«بي بي سي» بين مطرقة دافعي الضرائب وحوافز القطاع الخاص

لعبة التوازن بين قطاعين وثقافتين في رواتب نجوم التلفزيون البريطاني

نجوم التلفزيون البريطاني بين مطرقة دافعي الضرائب وحوافز القطاع الخاص (أ.ف.ب)
TT

الحكومة الائتلافية المشكّلة من حزبي المحافظين والديمقراطيين الأحرار وضعت أمام أعينها ومنذ اللحظة الأولى من تسلمها زمام الأمور السيطرة على العجز في ميزان مدفوعاتها، بعد أن تبين أن بريطانيا أصبحت تواجه مشكلة عظمى أصبحت في وضع لا تحسد عليه ومثقلة بالديون، وهذا ما عكسته الميزانية الطارئة التي طرحتها الحكومة بعد أسابيع قليلة من تشكيلها. ومن خلالها تحاول الميزانية إظهار حالة من التقشف والشفافية غير مسبوقة في تاريخ بريطانيا، بسبب تقييمها بأنها أزمة لم تشاهدها بريطانيا منذ قرن.

هذا التوجه في التقشف والشفافية كان ولا بد أن يعكس نفسه على أهم مؤسسة بريطانية عامة، أي هيئة البث البريطاني (بي بي سي). المقصود بـ«العامة» هنا هو أنها تمول من قبل دافعي الضرائب من خلال الرسوم الشهرية التي يدفعها كل بيت يمتلك جهازا تلفزيونيا. وهذا يعقد الأمور للهيئة، ويجعها في صراع توازن دائم بين ثقافتي القطاع العام والقطاع الخاص.

هذا النوع من التمويل يفرض اعتبارات خاصة على العلاقة بين دافعي الضرائب، أي عامة الناس، من خلال الحكومة، وبين الـ«بي بي سي» التي يفترض من العاملين فيها، ولو نظريا، أن يخضعوا لنفس التقييم في القدرات وسلم ترتيب الوظائف في الدولة. لكن عند النظر إلى ما يتقاضاه بعض نجومها وكذلك بعض طاقمها الإداري التنفيذي تجد أن الكثير منهم يتقاضون أضعاف ما يتقاضاه رئيس الوزراء، الذي يعتبر راتبه السنوي ورواتب جميع أعضاء حكومته وكذلك جميع أعضاء البرلمان، هي من الأمور العامة التي من حق الناخب البريطاني أن يعرفها كونه هو الشخص الذي يدفع رواتب هؤلاء الناس من الضرائب التي يقدمها لخزانة الدولة.

ولهذا فقد أعلنت «بي بي سي تراست» (مؤسسة شبيهة بالوقف تقوم بدور الموجه والمراقب وصمام الأمان لعمل الـ«بي بي سي») أنها ستكشف عن الأجور التي يتقاضاها كبار نجوم برامجها التلفزيونية، الذين يعدون من أبرز المشاهير في الشارع البريطاني، وذلك في مكاشفة جماهيرية تأتي في فترة تقشف على صعيدي المواطن البريطاني والـ«بي بي سي» ذاتها، عشية إعلان الحكومة الائتلافية سياسة شد الأحزمة وتقليص النفقات في مختلف المجالات.

وصرح رئيس «بي بي سي تراست»، مايكل لايونز، في خطاب قائلا إنه آن الأوان لكي يتعرف جمهور المشاهدين على كيفية إنفاق الهيئة ما يدفعونه لقاء الحصول على «رخص» مشاهدة البرامج وما يذهب منها كأجور لكبار المقدمين النجوم. وتابع لايونز قوله: «على الـ(بي بي سي) أن تكون أكثر وضوحا إزاء من يتقاضون أعلى الأجور سواء كانوا من الذين يظهرون أو لا يظهرون على الشاشات».

وقال المدير العام مارك تومسون في مقابلة مع أندرو مار: «لقد قبلت قرار الـ(تراست) بأن تكشف عن رواتب أعلى العاملين في (بي بي سي)، لكن أعتقد أنه خطأ كبير وهدام جدا أن نكشف عن أجور بعض نجومها من المذيعين.

وكما هو معروف أن الهيئة بخلاف القنوات التلفزيونية والإذاعية لا تحصل على أي أرباح من سوق الإعلانات كما هو الحال بالنسبة لمؤسسات البث الأخرى، التي تجني جزءا من أرباحها من خلال هذه الإعلانات التجارية.

المشكلة التي أثارها مايكل لايونز في تصريحاته حول أجور النجوم قبل أيام لم تكن بذات الأهمية قبل دخول العالم وبريطانيا في الأزمة المالية. التسريبات التي كانت تتم في السابق حول ما يتقاضاه نجوم الهيئة كانت تبقى ضمن قضايا النميمة الإعلامية، التي لم تشكل أي هم للحكومة أو الـ«بي بي سي» سابقا.

ومما «زاد الطين بلة» هو ما قامت به صحيفة «الديلي تلغراف» قبل عام من تحقيق حول المصاريف الإضافية لأعضاء البرلمان والحكومة، وكشفت أن الغالبية العظمي منهم استغلت الوضع السائد وطالبت بأكثر مما تستحق واستغلت مواقعها السياسية من أجل المصلحة الخاصة، وأظهرت مستوى من الطمع الذي يثير علامات استفهام حول تفشي حالة من الفساد في الحياة السياسية البريطانية. هذا الوضع سلط الأضواء على جوانب كثيرة من الحياة السياسية والعامة في المجتمع البريطاني، خصوصا مع تردي الأوضاع الاقتصادية. وفي النهاية وضع جميع المؤسسات العامة تحت المجهر، أولها الـ«بي بي سي».

يقول المثل الإنجليزي: «عندما تضيق الحالة يشتد الأمر صعوبة»، أو كما يقول المثل العربي: «من شدة الطفر يبدأ الشخص في البحث في الدفاتر العتيقة». وهذا فتح الباب على مصراعيه مع اشتداد الأزمة المالية. الاقتصاد يبقى سيد الموقف في نهاية المطاف.

«إنه الاقتصاد أيها الغبي»، بهذه الجملة حاول الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون أن يوجه حملته الانتخابية ويبعدها عن مسار الفضائح الجنسية التي أرادها له خصومه السياسيون من الحزب الجمهوري، وكادت أن تطيح بإدارته. وفعلا نجح في ذلك واستمر في الحكم حتى نهاية فترته. السبب، وحسب إجماع معظم المراقبين، أن الاقتصاد الأميركي كان في صحة جيدة وعافية. وهذا لا ينطبق على الاقتصاد البريطاني في الوقت الراهن.

الأزمة المالية التي دخلت عامها الثالث وعصفت بمعظم اقتصادات دول العالم ما زالت تلقي بظلالها على الكثير من الدول الأوروبية، وخصوصا بريطانيا التي قد تكون قد تأثرت بالأزمة أكثر من غيرها بسبب حجم قطاعها المالي الذي يعتبر الأكبر في العالم، على الرغم من الكلام حول الانتعاش والخروج من الركود لبعض الدول. بريطانيا أصبحت مثقلة بالديون.

حالة التقشف هذه فرضت على البيت الأبيض أيضا اتخاذ إجراءات تظهر الشفافية وشد الأحزمة، ولهذا فقد نشر البيت الأبيض ما يتقاضاه العاملون. وطبقا لإحصاءات الرواتب والأجور التي كشف عنها البيت الأبيض، الخميس، فإن أكثر من 460 موظفا بالبيت الأبيض يتقاضون بصورة إجمالية 38.7 مليون دولار كرواتب. وجاء هذا الكشف في إطار تقرير سنوي يقدم إلى الكونغرس.

وتكشف الأرقام المعلنة عن حدوث تغير طفيف في الرواتب عن عام 2009 نظرا لقرار الرئيس أوباما - الذي يتقاضى 400.000 دولار سنويا - بتجميد أجور كبار المسؤولين هذا العام. وتراوحت رواتب موظفي الجناح الغربي بالبيت الأبيض بين 21.000 دولار، بالنسبة إلى الموظف العامل جزءا من الوقت، وقرابة 180.000 دولار. وجرى تحديد مستوى رواتب 23 من كبار المساعدين عند 172.200 دولار، بينهم رام إيمانويل، رئيس فريق موظفي البيت الأبيض، وروبرت غيبس، السكرتير الصحافي للبيت الأبيض، وروبرت بوير، مستشار البيت الأبيض، وجون فافرو، المسؤول عن صياغة الخطابات، وكارول إم. براونر، مستشارة شؤون الطاقة والمناخ لدى البيت الأبيض، وسوزان شير، رئيسة فريق العاملين المعاونين للسيدة ميشيل أوباما. ويتقاضى اثنان من المعنيين بصياغة تفاصيل سياسة الرعاية الصحية، وهما مايكل إم. هاش وتيموثي بي. لوف، 179.700 دولار.

وعند مستوى أدنى يتقاضى روبرت إل. نيبرز، نائب إيمانويل، 162.500 دولار، بينما تتقاضى نانسي ان ديبارل، كبيرة مستشاري شؤون سياسة الرعاية الصحية، 158.500 دولار، ويبلغ أجر نورم أيسين، محامي الأخلاقيات التابع للبيت الأبيض، 149.000 دولار.

لكن الشفافية شيء وواقع السوق شيء آخر. المشكلة التي تواجهها الـ«بي بي سي»، كما يعتقد الكثير من المراقبين، أنها تعمل في سوق إعلامية شديدة المنافسة، الأمر الذي جعل بعض أعضاء حزب المحافظين يطالب بإلغاء رسوم الترخيص، وبهذا تبدأ الهيئة بالعمل في السوق مثلها مثل غيرها، وبعدها تصبح غير مطالبة بالكشف عن عقودها لإرضاء عامة الناس من دافعي الضرائب، وهذا ما يطالب به بعض العاملين في السوق الإعلامية، مثل أباطرة الإعلام كروبرت ميردوخ، الذي يعتقد أن المنافسة بين «بي بي سي» ومثيلاتها غير عادلة بسبب التحفيزات التي تحصل عليها الهيئة.

وتعتقد القيادة التنفيذية لهيئة الـ«بي بي سي» أن كشف رواتب نجومها قد يدخلها في مشكلات قانونية مع بعض شركات الإنتاج التي تعمل معها وتتفاوض حول عقود العاملين فيها وليس فقط أجور بعض الصحافيين النجوم، أمثال جيرمي باكسمان الذي يقدم أهم نشرة إخبارية في الهيئة. الضجة التي أثيرت سابقا حول ما يتقاضاه جونثان روس، الذي يقدم برنامج دردشة «تشات شو» ويعتقد أنه يتقاضى ستة ملايين جنيه إسترليني (10 ملايين دولار) سنويا، أجبر الهيئة على أن تعيد النظر في عقده، وقررت في النهاية باتفاق الطرفين إنهاء العقد عند نهايته هذا العام.

المشكلة التي تواجهها الـ«بي بي سي» هي أن السوق الإعلامية التلفزيونية في القطاع الخاص يسيل لها اللعاب، وقد يجذب هؤلاء النجوم، الذين تعتبرهم من أصولها القيمة، إلى مؤسسات إعلامية أخرى. أن تمنحهم رواتب تتماشى مع سلم رواتب الدولة فهذا أمر صعب جدا، وستجد الـ«بي بي سي» نفسها في محنة حقيقية.

في الواقع هذا ما كانت تواجهه الـ«بي بي سي» سابقا في برامج التدريب الذي تديره. إذ كان يكلفها البرنامج الانتقائي الكثير من العناء والمال لتدريب الصحافيين، وبعد التدريب كانت القنوات التلفزيونية الأخرى تستميل خريجي الـ«بي بي سي» برواتب أعلى وتخطفهم من الهيئة.

ومن هنا تريد الهيئة أن تظهر حريصة وأن تجد توازنا في مسؤولياتها اتجاه مطالب دافعي الضرائب والحفاظ على «نجومها». وعبر متحدث باسم الـ«بي بي سي» قبل أن يقدم لايونز خطابه في تصريحات للصحافة قائلا: «لقد قلنا مرارا وتكرارا إن كشف مستوى الأجور لبعض العاملين سيشكل مشكلة ثقة بخصوص العقود الموقعة التي تنص على احترام بنود العقد».

وقالت بعض التقارير الإعلامية إن خطاب لايونز قد تغير قبل ساعات من بثه. ولهذا فقد استدرك قائلا: «نحن نقدّر أن المسألة ليست بهذه البساطة، ذلك أن كبار النجوم عادة ما يعملون مع منتجين مستقلين، وبعض العقود الموقعة تنص على بنود خاصة بمنع نشر قيمة أجورهم. غير أننا الآن نخوض تحديا مع المدير التنفيذي للعمل بالسرعة اللازمة لتأمين الشفافية في موضوع أصحاب أعلى الأجور».

الجدير بالذكر أن الـ«بي بي سي» أحجمت دائما عن الكشف عما يتقاضاه أمثال المقدم الفكاهي غراهام نورتون، مقدّم برنامج «أوفر ذي راينبو» (فوق قوس قزح)، وجيريمي باكسمان، ونجم كرة القدم العالمي غاري لينيكر مقدم البرامج الكروية، وآن روبنسون، الصحافية السابقة ومقدمة برنامج المسابقات «ويكست لينك»، وغيرهم. غير أن صحيفة «الميرور» نشرت في عددها الصادر أمس تقديراتها لأصحاب أعلى الأجور من المقدمين.

وقال تري ووغان المذيع الشهير ومقدم الكثير من البرامج الترفيهية إن بعض وجوه الـ«بي بي سي» الشهيرة عليها أن تقبل مثلها مثل كل العاملين في القطاع العام أن تخفض رواتبها بمقدار 15 في المائة. «الناس عندها حق أن تتساءل، خصوصا في هذه الأيام الصعبة، أين تذهب الأموال التي تقتطع من رواتبها وأجورها». هذا التساؤل سيوجه بالتأكيد صوب الـ«بي بي سي». وحسب بعض الأرقام التي نشرت مؤخرا فإن الـ«بي بي سي» تنفق نحو 54 مليون جنيه إسترليني (80 مليون دولار) على أجور مجموعة قليلة من نجومها مثل جونثان روس وغراهام نورتون وفيونا بروس.

وقال ووغان لصحيفة «ميل أون صنداي»: «الأيام القديمة الجميلة قد ولت. حان الوقت لأن تكون مسؤولا في نفقاتك. الرواتب العالية ستغضب عامة الناس، ورد فعلهم سيكون سلبيا. انظر كيف كان رد فعلهم على ما يتقاضاه جونثان روس».

«أعتقد أن الرواتب عالية جدا. يمكن لبعض العاملين أن تخفض رواتبهم بمقدار 15 في المائة، لأن معظم العاملين في القطاع العام سيواجهون نفس المصير، فلماذا لا يقبل العاملون في التلفزيون بذلك؟ لقد قبلت أنا بهذا التخفيض من راتبي». ووافق المدير العام تومسون ومديرون آخرون أن تخفض رواتبهم بمقدار 8.5 في المائة.

* جوناثان روس (برامج مقابلات فنية خفية) 6 ملايين جنيه سنويا

* آن روبنسون (مسابقة «ويكست لينك») 3 ملايين جنيه

* غراهام نورتون (برنامج منوعات وحوارات «أوفر ذي راينبو») مليونا جنيه

* كريس إيفانز (منوعات وبرامج موسيقية إذاعية وتلفزيونية) 1.1 مليون جنيه

* جيريمي باكسمان (حوارات سياسية ساخنة) مليون جنيه

* غاري لينيكر (برامج رياضية - كرة القدم) 800 ألف جنيه

* فيونا بروس (برامج إخبارية متنوعة) 500 ألف جنيه