احتراق أسرع للنجوم في عالم الأخبار عبر الإنترنت

تحول اهتمام الصحافيين من البحث عن قصة مشوقة إلى ابتكار فكرة تلفت انتباه محرك البحث «غوغل»

أصبح الصحافيون يبحثون عن القصص التي تلفت انتباه محرك البحث «غوغل» أكثر من اهتمامهم بالقصص المبنية على فكرة مشوقة («نيويورك تايمز»)
TT

داخل معظم صالات التحرير، بدت النكتة واضحة. وقع الحدث في يوم كذبة أبريل (نيسان) العام الماضي، حيث بعث اثنان من كبار محرري «بوليتيكو» رسالة عبر البريد الإلكتروني إلى أعضاء فريق العمل المعاون لهم يخطرونهم بإقرار موعد جديد لبدء العمل لجميع المراسلين في الخامسة صباحا.

وكتب المحرران في رسالتهما: «ساعات ما قبل شروق الشمس عادة ما تمثل التوقيت الأمثل للاتصال بكبار المسؤولين ومساعديهم»، مستطردين بأن على المراسلين محاولة استقطاع وقت شخصي «إذا كنت بحاجة إلى ذلك»، خلال فترة بعد الظهيرة عندما تتباطأ حركة شبكة الإنترنت.

إلا أنه بدلا من أن تثير هذه الدعابة الضحك، حملق الكثير من المراسلين في سطور الرسالة بذهول وانتابهم الفزع. وعن ذلك، قالت آن شرودر مولينز، التي كانت تكتب في «بوليتيكو» حتى مايو (أيار) ثم استقالت لتؤسس شركة علاقات عامة خاصة بها: «لم يحسب الكثير من المراسلين أن الأمر مجرد مزحة، لدرجة أن إحدى الفتيات انخرطت في البكاء. وتوافد علي أشخاص يسألونني ما إذا كان ما ورد بالرسالة صحيحا».

هذا هو وضع الحقل الإعلامي هذه الأيام: حالة من الاهتياج الشديد والإجهاد العصبي. وأصبح الصحافيون الشباب الذين كان يراودهم ذات يوم حلم التجول عبر مختلف أرجاء العالم بحثا عن قصة صحافية شيقة، مقيدين بدلا من ذلك في مكاتبهم وحواسبهم الآلية، حيث يعكفون على محاولات مضنية لابتكار فكرة جديدة أو أن يكون أول من يلفت الانتباه لنبأ جديد، أي شيء يبهر محرك البحث «غوغل» ويجتذب القراء.

لقد أصبحت متابعة أعداد القراء الذين يقرأون مقالا ما، ثم مكافأة - أو توبيخ - الكتاب بناء على النتائج أصبح تقليدا شائعا على نحو متنام في صالات التحرير الإعلامية القديمة والحديثة. في الوقت الحالي، أصبحت «كريستيان سينس مونيتور» تبعث رسائل يوميا عبر البريد الإلكتروني إلى فرق العاملين لديها تضم قوائم بعدد مشاهدات الصفحات عن كل مقال ورد بالموقع الإلكتروني للصحيفة في ذلك اليوم.

وتعرض «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز» قائمة بأكثر المقالات التي جرت مشاهدتها على مواقعها الإلكترونية. وتدفع الآن بعض المؤسسات الإعلامية، بينها «بلومبرغ نيوز» و«غوكر ميديا»، أجور كتاب بناء على عدد المشاهدات التي تحظى بها مقالاتهم.

وفي بيئة إعلامية تعج بمصادر المحتويات الافتراضية، حيث لا تعد أي تفصيلات من دون أهمية ما دام أن آخرين سبقوا بالإشارة إليها، يحتل «بوليتيكو» مكانة متميزة بالنظر إلى سرعة تحركه المحموم.

ويكون كبار محرري الموقع في الرابعة والنصف فجرا في انتظار قدر كبير من السرعة والإنتاج من المراسلين العاملين تحت قيادتهم لإيمانهم بأن وجود «بوليتيكو» يعتمد في جزء كبير منه على مدى سرعة إطلاعه القراء على أمر ما، أي شيء يعلم بأمره المراسلون.

من جانبه، قال جيم فانديهي، رئيس التحرير التنفيذي في «بوليتيكو» خلال مقابلة عقدت داخل مكاتب الإصدار الواقعة على نهر بوتوماك قرب وسط مدينة واشنطن: «داخل الصحيفة، يتركز الضغط العصبي الحقيقي في المساء، وترى ذلك عندما تراقب وقتا زمنيا نهائيا خلال محاولة إنهاء العمل».

وأضاف: «الآن، في أي لحظة في يوم العمل الذي يبدأ في الخامسة صباحا، يمكن أن تجابه نفس هذا المستوى من الضغط والتوتر».

في مكاتب «غوكر ميديا» في مانهاتن، توجد شاشة تلفزيونية مسطحة على جدار تعرض أكثر 10 مقالات جرت قراءتها عبر جميع مواقع «غوكر» على شبكة الإنترنت. وتعرض الشاشة الاسم الأخير للكاتب، بجانب عدد مرات مشاهدة مقاله خلال تلك الساعة، وأطلقت «غوكر» على هذه الشاشة اسم «اللوحة الكبيرة».

من جهته، قال نيك دينتون، مؤسس «غوكر ميديا»: «في بعض الأحيان، يرى المرء الكتاب واقفين أمام الشاشة كما لو كانوا بشر بدائيين أمام جبل صخري ضخم». واستطرد دينتون بأن جميع الكتاب باتوا أكثر تقبلا للفكرة، مضيفا: «تكافؤ أفضل الأخبار الحصرية». ونوه بأن العلاوات التي يتقاضاها الكتاب يجري حسابها في جزء منها بناء على عدد مشاهدات صفحة المقال.

وكان من شأن هذا النظام خلق إجمالي حركة ضخم في فرق العمل داخل المنظمات الإخبارية الرقمية. الملاحظ أن معدلات رحيل العاملين عن «بوليتيكو» جاءت ضخمة بصورة خاصة خلال الفترة الأخيرة، وخلال النصف الأول من العام رحل عن الإصدار أكثر قليلا من 10 مراسلين، وهو عدد ضخم في صالة تحرير لا تضم سوى 70 مراسلا ومحررا تقريبا. وفي «غوكر»، من الشائع أن يستمر المحررون في وظيفتهم لمدة عام واحد فحسب.

الملاحظ أن الأعباء العصبية الشديدة التي يتسم بها العمل تبلغ درجة من الضخامة جعلت آثارها واضحة على الصحافيين الشباب.

في هذا الصدد، أوضح دوي لين تو، منسق برنامج الإعلام الرقمي بكلية الدراسات العليا الصحافية بجامعة كولومبيا، أنه «عندما يفد طلابي لزيارتي، يأتون محملين بإنهاك شخص ظل يعمل طوال عقد، وليس عامين. يساورني قلق حول إمكانية انهيارهم».

في واشنطن، تبدو دورة الأنباء في طريقها نحو اكتساب سرعة محمومة أكبر مع توسيع إصدارات مثل «هفنغتون بوست» لنطاق عملياتها هناك. أما «أتلانتيك ميديا كومباني»، التي تنشر «ناشيونال جورنال» و«أتلانتيك»، فتنوي الاستعانة بـ30 صحافيا جديدا من أجل مشروع من المقرر أن تفتتحه هذا العام لنشر الأخبار العاجلة والتحليلات عبر شبكة الإنترنت.

في «بوليتيكو»، قال فانديهي، الذي اشتهر بمروره المستمر عبر مكاتب المراسلين للاستفسار عمن طرح نبأ عاجلا مؤخرا، إن رؤساء التحرير خاضوا تجربة مراقبة عدد المقالات التي يكتبها المراسلون، لكنهم خلصوا إلى أن الأعداد الخام لا تكشف الصورة بأكملها المتعلقة بأداء مراسل ما.

لكن يبقى الإنتاج مهما. من بين العقائد التي ينتشر الإيمان بها داخل مكتب «بوليتيكو» واحدة يرمز إليها اختصارا بحروف «دبليو دبليو إم دي»، وهي الأحرف الأولى من عبارة «ماذا كان مايكي ليفعل (في هذا الموقف)؟»، وذلك في إشارة إلى مسؤول «بوليتيكو» الشهير الذي لا يكل ولا يمل، مايك ألن. ويشتهر ألن بأنه يصحو من نومه في الثانية أو الثالثة صباحا كي يبدأ عمله في الرسالة الإخبارية التي يتولى مسؤوليتها «بلايبوك».

الملاحظ أن محرري «بوليتيكو» يتحدثون طوال الوقت عن المخاوف من فقدان جمهورهم. وقال جون إف هاريس، رئيس التحرير: «كل فرد من الجمهور يعد بمثابة المحرر الخاص بنفسه بناء على الوجهة التي يرغب في توجيه الفأرة إليها أو إصبعه على (آي باد). وإذا لم تقدم خدمات ترضي هذا الجمهور، ستخسره».

ومن الشائع أن يصحو المراسلون من نومهم ليجدوا في انتظارهم رسائل عبر البريد الإلكتروني من فانديهي أو هاريس - أرسلت قبل الفجر - يستفسرون خلالها عن السبب وراء عدم نشر خبر معين في «بوليتيكو». ويحمل الرجلان، وكلاهما عمل مراسلا من قبل في «واشنطن بوست»، نفورا شديدا تجاه النقاط السلبية التي يمكنها إعاقة عمل المؤسسات الإخبارية الكبرى.

وقال هاريس: «كان ذلك واحدا من الأسباب وراء سعينا لبناء مؤسسة خاصة بنا. راودنا شعور بأن بإمكاننا البدء من الصفر وبناء ثقافة لا تحمل مثل تلك العادات السيئة». إلا أن بعض المراسلين السابقين يخالجهم أحيانا شعور بالإرهاق البالغ. عن ذلك، قالت هيلينا أندروز، المراسلة السابقة لدى «بوليتيكو» التي استقالت وتعكف حاليا على كتابة مذكراتها: «أحيانا كان يراودني شعور بأن على كاهلي عبئا مفرطا في ضخامته، سواء كان ذلك بسبب حجم العمل أو الضغط العصبي. أعتقد أن بعض الأفراد شعروا كما لو كانوا يغرقون. كانت (بوليتيكو) أشبه بمعسكر حربي، لكنني أعرف الكثيرين ممن شعروا بالفخر بتمكنهم من الاستمرار في العمل هناك».

يذكر أن الكثير من مراسلي «بوليتيكو» في العشرينات من العمر، ويشعرون بإغراءات تجذبهم لوظائف تبدأ رواتبها من قرابة 40 ألف دولار في مؤسسات إخبارية لديها القدرة على التأثير على اتجاه المناقشات بين النخبة في واشنطن.

من جانبهما، قال فانديهي وهاريس إنهما يدركان أن المراسلين ربما يشعرون بضغوط شديدة أحيانا، لكنهما شددا على أن فكرة أن «بوليتيكو» أشبه بحلبة مصارعة صحافية محض هراء. ومع ذلك، يبدو أن إدارة «بوليتيكو» تحاول التخفيف من حدة مناخ العمل بها، حيث تلقى الموظفون مؤخرا رسالة إلكترونية تفيد بأنهم دخلوا في سحب للفوز بـ«آي باد». وسيتعين عليهم جميعا ارتداء رقم معين على ملابسهم في يوم معين، مما يرمي إلى تعزيز المناقشة الودودة داخل مكان العمل.

* خدمة «نيويورك تايمز»