جاك أندرسون وريتشارد نيكسون.. عداء متنام بين الصحافة والرؤساء

رائد التحقيقات الصحافية ملء سمع وبصر واشنطن كشف عن مساعدات الإدارة السرية لباكستان في حربها ضد الهند

جاك أندرسون
TT

في حقبة ما من تاريخ واشنطن كان جاك أندرسون ملء سمعها وبصرها، فكان فارس الكلمة وكاتب الرأي الذي كشف عن الكثير من أسرار إدارة ريتشارد نيكسون، أوصلته إلى جائزة بوليتزر، كما كشف عن مساعدات الإدارة الأميركية السرية لباكستان في حربها ضد الهند.

بيد أن هذا المجد الذي بناه أندرسون كان معرضا للسقوط لو أن أحدا علم أنه دفع مقابلا للمصدر الذي زوده بالمعلومات السرية حول باكستان، فقد حدث أن اشترى أندرسون قطعة أرض غير مزروعة من تشارلز رادفورد الموظف بالبحرية، مستخدما صديقا قديما في الثانوية كوسيط للتخفي لنقل الملكية. وقد اعترف أندرسون قبل أشهر قليلة من وفاته بأن ما فعله كان مكافأة لرادفورد على صنيعه.

أدلى أندرسون باعترافه للمؤلف مارك فيلدستين، الأستاذ المساعد في جامعة جورج واشنطن، الذي عمل مساعدا لأندرسون في السبعينات، والذي قال عنه في كتابه: «كنت أتطلع إليه بإعجاب، صحيح أن لديه بعض النقائص، الله وحده يعلمها. وقد تيقنت لاحقا من ارتكابه لبعض الأخطاء، وكل من عملوا معه علموا أن النهج الذي اتبعه لم يكن هو ذلك الذي أدرسه لطلابي في الجامعة. فالابتزاز والرشوة كانا بمثابة صدمة لي».

أدهشني كتاب فيلدستين الجديد «تسميم الصحافة»، الذي ينقل صورة كاملة للحقيقة أيضا. وعلى الرغم من الرواية التفصيلية للهوس الكامل لنيكسون بأندرسون - إلى حد أن 16 عميلا من عملاء «سي آي إيه» أخضعوه لمراقبة دقيقة وتآمر لص ووترغيت غوردن ليدي لقتله - يؤكد المؤلف أن كل جانب استخدم أساليب غاية في الشناعة ضد الآخر.

أندرسون الذي توفي عام 2005 ربما يبدو شخصية مجهولة اليوم، لكن هذا الرجل كان ملء سمع وبصر واشنطن خلال الفترة التي سبقت فضيحة ووترغيت فكان رائد التحقيقات الصحافية الذي قدم عددا من التحقيقات الهامة مع فريقه الصغير، أثارت غضب الرئيس نيكسون الذي نعته بعدد من الألقاب السيئة، ذكر الكتاب بعضا منها.

هذا العداء المتبادل بين الجانبين كان استهلالا للعداء المتنامي بين الرؤساء والصحافة، على الرغم من أن أي إدارة تالية لم توازِ إدارة نيكسون في فسادها وجرمها تجاه الصحافيين. غير أن الأدلة المتراكمة على الوسائل الملتوية التي اتبعها أندرسون تلوث ما يمكن أن يطلق عليه أخلاق وسائل الإعلام.

لكن ليس كل شخص يصدق مثل هذه الفرضيات، بطبيعة الحال، بمن فيهم لي ويتن الذي كان نائب أندرسون لفترة طويلة. ويقول ويتن: «ارتكب جاك الكثير من الأخطاء، لكنه كان شخصا رائعا، وكان الأفضل في تلك الفترة. لم يكن جاك خادعا أو مضللا بقدر ما كان ذكيا، فقد كان ابن صحافة ذلك الزمان. فلو أنك كنت مستقيما بنسبة 75 في المائة طوال الوقت فتلك نسبة رائعة».

وامتدح بريت هيوم، المراسل السابق لدى أندرسون، الذي أصبح مذيعا في قناة «فوكس نيوز»، الكتاب قائلا: «أعتقد أن الكتاب بشكل عام كان منصفا لجاك».

* أساليب مثيرة للشكوك

* بدأ فيلدستين، المراسل السابق في شبكات «إيه بي سي»، و«إن بي سي»، و«سي إن إن» عمله كأطروحة للدكتوراه قبل عشر سنوات، أجرى خلالها 200 مقابلة وراجع عشرات الآلاف من صفحات الوثائق ومن بينها ملف أندرسون لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي، وقضى وقتا طويلا يستمع فيه إلى أشرطة البيت الأبيض. وقد كشفت جامعة جورج واشنطن عن الأرشيف الذي منحه إياها أندرسون والذي يحتوي على 200 صندوق من الأوراق الشخصية التي حاول مكتب التحقيقات الفيدرالي في عهد بوش الحصول عليها بعد وفاته، بزعم إمكانية احتوائها على معلومات تخص الأمن القومي الأميركي قبل التراجع عن ذلك بعد عدة أشهر.

اتضحت أساليب أندرسون المثيرة للشكوك عام 1958 عندما ضبط هو ومحقق الكونغرس الديمقراطي يزرعان أجهزة تنصت في فندق شيراتون كارلتون بهدف الحصول على تسجيل لرجل أعمال يقدم رشوة لشيرمان آدمز، الذي أجبر فيما بعد على الاستقالة من منصبة كرئيس لموظفي البيت الأبيض في عهد الرئيس دوايت أيزنهاور. كان ذلك صدمة كبيرة لأندرسون الذي كان يعمل حينها المساعد الرئيسي للكاتب الصحافي درو بيرسون.

وخلال حملة عام 1960 عمل أندرسون مع ناشط لجون إف كيندي للكشف عن قرض بقيمة 205.000 دولار - واقع الأمر هدية لم ترد - من الملياردير هوارد هيوز إلى دونالد شقيق نائب الرئيس نيكسون. كان بيرسون مترددا في كتابة القصة عشية الانتخابات، لذا قام أندرسون بإحكام خطته بأن جعل مساعدا كبيرا لنيكسون يعلم أنه يتحرى الأمر. دفع ذلك الحزب الجمهوري إلى تسريب نسخة منقحة إلى مراسل صحيفة «سكريبس هوارد» المحافظة، ما أتاح الفرصة أمام كتاب الرأي لتصحيح الرواية عبر سرد تفاصيلها الأسوأ.

سرعان ما اتخذ بيرسون وأندرسون موقفا حزبيا وقاما بصياغة بيان لصديقهما ليندون جونسون، المرشح لمنصب نائب الرئيس مع كيندي، لمطالبة مجلس الشيوخ بعقد جلسات استماع للبحث في تمويلات حملة الرئيس كيندي. حتى أنهم أرسلوا برقية إلى عضو الكونغرس الديمقراطي جاك بروكس يطالبونه فيها بعقد مؤتمر صحافي للمطالبة بالتحقيق في القضية وهو ما فعله بروكس.

على الرغم من انتماء أندرسون للحزب الديمقراطي، فإنه أحيانا ما كان يصطدم ببعض الديمقراطيين أيضا. فعقب أسابيع من اغتيال مارتن لوثر كينغ، قام بسلسلة من التحقيقات أفادت بأن روبرت كيندي طلب من مكتب التحقيقات الفيدرالي التجسس على زعيم الحقوق المدنية - واعترف فيما بعد أن الرئيس جونسون خصم روبرت إف كيندي، هو الذي قدم القصة لبيرسون وأنه هو الذي حدد موعد نشرها.

ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى واحد من أهم الفصول المثيرة للدهشة في الكتاب التي تناولت الكراهية الشديدة للمثليين في تلك الفترة، التي كشفها فيلدستين من خلال التنقيب في هذا الأرشيف. فبعد أسابيع من تولي الرئيس نيكسون مقاليد الحكم، زود أحد مساعدي البيت الأبيض أندرسون بمعلومة كاذبة مفادها أن إتش آر هالدمان وإيرليتشمان كبيري مساعدي الرئيس مثليان، ومن ثم قرر أندرسون تعيين شخص لمراقبة منزل هالدمان ثم أطلع نائب مكتب التحقيقات الفيدرالي فيما بعد أنه علم بوجود دائرة شذوذ جنسي في البيت الأبيض.

وواكب هذا الأداء رد الإدارة على تسريب وثائق الهند - باكستان، من خلال رادفورد، موظف البحرية. سأل نيكسون، بحسب مذكرات إيرليتشمان، «هل موظف البحرية منحرف جنسي؟ ثم أخبر الرئيس فيما بعد معاونيه أنه يرغب من المحققين إيجاد ما إذا كانت العلاقة بين أندرسون ورادفورد «جنسية»، ومن ثم أوصى إيرليتشمان بوضع رادفورد تحت المراقبة أملا في الإيقاع به في وقت ما. وافق نيكسون على الخطة، التي كانت عبثية من بدايتها، لأن أندرسون كان لديه تسعة أطفال، ويتبع هو ورادفورد طائفة المورمون.

لم توجه الإدارة اتهاماتها إلى أحد، لكن نيكسون عبر عن غضبه تجاه أندرسون عندما قال للنائب العام جون ميتشل إنه «يود الإيقاع بهذا النذل أندرسون وتقديمه للمحاكمة. لكن أندرسون رد على ذلك بالتهديد بالكشف عن قصة أكثر حرجا من التسريبات نفسها: بأن رادفورد كان يتجسس على البيت الأبيض لحساب البنتاغون (حيث اعترف بذلك في شهادة له فيما بعد في الكونغرس).

وخلال نقاش آخر تحدث مساعدو البيت الأبيض حول أحد مساعدي أندرسون، فقال هالدمان: «هل لدينا شيء بشأن هيوم؟ سيكون من الرائع أن نثبت عليه المثلية الجنسية؟

سأل نيكسون: «هل هو متزوج؟».

وقال تشك كولسون، كبير مساعدي نيكسون إن علينا التأكد لأنه يبدو كذلك.

خمن الرئيس حينها أن بيرسون وأندرسون كانا مثليين أيضا، وهو ما كان أمرا غير دقيق، فقد تقاسم الاثنان شعورا معاديا للمثلية في مرحلة كانت المثلية الجنسية فيها تعني نهاية الحياة المهنية بالنسبة للشخص.

* لعبة القط والفأر

* تعرض هيوم لرقابة مكثفة من البيت الأبيض بعد نشر رواية عن وعد شركة «آي تي تي» بتقديم 400.000 دولار للحزب الجمهوري في مقابل الحصول على حكم من وزارة العدل يتيح للشركة إمكانية الاستحواذ على شركة تأمين. وقد أكد هيوم أن ديتا بيرد عضو اللوبي المؤيد لشركة «آي تي تي» كتبت مذكرة ذكرت فيها تفاصيل الاتفاق (وقال ميتشل «من المؤكد أن ذلك سيساعدنا، لكن لا يمكننا السماح بنشره، لذا من فضلكم دمروا تلك الأدلة)، وقد حاول البيت الأبيض إثبات زيف تلك المذكرة. وعندما أقر مكتب التحقيقات الفيدرالي بصحة الوثيقة، ضغط جون دين، مستشار نيكسون، على المكتب لتعديل تلك النتيجة. وعلى الرغم من احتقار هوفر لأندرسون فإنه رفض الطلب بوصفه غير لائق.

واصل أندرسون ونيكسون الصراع على هذا المنوال - بيد أن الاختلاف هو أنه الرئيس كان على رأس السلطة. فعلى الرغم من منع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من التجسس الداخلي فإنه حاول دفع بعض عناصرها على التجسس على أندرسون، وهو ما سخر منه أندرسون عبر ارتداء أبنائه زيا مشابها له وجعلهم يقودون سياراتهم في اتجاهات مختلفة.

في وقت لاحق من عام 1972 حاول رجال الرئيس دس أخبار مشينة عن أندرسون إلى الصحافة، ثم أرسلوا إليه رسالة مزورة من البيت الأبيض في محاولة فاشلة لابتلاع طعم سبق صحافي زائف.

تحولت لعبة القط والفأر إلى أمر بالغ الخطورة، عندما بدأ ليدي وإي هوارد هنت الناشطان في حملة نيكسون، التخطيط لقتل أندرسون. خطط الاثنان لاقتحام منزله في باثيسدا ودس السم له في الدواء أو وضع عقار الهلوسة على عجلة قيادة السيارة. وفي النهاية قرر ليدي طعنه بالسكين إن خنقه، وهو ما دعاه «انتحارا مبررا». وتساءل فيلدستين عن مدى جدية المؤامرات، لكنه أشار إلى أن ليدي وهنت اعترفا بتورطهما، حيث كتب ليدي عن ذلك في سيرتهما الذاتية.

* أساليب ملتوية

* لكن في الوقت الذي يتعاطف فيه المرء مع أندرسون كهدف لتلك المؤامرات، يذكرنا الكتاب بأن أندرسون استخدم هو الآخر أساليب ملتوية. فعندما كان يحشد جورج والاس قواه لمواجهة نيكسون في الانتخابات الرئاسية تساءل أندرسون حول ملفات دائرة الإيرادات الداخلية لحاكم ولاية ألاباما. فقد قدم موراي كوتينير، المساعد في البيت الأبيض وثائق ضريبية رسمية تدين والاس. دمرت الفضيحة والاس وخلص فيلدستين إلى أن أندرسون كان «مخادعا إلى حد بعيد» عندما امتدح نيكسون في عموده لرفضه وقف التحقيق.

كمراسل شاب اعترف أندرسون في وثيقة غير منشورة حصل عليها فيلدستين بالقول: «إنني أعتبر مثل هذه الصفقات دليلا على سخرية تبعث على الأسى»، وفي النهاية خدع أندرسون فريق نيكسون عبر حرق مصدره عندما نشر أن البيت الأبيض استخدم الصحيفة لتسريب تقارير والاس الضريبية والضغط عليه عبر التحقيقات الضريبة للقضاء على التهديد الذي يواجه إعادة انتخاب الرئيس. في عام 1973 سعى أندرسون للبحث في خلفية القائم بأعمال مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي إل باتريك غراي، للحيلولة دون ترشيحه بعد اعتقال مكتب التحقيقات لويتن شريك أندرسون بتهم ملفقة بتلقي وثائق سرية رفضتها هيئة المحلفين الكبرى. وبعد الشهادة في جلسات التصديق على تعيين غراي، قال فيلدستين، إن أندرسون قام بابتزاز ويب روبرت بيرد، أحد المشرعين الرئيسيين، للحيلولة دون تعيين غراي، فقام بيرد بقيادة جبهة الرفض لتعيين غراي واستخدم التساؤلات التي زودها بها أندرسون.

لعب أندرسون دورا ثانويا في فضيحة ووترغيت التي أسقطت نيكسون، وقد تراجع نفوذه بصورة تدريجية على مدى السنوات التالية. وعندما أجرى فيلدستين مقابلة معي عام 1992، ضمها الكتاب، أطلعته على قصة الشيك بقيمة 10.000 دولار دفعته شركة «إكسون» النفطية لأندرسون في أعقاب فضيحة التسرب النفطي، حيث زعم أنه لم يدرك دور «إكسون» وانسحب من المشروع. وعن المقابلات التي أجريت مع أندرسون في السنوات الأخيرة في حياته، حيث صارع مرض باركنسون والسرطان، يقول فيلدستين: «كان الرجل منسيا عندما التقيته، وأبدى سعادته بأن يذكره أحد. وكان الدرس من وجهة نظره هو إظهار مدى فساد السلطة مهما كانت مثالية بدايتك».

من ناحية أخرى، امتدح فيلدستين رئيسه السابق قائلا: «أعتقد أنه كان شجاعا إلى حد بعيد، وأنه قام بذلك في وقت لم يجرؤ فيه أحد على ذلك. وقدم بعض القصص الإخبارية التي كان لها الكثير من العواقب. إنه رجل ملحمي وفاسد إلى حد ما».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»