«ويكيليكس» للوثائق المسربة.. هل سيغير وجه الصحافة الاستقصائية؟

تعتمد على صدقية وشفافية المعلومات والوثائق التاريخية وحق الناس في خلق تاريخ جديد

جوليان أسانج مؤسس موقع «ويكيليكس» المتخصص في تسريب الوثائق يعرض صحيفة «الغارديان» التي نشرت اكثر من 90 الف وثيقة (إ.ب.أ)
TT

تسريب أكثر من تسعين ألف تسجيل ووثائق عسكرية أميركية تكشف عن خفايا وأسرار الحرب في أفغانستان عن طريق الموقع الإلكتروني «ويكيليكس» أثار كثيرا من التعليقات بين خبراء الإعلام في قدرة الموقع على تغيير مستقبل الصحافة الاستقصائية المكلفة بالنسبة لأجهزة الإعلام.

وتحمل الوثائق تفاصيل عمليات قتل المدنيين الأفغان لم يتم الإعلان عنها وعمليات أخرى للقوات الخاصة الأميركية ضد قادة طالبان، أكدت صحيفة «الغارديان» البريطانية و«نيويورك تايمز» الأميركية ومجلة «دير شبيغل» الألمانية اطلاعهم على الوثائق الرسمية والسرية قبل 4 أسابيع للتحقق من مصداقيتها، إلا أن الولايات المتحدة احتجت على تسريب تلك المعلومات.

ويعتبر موقع «ويكيليكس»، كما يقول القائمون عليه، موقعا للخدمة العامة مخصصا لحماية الأشخاص الذين يكشفون الفضائح والأسرار التي تنال من المؤسسات أو الحكومات الفاسدة، وتكشف كل الانتهاكات التي تمس حقوق الإنسان أينما وكيفما كانت.

واسم الموقع جاء من دمج كلمة «ويكي» التي تعني الباص المتنقل مثل المكوك من وإلى مكان معين، وكلمة «ليكس» وتعني بالإنجليزية «التسريبات».

وتم تأسيس الموقع في يوليو (تموز) 2007، وبدأ منذ ذلك الحين بالعمل على نشر المعلومات، وخوض الصراعات والمعارك القضائية والسياسية من أجل حماية المبادئ التي قام عليها، وأولها «صدقية وشفافية المعلومات والوثائق التاريخية وحق الناس في خلق تاريخ جديد».

وانطلق الموقع بداية من خلال حوار بين مجموعة من الناشطين على الإنترنت من أنحاء متفرقة من العالم مدفوعين بحرصهم على احترام وحماية حقوق الإنسان ومعاناته، بدءا من قلة توفر الغذاء والرعاية الصحية والتعليم والقضايا الأساسية الأخرى.

ومن هذا المنطلق، رأى القائمون على الموقع أن أفضل طريقة لوقف هذه الانتهاكات هو كشفها وتسليط الضوء عليها. ولم تقتصر تغطية الوثائق المسربة على الأخبار والتقارير، بل إن كثيرا من الافتتاحيات والأعمدة والمقالات تناولت التسريبات ودلالتها والموقف منها.

وتباينت الآراء بين من يرى أن تلك التسريبات إنما تعرض القوات الأميركية والبريطانية في أفغانستان للخطر، وتضر بالمجهود الحربي في أفغانستان، وبين من رأى أنها ليست خطرة بالضرورة. لكن الاهتمام الإعلامي بتلك التسريبات في حد ذاته يعكس أهميتها ومنطقية حجة أن نشرها في الصالح العام.

من جهته برر جوليان أسانج مؤسس موقع «ويكيليكس» والمتخصص في الاستخبارات قراره بكشف الوثائق أن «الصحافي الجيد مثير للجدل بالفطرة. وهذه الوثائق، التي مصدرها خصوصا سفارة الولايات المتحدة في كابل، تتحدث على سبيل المثال عن نفوذ متنام لإيران في أفغانستان، وعن دعم طهران للمتمردين الإسلاميين وفساد واسع النطاق يعوق مكافحة حركة التمرد».

وأشارت «نيويورك تايمز» إلى أن هذه المستندات تبرز، بكثير من التفاصيل، الأسباب التي جعلت من عناصر طالبان، بعدما أنفقت الولايات المتحدة نحو 300 مليار دولار في هذه الحرب، أكثر قوة من أي وقت منذ 2001.

وبحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن عملاء استخبارات باكستانيين وعناصر من طالبان كانوا يلتقون بصورة منتظمة أثناء «دورات تتعلق بتدريبات سرية على الاستراتيجية» تهدف إلى تنظيم «شبكات من مجموعات متمردين يقاتلون الجنود الأميركيين في أفغانستان، حتى إنهم كانوا يعدون مؤامرات تهدف إلى اغتيال قادة أفغان».

وبحسب إحدى هذه الوثائق، فإن المدير السابق في جهاز الاستخبارات الداخلية الباكستاني حميد غول الذي يتمتع بنفوذ كبير، قد يكون التقى متمردين في يناير (كانون الثاني) 2009 بعد مقتل زعيم القاعدة زمراي، المعروف باسم أسامة الكيني في باكستان. وللثأر لمقتله، أعد المتمردون هجوما أرادوا تنفيذه بواسطة سيارة مفخخة تنقل من باكستان إلى أفغانستان.

إلا أن الجنرال غول وصف في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط» الوثائق بأنها أكاذيب مثل حرب العراق.

ومع أن كل الصحف نشرت تقارير وتعليقات حول الموضوع، فإن «الغارديان» و«التايمز» كانتا أول الصحف نشرا لخبر التسريبات، حيث خصصتا العنوان الرئيسي في الصفحة الأولى للموضوع. وواصلت «الغارديان» استعراض ما جاء في الوثائق وكان عنوانها الرئيسي على الصفحة الأولى: «وثائق الحرب تكشف أن التحالف أخفى قتل المدنيين». أما «التايمز» فخصصت كامل صفحتها الأولى لتقرير بعنوان «الولايات المتحدة تحاول تقليل الأضرار من التسريبات».

ونشرت الـ«ديلي تلغراف» موضوعا موسعا حول أهم التسريبات التي نشرها موقع «ويكيليكس» قبل وثائق حرب أفغانستان. وفي مقدمة أهم 10 تسريبات نشرها الموقع وأثارت اهتماما واسعا مقطع الفيديو المسجل من كاميرا مدفع مروحية أميركية في العراق. وصدم العالم بالفيديو الذي أظهر القوات الأميركية وهي تقتل 12 مدنيا من بينهم صحافيون من «رويترز» في أحد أحياء بغداد عام 2007.

غير أن «الغارديان» المحسوبة على تيار «يسار الوسط» في بريطانيا تقول إنها استبعدت أي مواد وردت في الوثائق السرية من شأنها تهديد سلامة القوات والمخبرين والمتعاونين المحليين في أفغانستان.

ومضت إلى القول إن الصورة الإجمالية التي تصدر من هناك مقلقة جدا، مشيرة إلى أنها ليست أفغانستان التي توشك الولايات المتحدة وبريطانيا على تسليمها «هدية مغلفة ومزينة بأشرطة وردية» إلى حكومة وطنية ذات سيادة.

وبدت الصحيفة أكثر تشاؤما وهي تختتم افتتاحيتها بقولها إنه بعد مضي 9 سنوات من الحرب فإن الأوضاع تنذر بفوضى قد تعم.

وخلصت إلى أن حربا شنت في ظاهرها لاستمالة قلوب وعقول الأفغان لا يمكن أن تنتهي بنصر بهذه الطريقة. وحين نشر الفيديو في أبريل (نيسان) الماضي جلب اهتماما كبير ا بموقع «ويكيليكس» ودوره في كشف ما تريد جهات كثيرة أن تخفيه.

إلا أن الموقع منذ إنشائه نشر كثيرا من التسريبات المثيرة، منها رسائل البريد الإلكتروني لعلماء المناخ العام الماضي قبل قمة كوبنهاغن، والتي عززت الشكوك حول الاحتباس الحراري.

وفي العام الماضي أيضا نشر الموقع قائمة بأسماء وعناوين ووظائف أعضاء الحزب القومي البريطاني المتطرف «بي إن بي» (BNP) التي كشفت أن من بينهم عددا ليس بالقليل من ضباط الشرطة والجيش وأطباء ومحامين.

ومن بين الوثائق الأخرى المثيرة للجدل، التي نشرها موقع «ويكيليكس» على الإنترنت، نسخة من إجراءات التشغيل الموحدة لمعسكر دلتا، وهي وثيقة تتضمن تفاصيل القيود المفروضة على السجناء في معتقل خليج غوانتانامو الأميركي بكوبا.

والمثير أيضا أن هناك من سرب للموقع وثيقة بريطانية هامة هي دليل تفادي التسريبات للجيش البريطاني، ونشرها الموقع. كما نشر الموقع وثيقة لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تعتبر «ويكيليكس» خطرا على الأمن القومي.

وتعود أهمية الموقع إلى كشف الأسرار في الكثير من القضايا ذات البعد الإنساني، منها على سبيل المثال، كما تقول الصفحة الرئيسية للموقع، الأعداد الحقيقية للمصابين بمرض الملاريا الذي يقتل في أفريقيا على سبيل المثال مائة شخص كل ساعة.

ويؤكد القائمون على الموقع أن أهمية ما يسربونه من معلومات تفيد في كشف سوء الإدارة والفساد بالدول التي تعاني من هذه الأزمات كالملاريا مثلا، لأن الدواء متوفر لمعالجة هذا المرض.

ويعتمد الموقع في أغلبية مصادره على أشخاص يوفرون له المعلومات اللازمة من خلال الوثائق التي يكشفونها، ومن أجل حماية مصادر المعلومات يتبع موقع «ويكيليكس» إجراءات معينة منها وسائل متطورة في التشفير تمنع أي طرف من الحصول على معلومات تكشف المصدر الذي وفر تلك التسريبات.

ويتم تلقي المعلومات إما شخصيا أو عبر البريد، كما يحظى «ويكيليكس» بشبكة من المحامين وناشطين آخرين للدفاع عن المواد المنشورة ومصادرها التي لا يمكن - متى نشرت على صفحة الموقع - مراقبتها أو منعها.

وسبق لـ«ويكيليكس» أن حصل على حكم قضائي من المحكمة العليا بالولايات المتحدة التي برأته من أي مخالفة، عندما نشر ما بات يعرف باسم «أوراق البنتاغون» التي كشفت الكثير من الأسرار حول حرب فيتنام.

غير أن الموقع وفي الوقت ذاته لا يطرح على قرائه آمالا مبالغا فيها، إذ يعترف بأن ما يقوم بنشره من معلومات هامة ودقيقة قد لا تؤدي في عدة مناسبات إلى تحويل المسؤولين إلى القضاء ومحاسبتهم على ما ارتكبوه من أخطاء، فضلا عن أن تقدير ذلك يعود نهاية المطاف للقضاء وليس الإعلام.

لكن هذا لا يمنع كما يقول القائمون على «ويكيليكس» الصحافيين والناشطين والمعنيين من استخدام معلومات ينشرها الموقع للبحث والتقصي للوصول إلى حقيقة الأمر، وبالتالي يمكن لاحقا تحويل المسألة إلى قضية ينظر فيها القضاء.

وقد خلق هذا الواقع إشكاليات كبيرة بالنسبة لـ«ويكيليكس» لجهة حجبه في الكثير من الدول وعلى رأسها الصين، لكنه نجح في وضع عناوين بديلة يمكن من خلالها الوصول إلى صفحته وقراءة محتوياتها بفضل إمكانيات التشفير التي يوظفها خبراء لصالح منع حجب الموقع.

والتدقيق في الوثائق والمستندات يتم باستخدام طرق علمية متطورة للتأكد من صحتها وعدم تزويرها، لكن القائمين على الموقع يقرون بأن هذا لا يعني أن التزوير قد لا يجد طريقه إلى بعض الوثائق.

وانطلاقا من هذه المقولة، يرى أصحاب «ويكيليكس» أن أفضل طريقة للتمييز بين المزور والحقيقي لا يتمثل بالخبراء فقط بل بعرض المعلومات على الناس وتحديدا المعنيين مباشرة بالأمر.

وتتم عملية النشر بطريقة بسيطة، حيث لا يحتاج الشخص سوى تحميل الوثيقة التي يريد عرضها وتحديد اللغة والبلد ومنشأ الوثيقة قبل أن تذهب هذه المعلومات للتقويم من قبل خبراء متخصصين، وتتوفر فيها شروط النشر المطلوبة. وعند حصولها على الضوء الأخضر، يتم توزيع الوثيقة على مزودات خدمة احتياطية داعمة.

ويقول خبراء في الإعلام إن «ويكيليكس» موقع يحيط نفسه بشيء من السرية والغموض. لكن يعرف عنه أنه «منظمة دولية» تتخذ من السويد مقرا لها. وهو يتخصص فقط في كشف النقاب عن الوثائق والقرارات الحساسة الصادرة عن الحكومات أو المؤسسات والمنظمات ولا يمانع أيضا في نشر الفضائح الكبيرة للمشاهير والأثرياء. لكنه يحرص قبل كل شيء على سرية هويات مصادره.

وأكد جوليان أسانج في مؤتمر صحافي عقد في لندن أن آلاف الأوراق العسكرية التي تم تسريبها تحتوي على أدلة قد تصل إلى جرائم الحرب مما يتوجب التحقيق فيها على وجه السرعة.

وكان موقع «ويكيليكس» قد حصل على تلك الوثائق التي تعد واحدة من أكبر المعلومات المسربة في تاريخ العسكرية الأميركية إذ يصل عدد الوثائق إلى 90 ألفا من سجلات الحوادث وتقارير استخباراتية حول الصراع في أفغانستان.

ويأتي نشر هذه الوثائق وسط قلق متزايد من فشل استراتيجية باراك أوباما التي تقوم على زيادة عدد القوات، إذ تكشف الوثائق كيف أن الوحدة السوداء السرية التابعة للقوات الخاصة قد طاردت قادة طالبان لقتلهم أو اعتقالهم دون محاكمة. وكيف أن الولايات المتحدة تسترت على أدلة بشأن حصول طالبان على صواريخ أرض جو.

كما توضح الوثائق كيف أن قوات التحالف استخدمت بشكل متزايد طائرات ريبر المقاتلة لتعقب وقتل أهداف طالبانية بالتحكم عن بعد من قاعدة نيفادا وكيف استطاعت حركة طالبان زيادة أعداد القتلى بتصعيد حملتها بزرع القنابل على الطرق التي أودت بحياة أكثر من 2000 من المدنيين حتى الآن.

من ناحية أخرى، ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية أن الكشف عن الوثائق العسكرية السرية المتعلقة بحرب أفغانستان التي يعود عمرها إلى 6 أعوام وضعت الرئيس الأميركي باراك أوباما في مأزق وزادت من حدة الضغط عليه للدفاع عن استراتيجيته العسكرية في الوقت الذي يستعد فيه الكونغرس لدراسة تخفيض تمويل الحرب على أفغانستان.

ويأتي توقيت هذا الكشف مع توجيه أصابع الاتهام لإدارة الرئيس أوباما بسوء التحكم في مجريات الحرب، مما أثار الكثير من التساؤلات المؤجلة حول الوجود الأميركي في أفغانستان، خاصة مع تصاعد أعداد القتلى والمصابين، ودفع مسؤولو الإدارة إلى التشكك في السياسة الأميركية المتبعة في الحرب ككل.