«تعليقات القراء».. عيادة مفتوحة بالمجان

الخبراء يرونها إحدى آليات الإعلام الموازي ومؤشرا على حرية التعبير

TT

تعد أبواب «تعليقات القراء» في الصحف والمجلات بمثابة مرآة حية، تطل منها تلك الصحف والمجلات على نفسها من زاوية خاصة، وفي الوقت نفسه، تقيس من خلال عين محايدة مدى حيويتها وجديتها وفضائها في سوق النشر والتوزيع.

ومع انتشار الإنترنت والمواقع الإخبارية بحكم التطور الهائل في علوم الاتصال أصبحت «تعليقات القراء» أشبه بعيادة مفتوحة بالمجان، لتلافي عثرات وأمراض المهنة، على مستويي الشكل والمضمون معا، وأيضا لمعرفة سيكولوجية القارئ، وما يعتري مزاجه الخاص وسط تقلبات الظروف والأحوال التي يمر بها العالم.

الطريف أنه أصبحت لهذه العيادة المجانية لغة ورموز وأجواء خاصة، يتقاطع على سطحها الجد والهزل، الشخصي الذاتي والشائع العام، كما تمتزج السخرية بالمزاح. ويساعد جو الحرية التي تدور في فلكه هذه التعليقات على البوح والفضفضة والتعبير بجرأة عما يجيش في النفس من أحلام ورؤى وهموم.. تطالعنا بذلك حزمة من التعليقات من قبيل «أتمنى أن تقبليني زوجا يا جميلة الجميلات، ولو أني شوية كبير السن، لكني وسيم ومعي مال كتير».. «كلام لا قيمة له ويبدو أنه كتب على عجل وبلا تثبت».. «الله يقصف قلمك».. «أهيب عليك تدبير عمل لابني خريج كلية التجارة وهذا رقم جوالي».. «يعطيك العافية ويطيل عمرك أمتعتني لا فض فوك».. «هذا إعلام كافر عميل».. وغيرها من الجمل القصيرة التي تعد نماذج بسيطة لملايين التعليقات التي تتذيل معظم الأخبار والمقالات المنشورة على شبكة الإنترنت، كتبها بعض القراء من متصفحي المواقع الإلكترونية من شتى بقاع العالم.

ومن ثم، فبمجرد دخولك إلى أحد المواقع الإخبارية الشهيرة أو عند تصفحك لأي صحيفة إلكترونية معروفة، ووقوع عينيك على خبر مثير للجدل يناقش أزمة من الأزمات اليومية، أو تصريح مفرح أو محزن لمسؤول ما، أو مقالة لكاتب شهير، ستجد نفسك في نهايتها تغوص في عالم مثير مليء بالمتناقضات.

هذا العالم تشكله مجموعة من التعليقات والآراء يتبناها أشخاص افتراضيون، ينتمون إلى جنسيات مختلفة، وتيارات سياسية واجتماعية متباينة، وخلفيات ثقافية متناقضة ومتشابكة، تتكثف ويزداد إيقاعها يوميا مع انتشار الإنترنت وبروز الصحافة الإلكترونية والمواقع الإخبارية، مما يعني بروز آفاق لا حدود لها في التفاعل بين القارئ والكاتب، استدعت حرص هذه المواقع والصحف على إضافة خدمة التعليق على الخبر.

وأصبحت هذه التعليقات جزءا لا يتجزأ من الخبر أو المقال المنشور، خاصة إذا كان متعلقا بشأن عام أو لكاتب شهير أو خبر مثير للجدل.. بحيث يدفعك الفضول إلى استكمال القصة الخبرية عبر قراءة التعليقات وآراء متصفحي الموقع من كل الاتجاهات والتيارات.

المثير أنك حين تتجول في عالم «تعليقات القراء» ستجد مجموعة تضيف للخبر طرحا جديدا، ورؤى فكرية تثير وتستكمل الموضوع، بينما تجد فئة أخرى تهتم بقراءة الموضوعات والاطلاع عليها، وتكتفي بتقديم الشكر والتقدير. وهناك آخرون يدلون بالنصائح للكتاب من خلال «لا تكتب في هذا الموضوع واكتب في ذلك».. بل ويوجهون اللوم لكاتبهم المفضل عندما يأخذ اتجاها مخالفا لما اعتادوا عليه منهم.. فهذه رسالة وجهها أحد القراء لكاتبه المفضل والحريص على متابعته كما يقول.. «أستاذنا الفاضل.. موضوعك اليوم مختلف عما عهدنا منك، الله يخليك لا تعاودها وخليك على أسلوبك الأول المحبب لنا».

في المقابل ستجد وابلا من النقد الموضوعي اللائق أحيانا، وغير اللائق في أحيان كثيرة (لا يخلو من السب والقذف). فهناك الكثير من المعلقين استغلوا هذه الظاهرة الإيجابية استغلالا سلبيا، بحيث يقومون بالتركيز على كتاب معينين وملاحقتهم وتقصدهم شخصيا بصرف النظر عمما يكتبون، فهم لا يجادلونه بوجهة النظر الأخرى، بل غرضهم التشويش والسب والإساءة وتوزيع الاتهامات بالجملة وأبرزها تهمة «العمالة» للكاتب وللصحيفة.

ورغم أنه عادة ما يضع مديرو المواقع شروطا للتعليق، يتعلق معظمها بضرورة احتوائها اسم المشارك، وعدم استخدام الشتائم والكلمات البذيئة أو كتابة عبارات غير مهذبة أو تغذية نعرات عرقية أو طائفية، فإنه في الكثير من الأحيان لا يلتزم المعلقون بهذه الشروط، ويعتبرون أن السباب والقذف أقصر الطرق من أجل لفت الانتباه لتعليقاتهم.

الكاتب الكبير أنيس منصور دعا لتفهم هذا الأمر واستيعابه قائلا «هذه شروط اللعبة، وهي مقبولة على العين والراس، أو على الخشم كما يقول السعوديون، فاللاعب ينزل إلى الملعب، وهو يعلم مقدما أنه ربما انكسرت ساقه أو ذراعه، وأنه إذا أصاب هدفا صفقت الجماهير، وإذا فشل لعنته الجماهير حتى لو كان هداف الدوري أو الكأس».

وهو يراه حال كتاب المقالات نفسه حينما يقول «يكتب الكاتب كل ما عنده، ويجتهد، ويحاول أن يكون مفيدا أو ظريفا أو مسليا، ويعلم أن القراء يحبونه أحيانا ويلعنونه أحيانا. هذا طبيعي.. ومن تعليقات القراء على ما يكتب يرى العجب». فـ«من تعليقات القراء على مقال واحد (والكلام على لسان أنيس منصور الله): ما هذا الكلام الفارغ؟.. لماذا لا تتحدث عن ذكرياتك وقصصك المسلية؟.. ومن يقول: مالنا ومال فلان وعلان.. والزعيم الفلاني كان يأكل ويشرب والزعيم العلاني كان يقول.. لماذا لا يكتب في قضايا العصر وهموم الزمان؟.. فإذا كتب عن هموم بلده التي يعرفها أكثر قيل له: أليس في الدنيا غير بلدك، وأين مشكلات ومصائب الدول الأخرى؟.. وإذا أخطأت المطبعة فنصبت ورفعت وكسرت وحذفت حروفا ونسيت عبارات، فالغلطان هو الكاتب»، واصفا هذا الجدل بـ«حكاية جحا وابنه وحماره»، حينما رفض الناس كل حلول جحا في ركوب حماره مع ابنه.

ورغم مساحة الحرية الواسعة المتاحة في هذا الفضاء، فإن البعد الأمني له دور كبير في رفض الكثير من القراء الإدلاء بآرائهم كاملة أو التعبير عن وجهة نظرهم بصراحة، فالكثير من القراء في العالم العربي يساورهم الشك في أن تكون هذه المواقع مرصودة من قبل الأجهزة الأمنية خاصة إذا كانت الأخبار متعلقة برئيس دولة أو مسؤول كبير وبالتالي «لا يجب نقده».. لذلك يؤكد القارئ «محمد ركابي فارس» أنه يتردد كثيرا في الإدلاء بآرائه في المواضيع السياسية خوفا من أن تكون مراقبة.. وللتحايل على ذلك فإنه يرفض كتابة اسمه على أي تعليق يدلي به ويتركه فارغا أو يكتب اسما مستعارا.

لكن في هذا العالم، المحرر من قيود المواجهة، والذي قد يضم في مقال أو خبر واحد «مثقفين وجهلاء.. إسلاميين وعلمانيين.. قوميين وشيوعيين.. بسطاء وأغنياء.. فنانين مبدعين وآخرين متطفلين».. لا تعجب إن تحول الجدل من التعليق على الخبر أو المقال إلى تعليقات وحوارات متبادلة بين القراء.. تتطور بينهم أحيانا إلى نقاش جاد ومثمر يفتح آفاقا جديدة في القضية المثارة.. أو يأخذ منحى آخر ويتحول إلى معركة بين المعلقين على شاشات الكومبيوتر وصفحات الموقع.. الأعجب من ذلك حينما تنشأ علاقات اجتماعية وطيدة بين اثنين من المعلقين من خلال إرسال رسائل خاصة لبعضهم بعضا.

وفي هذا السياق يروي أحد الحريصين على التعليق اليومي في موقع إخباري، أنه تبادل الإشادة بينه وبين أحد المعلقين على تعليقات بعضهم بعضا، ومن ثم طلب البريد الإلكتروني الخاص به، وقد توطدت العلاقات فيما بينهما رغم أن كلا منهما مقيم في دولة مختلفة، وذلك عبر الرسائل الخاصة، إلى أن تمكنا من مقابلة بعضهم بعضا واستمرت علاقة الصداقة.

ولا تترك الشركات والمؤسسات التجارية مساحة على الإنترنت إلا وتحاول استغلالها في مجال الدعاية والإعلان لمنتجاتها وخدماتها، خاصة لو كانت هذه المساحة مجانية وتتمتع بالمشاهدة من قبل عدد كبير من الأفراد، لذلك لا تستغرب إذا استغل هؤلاء المعلنون فرصة التعليقات على الموضوعات في الترويج لشركاتهم، وستجد أفرادا يعلنون عن شركاتهم وخدماتهم التي يقدمونها وأرقام هواتفهم وكيفية الوصول إليهم.

الكاتبة «سحر الجعارة»، قالت لـ«الشرق الأوسط»، إن ظاهرة انتشار التعليقات شيء إيجابي مطلوب، وتعد إحدى آليات الإعلام الموازي، الذي يعد مؤشرا على حرية الرأي والتعبير في أي مجتمع، لذلك فهي شخصيا تتابع جميع التعليقات التي تأتي على مقالتها الصحافية رغم الهجوم الشديد الذي تتعرض له في كثير من الأحيان، خاصة من جانب التيارات السلفية والدينية المتشددة التي ترفض أفكارها وتبادر بالرد غير الموضوعي، الذي يصل في كثير من الأحيان إلى حد الإسفاف واستخدام كلمات بذيئة.

لكنها تعتبر هذه الردود مهمة جدا للكاتب وللصحيفة، فالكاتب والصحيفة ضروري أن يكونا على دراية بالرأي العام، وأن يتواصلا مع القراء لفهم عقلياتهم، وألا يصبح الكاتب في برج عاجي بعيدا عن الواقع والمجتمع الذي يعيش فيه، لأنك في الأخير تكتب عنه وعن همومه ومشكلاته، ويمكن للكاتب أن يرد على هذه التعليقات في مقالات أخرى من أجل توضيح المزيد من وجهة نظره تجاه قضية معينة.. مشيرة إلى أنها تفرح جدا عند تزايد نقد بعض القراء من جانب اتجاهات معينة، فهي تعتبر حينها أن رسالتها وفكرها وصلا إلى المعنيين به الرافضين له بالأساس، لعلهم يراجعون وجهة نظرهم فيما بعد.

وهو موقف الكاتب «مأمون فندي» نفسه، الذي قال في مقال له بعنوان «الدولة الطرشة»: «إن لدي مجموعة ممن يعلقون على مقالاتي أقرأهم بالجدية نفسها التي يقرأون بها مقالي، وأتشوق إلى تعليقاتهم».

لكن، وعلى الجانب الآخر، فإن الناقد الرياضي الشهير «حسن المستكاوي» له رأي مغاير في هذا الشأن، فهو يؤكد أنه كان في الماضي يقوم بقراءة ومتابعة التعليقات التي تنشر على مقالاته في الصحف ويهتم بالرد عليها، لكنه توقف حاليا عن هذه المتابعة ويعتبر التعليقات الهائلة التي تصل إليه عبر قرائه «غير موجودة»، بل ويطالب الصحيفة دوما بعدم نشرها وحذفها. ويرجع المستكاوي ذلك إلى أن معظم التعليقات الآن أصبحت عبارة عن معارك كلامية مليئة بالشتائم وأفظع الألفاظ، وكلها تحتوي على عبارات عنصرية وتساعد على نشر التعصب، والتراشق بين المعلقين بعبارات صعبة القول.

يقول المستكاوي لـ«الشرق الأوسط»: «إن 99 في المائة من التعليقات ليس لها علاقة بما هو مكتوب في الخبر أو المقال، وإنما يتناول المعلقون قضية مختلفة يصرون على إثارتها، والمثال القريب على ذلك قضية الخلاف الكروي بين مصر والجزائر، والتي أثارت تعصبا كبيرا بين المعلقين، واختلط فيها الحابل بالنابل».

ويرى المستكاوي أن مشكلات التعليقات هذه ليست مقصورة فقط على الموضوعات الرياضية، بل توجد أيضا في المواقع السياسية ومعظم المجالات وعلى كل الكتاب. معللا ذلك بمساحة الحرية الكبيرة المفتوحة بسبب الإنترنت والتي يتم استغلالها عن طريق الخطأ، لأنه لا توجد رقابة حقيقية، وكل المعلقين يستخدمون أسماء مستعارة وإيميلات وهمية. ويطالب المستكاوي بوقف نشر هذه التعليقات لأنه لا يمكن لأي صحيفة كبرى أن تراقب هذه الكم الرهيب من التعليقات والذي يصل إلى 900 تعليق في بعض الأحيان لكاتب واحد.

الدكتور محمود علم الدين، رئيس قسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، فَصل في حديثه لـ«الشرق الأوسط» هذه المسألة من الناحية العلمية والأكاديمية، موضحا أن التعليقات الإلكترونية على الأخبار والمقالات في الصحف والمواقع الإلكترونية هي واقع جديد فرضته التطورات التكنولوجية الحديثة بحيث جعلت هناك تفاعلات كبيرة بين الصحيفة والقارئ، وأصبح هناك محتوى مصنوع عبر القارئ. هذه التطورات حولت القارئ من مجرد شخص سلبي إلى آخر إيجابي يتفاعل مع الخبر ويرسل تعليقه ورأيه عليه، وكأن المواقع الإخبارية أصبحت منتديات للقراء.. مشيرا إلى أن دوافع القراء في كتابة تعليقاتهم وآرائهم تتنوع ما بين أهمية الخبر أو المقال المنشور على المستوى العام، أو مجرد اهتمامات وحاجات شخصية للمعلق تجاه الكاتب سواء كان من أنصاره أو من أعدائه، إلى التعليق على الشخصيات التي يحتويها هذا الخبر أو الموضوع، الذي قد يكون مصدر إعجاب أو استنكار للجماهير.

ونفى علم الدين أن تكون كثرة أو انتشار ظاهرة التعليقات في الوطن العربي ترجع إلى ضعف المشاركة السياسية وقلة الأنشطة الاجتماعية، مؤكدا أن أماكن المشاركة السياسية متاحة بشكل مقبول في هذه البلدان، وبالتالي فهي ليست بديلا، لكنها في الحقيقة تعد شكلا من أشكال المشاركة وحرية الرأي لكن من المفهوم الضيق للتعبير عن الرأي.

وأوضح علم الدين أن هناك ثلاث أبعاد أو قضايا يجب التركيز عليها عند الدراسة والبحث في جدوى نشر هذه التعليقات. أولا: البعد الأخلاقي للتعليق، فالكثير من التعليقات تأتي محتوية على أفظع الشتائم والسباب، وبالتالي لا يصح نشر هذه التعليقات ويجب عمل كنترول عليها من جانب الموقع، لأنها تخدش الحياء. ثانيا: الجانب الموضوعي، وهي الموضوعية في نشر التعليقات، بحيث لا يجب أن يكون النشر في اتجاه واحد فقط وهو الاتجاه المؤيد للصحيفة ويخدم الموقع فقط، فعلى الرغم من حق الموقع في أن ينشر ما يشاء من التعليقات وفقا لضوابطه وأن يحجب ما يشاء، فإن ذلك يجب أن يكون في إطار سياسة موضوعية لا تمس حرية الرأي والتعبير.

ويتشابك هذا مع البعد الثالث: الذي يتناول محتوى التعليق، وهل يجب أن يسمح بنشر تعليقات تحتوي على معلومات أم آراء فقط، وأي معلومات يتم نشرها، وكيف يمكن التأكد منها، وأي آراء يتم نشرها أيضا، فهناك من يقوم باستغلال الموقع لنشر أفكاره وآرائه التي غالبا ما تكون بعيدة عن الموضوع المنشور أو القضية المطروحة. وهذا يدعو إلى ضرورة أن تكون هناك سياسات محددة للمواقع لتحديد كيفية وضوابط وأخلاقيات النشر، فلا توجد صحيفة أو موقع في العالم ينشر كل شيء.

ودعا علم الدين الصحيفة أو الكاتب إلى أن التفاعل مع هذه التعليقات والاستفادة من التعليقات الجيدة والأفكار الجديدة، على الرغم من إقراره بصعوبة واستحالة الرد على هؤلاء المعلقين والتعقيب على تعليقاتهم، مشيرا إلى أنه ومن خلال هذه التعليقات يمكن التعرف على اتجاهات مستخدمي الموقع والحصول على مؤشرات لمعرفة آرائهم وأذواقهم.

وتبقى الإشارة في النهاية إلى أن حجم الردود والتعليقات لا يعبر عن أهمية وجودة المقال، فتناول كاتب لمواضيع ساخرة أو طريفة يجعله أكثر قراءة من كاتب جاد، يناقش قضايا اجتماعية وسياسية.