القرآن والمسجد والإعلام الأميركي

«إسلاموفوبيا» كانت واضحة بين السطور وفي ملامح الوجوه

TT

خلال الأسبوعين الماضين تضاعفت تغطية الإعلام الأميركي للإسلام والمسلمين لثلاثة أسباب:

أولا: خلدت الحكومة والشعب ذكرى هجوم 11 سبتمبر (أيلول) سنة 2001.

ثانيا: زاد النقاش في موضوع بناء مسجد في نيويورك بالقرب من مركز التجارة العالمي الذي دمره الهجوم.

ثالثا: هدد مسيحيون متطرفون بحرق القرآن الكريم.

أثارت الأخبار والتعليقات على هذه المواضيع الثلاثة الإعلام الأميركي مثلما لم يثِره شيء منذ فترة طويلة. ورغم ميول واضحة لكثير من الأجهزة الإعلامية لتقديم تغطيات محايدة، كانت الـ«إسلاموفوبيا» (الخوف من الإسلام) واضحة بين السطور، وفي ملامح الوجوه. وأهم من ذلك، في مغزى الصور التي نشرها التلفزيون ومواقع الإنترنت:

أولا: صور الطائرات تضرب مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاغون.

ثانيا: صور مظاهرات المسلمين، خصوصا خارج أميركا، وفي دول مثل باكستان وأفغانستان.

ثالثا: صور القوات الأميركية المسلحة، طائرات ودبابات وجنود، وهي تقاتل في العراق وأفغانستان.

وفي الأسبوع الماضي اشتكى صحافيون أميركيون من هذه الإثارة الإعلامية. واحد منهم هو جيم والي، رئيس تحرير مجلة «سوجورن» الدينية المعتدلة، ويعتبر واحدا من أشهر المعلقين الصحافيين الأميركيين، ليس فقط في المجال الديني، ولكن أيضا ككاتب أميركي. مؤخرا كتب: «يزيد عداء الأميركيين للمسلمين، لكن أيضا يزيد التعاون بين المسلمين وغير المسلمين، منذ هجوم 11 سبتمبر. ليس رغم الهجوم، ولكن بسببه».

وقال إن معارضة غير المسلمين، خصوصا كنائسهم ومنظماتهم، لخطة القس المتطرف تيري جونز، في غينزفيل (ولاية فلوريدا) بحرق القرآن، لعبت دورا كبيرا في تغيير رأي القس.

وأشار مراقبون في واشنطن إلى أن الرئيس باراك أوباما نفسه كان تدخل في موضوع المصحف، وأيضا نائبه جو بايدن، وأيضا الجنرال ديفيد بترايوس، قائد القوت الأميركية في أفغانستان، الذي اتصل تليفونيا بالقس المتطرف.

لكن أشار رئيس تحرير «سوجورن» إلى نقطتين:

أولا: لعب بعض رجال الدين والمهتمين بالموضوع دورا هاما (وكان هو واحدا منهم).

ثانيا: أهمل الإعلام الأميركي دورهم.

وهكذا وضع رئيس التحرير نفسه ناقدا لزملائه الصحافيين.

منذ قبل تهديد القس جونز كان رئيس التحرير يتصل بالأميركي المصري فيصل عبد الرؤوف، إمام مسجد نيويورك والمشرف على توسيعه ليكون مركزا إسلاميا، وزوجته الأميركية الباكستانية ديزي خان، ومساعدته في مشروع المركز. وكان يعرفهما منذ ما بعد هجوم 11 سبتمبر (سنة 2001).

وعندما كرر القس تهديداته وقال إنه سيحرق القرآن إذا لم يتوقف بناء المسجد، كتب رئيس التحرير: «حرق القرآن مقابل وقف بناء مسجد؟ الإساءة إلى كتاب يقدسه مليار شخص حول العالم مقابل بناء مسجد؟ مساومة رجل دين مسيحي غير مسؤول مع أكثر رجال دين مسلمين اعتدالا؟ هل يوجد هنا أي توازن أخلاقي؟».

وهكذا قرر رئيس التحرير أن يتحول من صحافي إلى ناشط، وكتب: «صباح اليوم التالي سألت نفسي: لماذا لا يتحرك الذين يشاركون القس جونز هذا الدين؟ لماذا لا يتحرك المسيحيون؟ لماذا لا أتحرك أنا؟ هو وأنا ننتمي إلى نفس الدين، فلماذا لا أتحرك؟» وأضاف: «أحسست أنني يجب أن أفعل شيئا، وأن علينا نحن المسيحيين أن نواجه القس جونز، وليس الإمام عبد الرؤوف، المسلم المحترم الذي أساء جونز إلى دينه».

في ذلك الوقت تلقى رئيس التحرير اتصالا تليفونيا من جيوف تانيكيف، مدير التحالف العالمي الانجيليكاني، والذي سأل عن كيفية مساعدة عبد الرؤوف. وقال إنه (تانيكيف) كان اتصل بالقس جونز وانتقده وحذره من حرق القرآن، وسأله: «هل تريد أن تقف إلى جانبي عندما أذهب إلى الشرق الأوسط لحضور جنازة قس مسيحي قُتل هناك بسبب حرقك القرآن؟».

وهكذا اتفق الرجلان المسيحيان، رئيس التحرير ورئيس التحالف العالمي الانجيليكاني على التحرك معا. واتصلا بعبد الرؤوف وزوجته، وحذراهما من مواجهة مع القس جونز الذي كان في طريقه من ولاية فلوريدا إلى نيويورك لمقابلة عبد الرؤوف.

وفي اليوم التالي اتصلا بهما مرة أخرى وقالا لهما إن القس جونز وصل فعلا إلى نيويورك، وينزل في فندق، وتحرسه الشرطة بعد أن قالت له إنها تلقت تهديدات بقتله.

وحسب تنسيق مسبق اتصل رئيس التحالف العالمي الانجيليكاني بالقس جونز في فندقه، وتحدثا لفترة طويلة، واستطاع إقناع القس، ليس فقط بعدم حرق القرآن، ولكن أيضا بالاعتذار.

في اليوم الثالث ترك القس فندقه إلى مطار نيويورك، وعاد إلى ولاية فلوريدا. وكتب رئيس التحرير أن الإعلام الأميركي بدا وكأنه لا يريد من القس أن يعود، وكان يود لو أن القس والإمام واجه كلاهما الآخر أمام كاميرات التلفزيون. وكتب: «كانت الإثارة لن تصدق. لكن عندما عاد جونز إلى كنيسته من نيويورك افتقد الإثارة الإعلامية، وافتقدته الإثارة الإعلامية».

واشتكى رئيس التحرير من أن الإعلام لم يسلط الأضواء على ندوة كان اشترك في ترتيبها، حيث تبادل رجال دين من طوائف مختلفة الآراء بهدف الوصول إلى آراء مشتركة. وقال: «لم تُثِر الندوة الإعلام المثير».

ليس فقط في موضوع حرق القرآن. في ولاية تنيسي، في ممفيس، حيث تعاون المركز الإسلامي هناك مع كنيسة محلية، وأقاما ندوات مشتركة، وجمعا تبرعات للفقراء، لم يهتم الإعلام كثيرا. اعتبرها «شيئا غير مثير».

واشتكى رئيس التحرير من أن غرام الإعلام الأميركي بالمواضيع المثيرة صار على حساب التقارب بين الأديان والأعراق والمنظمات والجمعيات التي يختلف بعضها مع بعض، وبدلا من أن يقربها الإعلام يزيد الاختلافات بينها.

وقال مراقبون في واشنطن إن رئيس تحرير «سوجورن» ينطلق من منطلق ديني، ويعتبر نفسه مثقفا دينيا، ولهذا يقدر على نقد عدم اهتمام الإعلام بالتقارب بين الأديان (والأعراق والأوطان). لكن يتردد الإعلام الأميركي، عبر تاريخه، عند التطرق إلى المواضيع الدينية. ويعكس هذا تقليدا صحافيا عريقا، وهو تحاشي التدخل في ما بين الناس وما يعبدون.

أضف إلى هذا أن الدين، وهو موضوع عاطفي وروحي، ليس مثل السياسة والاقتصاد، حيث يقدر الصحافيون على إصدار أحكام عقلانية. لهذا يحق لرئيس تحرير مجلة دينية أن يقول إن زملاءه لا يهتمون بتضييق الخلافات بين الأديان. لكن يقدر الزملاء على أن يقولوا إن وظيفتهم هي نقل الأخبار.