتواصلين بشكل أو بآخر، فرغم أنني هنا لتدريب الآخرين، فإنني أتعلم الكثير من الخبرات المضافة عبر التواصل مع المتدربين.

* ما الصحف التي عملت لها؟

- عملت لسنوات طويلة كصحافي اقتصادي متخصص بالشأن العمالي في صحف ولاية شيكاغو مثل «شيكاغو تريبيون»، وصحف في ولايات ديترويت وواشنطن وميامي، كما عملت كمراسل أجنبي في الكثير من الدول بالشرق الأوسط وأوروبا وأميركا الجنوبية.

* ما أبرز العقبات التي واجهتك كمراسل أجنبي إبان العمل بمنطقة الشرق الأوسط، وخصوصا مع اختلاف الثقافة واللغة؟

- سؤال جيد، هناك الكثير من العقبات.. أولها اللغة، وحاولت بأقصى الجهد أن أتعلم العربية.. وعلى الرغم من عدم اتقاني التام للعربية، فإنني الآن أستطيع، من واقع الخبرة في الوطن العربي، أن أعي ما يقوله الشخص الذي أمامي عن طريق الحدس والاستشفاف. كما بذلت جهدي لفهم طبيعة تكوين المجتمع العربي، فلم أكتب فقط موضوعات تختص بالمجالات السياسية والاقتصادية، ولكنني حاولت قدر المستطاع أن أشرح المحتوى الثقافي العربي للقارئ الغربي.. وأن أقرب المسافة قدر الإمكان بين الثقافتين، عبر ترجمة - إن صح التعبير - طريقة حياة الإنسان العربي البسيط إلى لغة يفهمها ويهضمها القارئ الأميركي. أيضا حاولت أن أزيح النمطية عن صورة العرب التي يراها المجتمع الأميركي، وهذا لم يكن أبدا سهلا، واستغرق الكثير من الوقت، وما زال يحتاج إلى جهود الآخرين لتفادي هذه العقبة.

* وما العقبة الثانية؟

- العقبة الثانية هي نيل ثقة الناس، وهذا تطلب مني بذل المزيد من الجهد والوقت لكسب الثقة.. وأحيانا كنا نعاني من الأخبار ذاتها، حيث شهدت نحو 4 حروب أثناء عملي بالمنطقة العربية وقمت بتغطية أخبارها للصحف الأميركية.. ولذلك فإن كل ما كنا نوصله إلى المجتمعات الغربية - كمراسلين أجانب - في تلك الفترة كان يتناول أخبار الحرب ذاتها بمعاركها وتحركاتها، وهو الأمر الذي أفقدني الوقت اللازم لكتابة موضوعات أخرى أهتم بها وتمس العالم الإنساني والاجتماعي الخاص بالشرق الأوسط، وعليه فقد غطينا الحروب ونسينا البشر أنفسهم. وأذكر أنني كتبت ذات مرة موضوعا عما يفعله الناس في القاهرة في ليلة صيفية حارة.. فانتقلت من زفاف فخم إلى مطعم راقٍ إلى الناس البسطاء الذين يقضون أوقاتهم على ضفة النيل.. وشعرت أنني بذلك قد قصصت قصة القاهرة الكاملة.. وأرسلت الموضوع إلى صحيفتي، ثم ذهبت إلى تونس في الصباح التالي.. لأجد رسالة تنتظرني من رئيس التحرير مفادها أن ما كتبته هو أشبه بالشعر، وأنه أحبه جدا، وأنا دائما ما أعتبر هذه القصة من أفضل ما كتبت لأنني تمكنت فيها من إحضار «أعين» الناس عبر المحيط لتلقي نظرة فاحصة على القاهرة.. ولكنني أيضا خبرت مواقف صعبة في خلال 50 عاما من العمل.. فقد حضرت 3 حروب في العراق.. ورغم أن ذلك ينعكس على الصحافي في معاناة شديدة فإنه على الجانب الآخر يجعله شديد الاقتراب من البشر.

* عملك يستلزم أحيانا الوقوف بين قوتين، إحداهما القوى البشرية متمثلة في القوة العمالية، والأخرى قوة رأس المال متمثلة في الـ«تايكونز» من أصحاب العمل والشركات العملاقة.. فهل أدى ذلك إلى تعرضك لمخاطر أو تهديدات من أي نوع، وكيف تعاملت معها؟

- الغريب أن معظم التهديدات التي تلقيتها في أميركا لم تكن من أصحاب المال، بل كانت من الاتحادات العمالية (النقابات)! وذلك لأن معظم هذه الاتحادات يشوبها الفساد، وهاجمتها وانتقدتها بشدة في موضوعاتي، لأنني دائما ما أحاول تحري الدقة والصدق في كتاباتي، وتحركني دائما القضايا الإنسانية.. في أميركا الوسطى (هندوراس وغواتيمالا وغيرهما) تناولت موضوعات عمالية، وهناك الوضع خطير جدا فلا مجال للهزل وحاولت الحرص في التعامل معهم قدر الإمكان.. وكتبت أيضا عن العمال المهاجرين عبر الحدود من المكسيك إلى الولايات المتحدة.. وكان هذا في غاية الخطورة نظرا لأن معظم هذه الهجرات تتم بطرق غير شرعية عبر عصابات إجرامية منظمة.. بعض الاتحادات الأميركية تحولت إلى أعمال خاصة بها بدلا من دورها الحقيقي، وحولت عملها إلى تجارة خاصة وبيزنس لا علاقة له بدورها الحقيقي.

* كغربي عاش بالمنطقة العربية لفترة طويلة، وعرف حقيقة المجتمعات العربية، في رأيك كيف يمكن تغيير النظرة النمطية السلبية التي يرى بها الغرب العرب، وبخاصة بعد أحداث سبتمبر (أيلول)؟

- (ضاحكا) أعتقد أن عليكم أن تقدموا للغربيين أطباق «أُمّ علي» الشهية، وهي كفيلة بحلّ الإشكالية وتصفية الأجواء على الفور!! أحدثك بأمانة، سؤالك هام وعميق، فالنظرة المغلوطة متبادلة بين الشرق والغرب، وقد يؤدي هذا إلى تداعيات وعواقب وخيمة.. وأعتقد أن علينا - كمراسلين أجانب عشنا في المنطقة - دورا كبيرا وهاما في تغيير هذه النظرة، ربما هو دور أكبر من الدور العربي ذاته، لأن المجتمع الغربي قد يصدق كاتبا مثلي يثق في «أميركيته» بصورة أكبر لمجرد أن اسمي هو «ستيفن» وليس «محمد» أو «عبد الرحمن» أو «عائشة»، حتى ولو كان هؤلاء ولدوا وقضوا جل حياتهم بأكملها في أميركا.. ولذا، يجب علينا أن نوضح الصورة الحقيقية التي عشناها لمجتمعاتنا، وأن نفعل ذلك من منطلق إيماننا بأهمية تلاقي المجتمعات المختلفة.

* وكيف تعاملت مع هذه القضية؟

- من جهتي، حاولت بقدر المستطاع أن أشرح ما أعرفه عن الإسلام ومعتقداته واعتداله، وعن حياة العرب اليومية بكل حيادية وأمانة.. وأحاول مساعدة العرب الأميركيين العاملين بالمجال الصحافي لتحقيق أغراضهم لأنهم الأجدر بالدفاع عن المجتمع العربي من خلال نجاحهم وإيضاح صورتهم الجيدة للغرب.. وأحاول أن أعطيهم الفرصة ليقرأ الناس لهم، وبعدها يفهم القراء أن الناس كلهم يفكرون في النهاية بطريقة واحدة.. وأن حجم الاتفاق أكبر كثيرا من حجم الاختلاف. كما عملت في أحد المشروعات الصحافية التي تتناول الإسلام بعد 11 سبتمبر، ولم أكن سعيدا باختيارات رئيس التحرير، وشعرت أنهم ينمطون الصورة الخاصة بالعرب، فتركت المشروع.. ورغم معاناتي بعد ذلك فإنني شعرت بمسؤوليتي في ذكر الحقائق للعالم الغربي. أيضا كتبت موضوعات تنتقد الجماعات الإسلامية المتعصبة وذات الفكر المتطرف.. ويجب على العرب الذين عاشوا في الغرب تصحيح مفاهيم الشرقيين أيضا من نفس المنطلق. فأنا أرى أن نظرة الشرق إلى الغرب أيضا يجب أن تتغير، وأن يروا الغربيين كمخلوقات بشرية، وأننا نخطئ ونصيب كأي مجتمع آخر.. فنظرية المؤامرة تسيطر في كثير من الأحيان على فكر الطرفين.. وهذا خطأ كبير.. وقد حضرني تساؤل هام الآن: هل تظنون أنني حضرت إلى هنا لأغير وأسيطر على فكر المصريين وأحولهم إلى الفكر الغربي؟! البعض قد يفكر كذلك ممن تهيمن على عقولهم نظرية المؤامرة.. ولكني ببساطة صحافي أميركي قضيت كثيرا من عمري هنا، وسعدت بذلك جدا، وأريد أن أسهم بدور من خلال «رد الدَّين» الذي في رقبتي لتلك الأيام الجميلة عبر مساعدة الآخرين.. فهل يصدقني الناس في ذلك؟ هذا كل ما أطمح إليه.. فيجب أن يساعد بعضنا بعضا.

* كيف ترى الحراك العمالي الحالي في مصر؟

- بناء على ما أقرؤه إجمالا بالصحافة المصرية والعربية، فيما يبدو أن مصر تعيد كتابة تاريخها الآن. ونظرا لما لمصر من تأثير كبير على محيطها العربي، فأعتقد أنها لحظة تاريخية هامة للمنطقة ككل.. وأن التغير قادم بسرعة كبيرة، ولكنني لا أستطيع أن أحكم إذا كان ذلك للأفضل أو للأسوأ..

* كيف ترى التغير الإعلامي العربي؟

- منذ 20 عاما لم أكن أتخيل أن أشاهد قنوات مثل الجزيرة أو العربية أو غيرها، ولم أتصور إمكان وجودها ولو بعد 100 عام.. كما أن هناك تطورا كبيرا في الأداء الإعلامي في السعودية.. تحولات الإعلام السعودية في العقدين الأخيرين فاقت التصورات.. وهناك تقدم موازٍ في مصر ولبنان وغيرها.. فمنذ خمس سنوات فقط لم يكن من الممكن أن تعرض الأخبار التي أصبحت اعتيادية اليوم.. فالخطوط الحمراء تراجعت كثيرا خلال هذه الفترة.

* وكيف تراجعت الخطوط الحمراء في رأيك؟

- للأسف، كثيرا ما تكون هذه الخطوط موجودة في عقليات الصحافيين فقط دون أرضية حقيقية، وما أن يأخذ أحدهم المبادرة حتى يكتشف الجميع أن الخط الأحمر لا يشتمل ما اعتقده.. وهذه المخاوف قد تؤخر التقدم كثيرا.. ولذلك فلا بد من محاولة دفع الخطوط الحمراء بتأنٍّ خطوة بخطوة ومراقبة التغيرات الناتجة عن ذلك.. كما أسهم الإعلام الإلكتروني بمدوناته ومواقعه في تغيير الصور النمطية الإخبارية في الوطن العربي.

* ما أطرف المواقف التي واجهتك في عملك؟

- هناك الكثير من القصص، منها مثلا أن شركة أميركية عملاقة خفضت أجور العمال، فتحمست للموضوع، وذهبت إلى الإدارة أستفسر عن الأسباب، فأقنعوني أن المنافسة العالمية تتطلب إما تخفيض الأجور لفترة وإما تسريح بعض العاملين، وأنهم فضلوا التخفيض المؤقت.. اقتنعت برأيهم ونشرته.. وبعد فترة اكتشفت أنني غرّ ساذج، فهذه الشركة ليس لها منافسين عالميين على الإطلاق.. فهي تحتكر منتجا صناعيا وحدها في العالم، وأقرب منافسيها لا تتعدى ميزانيته 1 على 100 من ميزانيتها.. فكتبت معتذرا ومصححا للوضع. قصة أخرى كانت عندما حققت في قضية عمالية مشابهة تخص تخفيض الأجور، وادعت الشركة أنها ساوت بين أجور العاملين لديها في فرع أميركا مع فرع المكسيك.. ذهبت إلى المكسيك لأكتشف أنه لا يوجد أي مصنع هناك، وأن الشركة تخدع الجميع. ومن ضمن الأمور الغريبة التي واجهتا وكتبت عنها لمحاولة تغيير المفاهيم، عندما كنت في العراق (قبيل بداية الغزو الأميركي)، حاولت أن أستشف التأثيرات النفسية للحرب على العراقيين، فتوجهت إلى مصحة عقلية، ولم أجد بها سوى عدد قليل جدا من البشر.. فسألت الأطباء الذين أخبروني أن الحروب وما مروا به من أهوال قد صلبت عود العراقيين، وحكوا لي كيف أن قنبلة انفجرت قبل يوم في باحة إحدى المدارس، وكانت الجثث في كل صوب، ورغم ذلك كان الأطفال يمرحون بجوار الجثث وكأنها غير موجودة.

* وكيف فسرت هذا المشهد؟

- مثل هذا المشهد مهم، لأن تحليله يعبر بدقة عن مفاهيم قد تغيب عن أعين الكثيرين ممن ينقلون الأحداث دونما فهم عميق للسياق، فتكون منقوصة أو مغلوطة.. وكان هذا درسا لي، فنقلت للأميركيين من هم العراقيون، وأنهم بشر، وأنهم يعانون جراء الحرب.. أيضا عندما كنت في أفغانستان، رأيت كيف قاومت التلميذات الصغيرات قوانين طالبان بمنعهم من الدراسة مقاومة شرسة، وعندما تحريت الأمر بدقة فهمت أن الفتيات يقاومن لأنهن لم تتح لهن فرص سابقة للتعلم.

* ما شعورك حيال وجودك في الدول العربية؟

- أعشق الدول العربية ووجودي بها.. ولا أشعر بأي نوع من الغربة هنا.. أحس بأنني بين أهلي دائما.. ويكفي أن أقول لك إنني سميت ابنتي «ليلى» لشدة تأثري بالشرق الأوسط، وابنتي بدورها (وهي في شهور حملها الأخيرة الآن) ستسمي ابنتها «عاليا».

* هل يعني ذلك أنك بعد وجودك الطويل في المنطقة أصبحت تشعر بالغربة في وطنك الأصلي؟

- (ضاحكا) أستطيع أن أقول إنك لمست همّا يدور في ذهني بالفعل.. فكثيرا ما أفتقد إنسانية ودفء المجتمع الشرقي وأنا في أميركا.. حتى إن من حولي بدأوا يشكّون في أصولي الأميركية! كلام الصور: