تزايد الاستعانة بمصادر خارجية لتنفيذ التحقيقات الاستقصائية

بعد سنوات من الشعور بعدم الحاجة إليهم.. بعض الصحافيين يجدون أنفسهم مرغوبا فيهم مرة أخرى

TT

في غرفة اجتماعات في الطابق السابع التي ازدانت بمقالات وضعت في إطارات وجوائز صحافية، قاد مدير التحرير غوردون وتكين المناقشة الصباحية حول الأخبار الصحافية التي يعمل فريقه على إعدادها.

كان آخر سبق صحافي لهم - حول أعضاء الكونغرس الذين باعوا أسهمهم في شركة «بي. بي» - يصفه وتكين بأنه «كان نجاحا كبيرا. فقد كان تحقيقا لحساب وكالة (أسوشييتد برس)، التي قامت بنشره في كل مكان، بما في ذلك المواقع الإخبارية الخاصة بموقعي (ياهو) و(غوغل) الشهيرين».

كانت الأولوية القصوى، كما شرح اثنا عشر صحافيا كانوا جالسين على الطاولة، سلسلة مشتركة من التحقيقات اعتمدتها صحيفة «نيويورك تايمز» مؤخرا. أحد التحقيقات التي يجري العمل عليها بالاشتراك مع صحيفة «واشنطن بوست» في مرحلة التحرير. يقول المدير الدولي ديفيد كابلان بأنه كان هناك «دعوة صعبة لعقد مؤتمر عبر الهاتف» مع ثمانية منتجين من لندن للاتفاق على مشروع من عشرة أجزاء يتم تنفيذه بالتعاون مع هيئة الإذاعة البريطانية.

تزايدت الاستعانة بمصادر خارجية لتنفيذ التحقيقات الاستقصائية، وفي هذه المكاتب الواقعة قبالة شارع كي التي تعتبر بمثابة غرفة صهر للبحوث التي يصعب على الكبار تمويلها. مركز النزاهة العامة «سنتر فور بابلك إنتجرتي» ليس مؤسسة تقدم مقالات إخبارية تقليدية، ولكنه يقوم بدور إعلامي أكثر أهمية، مدعوما في ذلك بموجة توظيف حديثة أضافت ما يزيد عن ستة صحافيين لفريق عمله المكون من 45 فردا. ويقول كابلان: «نرى جميع أصدقائنا يدمرون. المفارقة هي أننا نعمل بشكل جيد جدا، ولدينا فرصة لملء هذه الثغرات». المركز يملأ هذه الفراغات مجانا، ويقدم المعلومات، وأحيانا بعض المقالات المكتوبة بواسطة محرري المركز، إلى وسائل الإعلام.

وفي أعقاب سنوات من الشعور بالكراهية وعدم الحاجة إليهم، بدأ بعض الصحافيين المحظوظين يجدون أنفسهم مرغوبا فيهم مرة أخرى. وعلى الرغم من المعاناة التي تشهدها غرف الأخبار في الصحف المطبوعة وإفلاس بعض الصحف الرئيسية، أعطت أشكال الإعلام الجديد هؤلاء العاطلين عن العمل فرصة الحياة مرة أخرى.

وقد أعلنت مؤسسة «أميركا أون لاين» أنها تخطط لضم مئات من الصحافيين خلال العام المقبل. كما افتتحت شركة «ياهو» مكتبا لها في واشنطن مؤخرا. وكذلك أنشأت صحيفة «وول ستريت جورنال» قسما خاصا بنيويورك، كما تقوم حاليا مؤسسة «تي بي دي» التي تعود ملكيتها للشركة الأم المالكة لموقع «بوليتيكو» الإخباري بتعيينات جديدة في موقعها الإلكتروني لتغطية منطقة واشنطن.

ويعلق على ذلك بيل بوزينبورغ، وهو نائب الرئيس السابق لقسم الأخبار في الإذاعة الوطنية العامة الذي أصبح المدير التنفيذي للمجموعة غير الربحية عام 2007، قائلا:«هناك سوق للمشترين الجيدين للذين يرغبون في القيام بهذا العمل».

واحد من المعينين مؤخرا «كصحافي مقيم» هو جون سولومون، الذي استقال من منصبه كرئيس تحرير لصحيفة «واشنطن تايمز» قبل أيام من حدوث تغييرات في إدارة الصحيفة في الخريف الماضي أطاحت بنصف موظفيها.

ويعبر سولومون عن سعادته بهذه المهمة الجديدة قائلا: «إنه لمن المشجع حقا أن تكون جزءا من مؤسسة تقوم بالمساءلة في وقت تبتعد فيه الكثير من المؤسسات الربحية عن القيام بهذه المهمة. كان لدي الكثير من العروض من مؤسسات إعلامية أخرى، ولكنني رأيت أن المركز يقوم به الكثير من الأشياء التي كنا نحاول القيام بها في الـ(واشنطن تايمز) قبل التغيير الداخلي». وقد ضم بوزينبورغ إلى فريق عمله مجموعة من الصحافيين المخضرمين القادمين من صحيفة «وول ستريت جورنال»، ووكالة «رويترز» للأنباء، ومجلة «ناشونال جورنال».

جدير بالذكر أن المركز ليس وجها جديدا في واشنطن، فقد تأسس منذ أكثر من 20 عاما على يد لويس تشارلز. وهو المؤسسة غير الربحية الوحيدة تقريبا التي حققت هذا النجاح والشهرة: فقد تقاسمت مؤسسة «بروبابليكا» التابعة له، والتي أنشئت من عامين فقط ومقرها في مانهاتن، جائزة بوليتزر ذائعة الصيت لهذا العام مع صحيفة «نيويورك تايمز» وذلك عن تحقيق عن الوفيات في المستشفيات أثناء إعصار كاترينا.

لكن المركز - وأي مؤسسة تضم بين لقبها عبارة «النزاهة العامة» جزءا من اسمها يكون لها مكانة عالية – شهد سلسلة من النجاحات. ففي الأسبوع الماضي، استضاف المذيع المشهور بريان روس في شبكة «إيه بي سي» سولومون، الذي حصل على معلومات من مسؤول حكومي، نشرها في تحقيق على«وورلد نيوز» عن مشكلات أمنية في المصنع التايلاندي الذي يصنع رقائق الكومبيوتر الخاصة بجوازات السفر الأميركية.

وقد وصف روس عمل المجموعة بأنه «قيم للغاية» قائلا: «إنهم يقدمون مقالات صحافية جيدة أو وثائق مهمة أو في بعض الأحيان يكشفون الفساد، ومن ثم يبدأون عملهم التحقيقي. إنهم يقومون بعمل جيد، لكنهم في حاجة إلى منبر إعلامي لنشره».

لكن لم يعد عثور المجموعة الخاصة بالمركز على منابر لنشر تحقيقاتهم عملا صعبا. ففي انفراد كبير الشهر الماضي، قدم المركز بيانات لـ«الفايننشيال تايمز» تظهر مسؤولية شركة «بريتيش بتروليوم» عن 97 في المائة من انتهاكات السلامة الأكثر خطورة في صناعة تكرير البترول في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة. وفي هذا الشهر، نشر تحقيق مشترك في «التايمز» حول حصوله على وثائق خاصة بخفر السواحل تكشف أن المسؤولين كانوا يعلمون بعد أيام من الانفجار في المياه العميقة أن ما بين 64 ألفا إلى 110 آلاف برميل من النفط الخام يمكن أن تتدفق إلى الخارج كل يوم.

في مايو (أيار)، تعاونت «واشنطن بوست» مع المركز في القيام بتحقيق عن جهود المحققين الفيدراليين في كشف المؤسسات التي ساعدت المقرضين على تقديم قروض الرهن العقاري عالية المخاطر التي جعلت الحكومة تواجه خطر التعثر. وقد نشر موقع «بوليتكو» مؤخرا ثلاثة تحقيقات للعاملين بالمركز، بما في ذلك قائمة بجماعات الضغط التي تعتبر أكبر مجمعي التبرعات للحملات الانتخابية. ويعكف المركز أيضا على مشروع طويل الأجل مع برنامج «60 دقيقة» الشهير.

ويقول بوزينبورغ: إنه عندما انضم إلى المجموعة «كان علينا الخروج من النفق» حيث أجبره عجز الميزانية على الاستغناء عن ثلث عدد الموظفين. لكن روبن هيلر، مديرة التطوير، تحدثت في اجتماع الأسبوع الماضي الصباحي عما وصفته بأنه «يوم بمليون دولار» وهي قيمة المنح التي تعهدت بها للتو مؤسسات «ماك آرثر أند بارك»، وجهات مانحة رئيسية أخرى تضم مؤسسة «فورد» (2.4 مليون دولار) ومؤسسة «كارنيغي» (507 آلاف دولار)، بالإضافة إلى 356 ألف دولار من الأفراد، إضافة إلى ميزانية تصل إلى 5 ملايين دولار سنويا.

وتلقى المركز منحا أخرى تقدر بـ300 ألف دولار العام الماضي من معهد المجتمع المفتوح الذي أسسه الملياردير الليبرالي جورج سوروس، مما أثار تساؤلات عما إذا كانت أجندة المركز تميل إلى اليسار.

وهو ما نفاه بوزينبورغ بشدة قائلا: «لدينا جدار لحماية واضحة جدا تحريريا. إننا نقرر ما نريد أن نقوم به، وكيف نقوم به (الجهات المانحة) قد تكره ذلك وربما يمتنعون عن تمويلنا مرة أخرى، وهذا حقهم.. وأنت لست حرا في الإنتاج. تعلمنا كيف نحصل على المال».

الأمر الأهم هو هل هذه المؤسسات غير الربحية قادرة على تحقيق اكتفاء ذاتي، أم إنهم سيواصلون الاعتماد على المؤسسات والجهات المانحة الغنية. وإذا توقفت تلك الشيكات هل سيصاب هذا العمل بالشلل. في هذا السياق يقول بوزينبورغ إن مركزه يقوم الآن ببيع الكتب الإلكترونية، في إطار سعيه إلى توفير المزيد من العائدات.

وبعد موسم طويل ومضن من تسريح العمال، يهيئ المناخ بما يكفي أمام شركات الإنترنت والمنظمات غير الربحية على حد سواء لتعيين موظفين جدد للإنتاج، وليس فقط مجرد إعادة تعبئته. ولكن، الصحافة الاستقصائية - بما تتطلبه من عمالة كثيفة وما تحتويها من فجوات متكررة - لا تزال الأكثر تكلفة بين المتابعات الصحافية المختلفة. وحتى المنظمات الإخبارية ذات الأسماء التجارية الكبيرة لم تعد فخورة جدا بقبول المساعدة الخارجية. وهنا أمل أن لا يصبح ذلك الوضع وسيلة مغرية للتخلي عن مثل هذا العمل للمقاولين من الباطن.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»