مخاوف من عودة الرقابة على الصحف تثير القلق في جنوب أفريقيا

الحزب الحاكم يتحرك نحو كبح جماح وسائل إعلام بات يعدها بين خصومه

مخاوف على مستقبل المطبوعات اليومية في جنوب أفريقيا («نيويورك تايمز»)
TT

عادة ما تعج الصفحات الأولى من الصحف في جنوب أفريقيا بمقالات تتحدث عن سياسيين يعيشون على حساب الأموال العامة في بلاد ترزح تحت وطأة الفقر.

وانقض المراسلون مؤخرا على أنباء حول أن اتفاقا لتمكين أبناء البلاد من أصحاب البشرة السمراء يرمي لخدمة الجنوب أفريقيين «الذين عانوا الحرمان من قبل» يسهم في إثراء شركة يترأسها نجل الرئيس جاكوب زوما البالغ من العمر 28 عاما، زودوزان، من بين آخرين، حيث يمنحهم حصة مربحة في الذراع الجنوب أفريقية من شركة «أرسيلورميتال» العملاقة بمجال الصلب. وعلق الصحافي موندلي مكهانيا، في مقال له مؤخرا بصحيفة «صنداي تايمز أوف جوهانسبورغ»، على الأمر بقوله: «تعد تلك أكثر الاتفاقات التجارية إثارة للقلق على امتداد السنوات الأخيرة». في ظل الظروف العادية، من شأن مثل هذا النمط من الأخبار إثارة الدهشة والغضب في نفوس القراء، لكن الملاحظ أن العلاقات العدائية بين السياسيين والصحافة اتخذت منحى بغيضا مؤخرا، مع تحرك الحزب الحاكم الذي يعتمل بالغضب نحو كبح جماح صحف بات يعدها بين خصومه. واستجاب المسؤولون التنفيذيون بالشركات التجارية وقادة المجتمع المدني والصحافيون بإصدار تحذيرات قوية من أن الإجراءات الصارمة التي يرمي حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم لفرضها تهدد حرية الصحافة، وتغلف الكثير من النشاطات الرسمية بهالة من السرية، وقد تحمل عقابا بالسجن لفترة تصل إلى 25 عاما للصحافيين الذين يثيرون غضب سياسيين أو من يكشفون النقاب عن قضايا فساد وتقوض جهود مكافحة الفساد داخل أكبر اقتصاديات القارة الأفريقية. وأضاف الكتاب نادين غورديمر وأندريه برينك وأشمات دانغور جون كاني ونيابولو نديبيلي أصواتهم لصيحات الاعتراض. وأكدت غورديمر أن «ذلك تهديد بعودة الرقابة التي كانت قائمة في ظل حكم التمييز العنصري». جدير بالذكر أن ثلاث روايات لغورديمر منعت من النشر خلال تلك الحقبة. بعد إنفاق مليارات الدولارات بنجاح لاستضافة بطولة نهائيات كأس العالم - والتمتع بالتغطية الإعلامية التي استمرت طيلة شهر وأسهمت في تعزيز سمعة البلاد كدولة ديمقراطية - اكتشفت الحكومة أنها خلقت مشكلة كبرى على صعيد العلاقات العامة. الآن، يثير الكثيرون في الداخل والخارج التساؤلات حول مدى التزام الحزب الحاكم بحرية الصحافة. وحاول مجلس الوزراء، الحد من الأضرار الناجمة عن المقترحات الجديدة، حيث لمح المتحدث الرسمي باسمه، ثمبا ماسيكو، أن الحكومة على استعداد لدراسة إدخال تغييرات على مقترحاتها، ودعا للعودة إلى الهدوء. حسب صورته الراهنة، يمكن مشروع قانون حماية المعلومات الذي طرحته الحكومة بزعامة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي رؤساء الوكالات الحكومية من فرض السرية على فئات واسعة من المعلومات سعيا لخدمة «المصلحة الوطنية». وينص مشروع القانون أيضا على عقوبة السجن لمن يكشف عن المعلومات السرية لفترة تتراوح بين 3 و25 عاما. ويعرف القانون «المصلحة الوطنية» بأنها «جميع القضايا المتعلقة بتعزيز الصالح العام» و«بقاء وأمن الدولة». ويقطع مشروع القانون طريقه حاليا داخل البرلمان، حيث يتمتع الحزب الحاكم بأغلبية الثلثين.

علاوة على ذلك، صعد الحزب من ضغوطه لتشكيل محكمة، تخضع لمساءلة البرلمان، تتولى تنظيم وسائل الإعلام المطبوعة - وهو إشراف قالت عنه مؤسسة «القيادة التجارية جنوب الأفريقية» التي تمثل الشركات التي تدفع 80% من إجمالي ضرائب الشركات هنا، أنه «يثير إمكانية خلق وسائل إعلام تخضع لمساءلة القيادات السياسية». بصورة عامة، تبدو مظاهر كراهية الصحافيين واضحة. على سبيل المثال، وصفت وثيقة صادرة عن الحزب الحاكم بتاريخ 29 يوليو (تموز) قطاعات من الصحافة بأنها «تتخذ موقفا مناهضا لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي»، واتهمت وسائل الإعلام المطبوعة بإبداء «قدر صادم من الخداع».

من جهته، اعترف مجلس الوزراء بالمخاطر التي يشكلها هذا الجدال الموسوم بالحقد على صورة البلاد، مشيرا إلى أنه سيعقد لقاء مع رؤساء تحرير لمناقشة ما وصفه بوجهة نظر خاطئة بأن المجلس يسعى لتكميم الصحافة. وشدد ماسيكو، المتحدث الرسمي باسم الحكومة، على أن المحكمة الإعلامية لا تعدو كونها قضية لا تزال مطروحة للنقاش داخل الحزب الحاكم، وليس الحكومة. وفي الوقت الذي لم تتخذ الحكومة قرارا بسحب مشروع قانون حماية المعلومات، فإنها تنوي دراسة الآراء المعارضة له. اللافت أن البعض من داخل الحقل الصحافي يعترف بوجود مشكلات في نبرة ودقة بعض من التغطية الصحافية، إلا أن المقترحات القاسية التي طرحها الحزب أسفرت عن انغلاقه على نفسه. وتساءل أنتون هاربر، رئيس تحرير سابق ويترأس حاليا قسم الصحافة بجامعة ويتوترسراند: «هل هناك مشكلة في الدقة؟». وأضاف: «قطعا. هل كان هناك تردد في تقديم اعتذار في توقيت ملائم وعلى نحو مناسب؟ لا شك». وأشار إلى أنه خلف الكواليس يجري رؤساء التحرير محادثات حول كيف يمكن للصحافة تعزيز معاييرها، لكنه استطرد بأنه من الصعب تحقيق ذلك في وقت تشن الحكومة هجوما مباشرا ضد الحريات الأساسية. المؤكد أن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي غضب إزاء بعض المعلومات التي كشفت الصحافة النقاب عنها، والتي ارتبطت بعضها باتفاقات معقدة، بينما أضر البعض الآخر بصورة الحزب كزعيم للفقراء، وخلق شعورا بأن القواعد تختلف لدى تطبيقها على أصحاب السلطة السياسية. وتناولت الصحف مواضيع حول وزراء يتنقلون في سيارات «مرسيدس - بنز» و«بي إم دبليو»، وإنجاب الرئيس طفلا من سيدة لم يكن متزوجا بها، وإقامة وزير الاتصالات في فندق خمسة نجوم، «ماونت نيلسون هوتيل»، في كيب تاون واحتساء سياسيين لخمور فاخرة على حساب دافعي الضرائب.

وأثارت آخر القصص الصحافية بيانا شديد اللهجة من جانب المتحدث الرسمي باسم الحزب الحاكم، جاكسون ماثيمبو، الذي دافع عن إقامة عدد من كبار المسؤولين بالفندق الفاخر باعتباره أمرا يتوافق مع الإرشادات التي تحكم عمل الوزراء، ووصف مقال «ميل آند غارديان» بشأن هذا الأمر «محاولة فجة للإثارة». وساعد الصدام بين الصحافة والحزب الذي تزعم حركة التحرر جنوب الأفريقية في إثارة مشاعر قلق على مستوى البلاد - التي تضطلع بدور حيوي في إرساء الاستقرار في أفريقيا - مما قد يدفعها على النحو المسار الذي انتهجته زيمبابوي من قبل، حيث تحول الذين حاربوا من أجل حكم الأغلبية إلى نخبة جشعة استغلت القمع في التشبث بالسلطة. من ناحيته، قال موليتسي مبيكي، رجل أعمال ومحلل سياسي الذي كان شقيقه، ثابو، رئيسا من قبل، خلال مقابلة أجريت معه: «يرغبون في تكميم أفواه وسائل الإعلام تجاه قضايا الفساد». والملاحظ أن هذا الرأي أصبح شائعا هنا على نحو متزايد. وجاء رد فعل قيادات الحزب الحاكم، بما فيهم الرئيس زوما، متسما بالغضب تجاه الاتهامات بمحاولة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي السيطرة على وسائل الإعلام أو التعتيم على الفساد. وفي إطار بيان حزبي أصدره مؤخرا، قال زوما: «يعلم جميع المطلعين وأصحاب التفكير الصائب أن حكومة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الديمقراطية شجعت على محاربة الفساد». يذكر أن مزاعم بالتورط في الفساد طاردت زوا لسنوات عدة. وأصدر مؤخرا أوامره لوحدة تحقيقات رفيعة المستوى بالتحقيق بشأن ادعاءات وجود فساد في 7 وكالات حكومية. إلا أن المخاوف إزاء دوافع حكومته اشتعلت منذ 4 أغسطس (آب)، عندما ألقي القبض على مزيليكازي وا أفريكا، مراسل «صنداي تايمز»، بناء على اتهامات بالاحتيال. قبل ذلك بأيام، كان أفريكا قد كتب بالتعاون مع مراسل أخرى موضوعا في الصفحة الأولى حول موافقة رئيس الشرطة الوطنية، بهيكي سيلي، على ما وصفته الصحيفة بصفقة عقارية مريبة مع رجل أعمال ذي صلات سياسية من دون مناقصة تنافسية. وقالت الصحيفة وأفريكا إنه تعرض لإلقاء القبض عليه من قبل ضباط شرطة ليس بحوزتهم أمر اعتقال، رغم أنه كان في طريقه لتسليم نفسه، ولم يسمح له بالاتصال بمحاميه لساعات. وأضاف أفريكا أن الشرطة فتشت منزله وصادرت المذكرات الصحافية الخاصة به. وخلال استجوابه صباح اليوم التالي، سأله مسؤولو الشرطة حول ما إذا كان قد حاول تشويه صورة كبار أعضاء الحزب الحاكم. ووصفت صحيفته إلقاء القبض عليه في قضية لا صلة لها بالمقال «محاولة فجة لإرهابه هو والصحيفة». كما وصفت «ميل آند غارديان» إلقاء القبض على المراسل بأنه «رسالة قوية ومفزعة». وأضافت الصحيفة بمقالها الافتتاحي: «إننا في قتال من أجل حياتنا، وهو قتال سيدوم طويلا وتكتنفه الفوضى والغموض الأخلاقي، لكن ذلك لن يمنعنا من القتال بكل ما أوتينا».

* خدمة «نيويورك تايمز»