صحافة «المال والأعمال».. العمود الفقري للجرائد الكبرى ومنطقة جذب للإعلانات

ما بين التحقيقات إلى ما وراء العالم التقشفي للميزانيات وحسابات المصارف وملاحقة رجال الأعمال الفاسدين

صورة خاصة بـ «الشرق الأوسط» من داخل بورصة نيويورك
TT

هذه أيام قاتمة بالنسبة إلى الصحافيين الذين يعملون في مجال الصحافة المطبوعة: إننا مثل عمال السيارات لدى الطبقة الوسطى، نكدح في صناعة تعاني من الانهيار الهيكلي. بيد أن قائمة الصحف التي تحقق أعلى مبيعات في الصيف الحالي تقدم بعض الراحة للبائسين الذين يعملون في الصحف المطبوعة في العالم، خاصة في أحد الأقسام الأكثر إرهاقا مثل قسم المال والأعمال الذي يعاني صحافيوه من صعوبة إدارة الوقت وملاحقه مصادرهم، بينما يعد من أكثر الأقسام جذبا للإعلان والأرباح في الصحيفة.

إن بطل خيالنا الجماعي هو صحافي في منتصف العمر يعمل لدى صحيفة مطبوعة، يدعى ميخائيل بلومكفيست، السويدي الذي شارك في دور البطولة في ثلاثية الألفية لستيغ لارسون، والتي تسيطر على الشواطئ وصالات المطارات في الموسم الحالي.

وبالنسبة إلى الكتاب في مجال البزنس أو الأعمال، تعد شهرة بلومكفيست مرضية على نحو خاص. يعد الصحافيون في مجال الأعمال هم الأشخاص غير الاجتماعيين في صالة التحرير، حيث إنهم يفتقرون إلى البريق الخطير للمراسلين في مناطق الحروب والاقتراب من شهرة الكتاب في مجالي الرياضة والترفيه، وفخر العاملين في مجال الصحافة السياسية. يقدم بلومكفيست المعرفة بصحافة الأعمال بالتبعية، حيث تأخذه التحقيقات التي يجريها إلى ما وراء العالم التقشفي للميزانيات وحسابات المصارف إلى مواجهات مع ساديين في جهاز الاستخبارات السوفياتي السابق. والأفضل من ذلك، على الرغم من أنه أب منفصل عن زوجته لابنة بالغة، ومدخن يقوم برياضة الجري للمحافظة على رشاقة جسمه، إلا أنه جذاب للنساء. وإذا تمت إعادة تجسيد شخصية جيمس بوند باعتباره أحد المنادين بحقوق المرأة في السويد، لكان ميخائيل بلومكفيست.

هناك مشكلة واحدة فقط: يحتقر بلومكفيست التيار الرئيسي في صحافة البزنس تقريبا بقدر ما يشمئز من رجال الأعمال الفاسدين الذين يستهدفهم بصورة رئيسية. ويتهم بلومكفيست، الذي يكتب لصالح مجلة مستقلة ساعد على تأسيسها، الصحافيين في مجال الأعمال بالتقرب من أقطاب الأعمال الذين يغطون أخبارهم. ويشتكي قائلا إنهم يحظون بالنفاذ، لكنهم لا يقومون بالعمل «الحقيقي» المتمثل في كشف المخالفات بالشركات.

ومات لارسون، الذين كان يعمل في مجال الصحافة الاستقصائية، عام 2004، أي قبل الأزمة الاقتصادية. لكن إذا قام باستعراض الكتب المستوحاة من الانهيار الاقتصادي، لكان أكد على نقد بطل روايته لصحافة الأعمال. وجاءت أفضل كتابة حول الأزمة من الداخل إلى الخارج، بداية من تقرير بعنوان «أكبر من أن تنهار» لأندرو روس سوركين، وهو تقرير قوي وفوري عن وول ستريت عام 2008 وكان بمثابة أول مسودة للتاريخ في هذا العام المحوري.

وقد قدم مايكل لويس عملا أكثر ذكاء وأصالة في مقال له سرد فيه الأزمة من منظور مجموعة صغيرة من المستثمرين كانت لهم المعرفة والخبرة والجرأة على التنبؤ بالأزمة والاستفادة منها. لكن في حين كتب لويس عن المراقبين المتمردين، كتب لمحات مختصرة عن حياتهم وتجارتهم من منظور خارجي. وقال لويس في اعترافاته: «وجدت أنه من المستحيل كتابة قصة غير خيالية جيدة من دون تعاون عميق على غير العادة من الشخصيات موضوع الدراسة لدي».

ويعد لويس «ممتنا للغاية» لهذه الشخصيات للتعاون الذي قدمته له. ويعد سوركين، الصحافي وكاتب الأعمدة في صحيفة «نيويورك تايمز»، «ممتنا للغاية» إلى الشخصيات الخاصة به. يستطيع المرء أن يتخيل بلومكفيست يتحدث بغضب، لكن لا يجب عليك أن تكون ديمقراطيا اجتماعيا اسكندنافيا خياليا لتتمنى أن تركز صحافة الأعمال في الولايات المحتدة أكثر على مضايقة الأغنياء وأقل على تملقهم. وفي الربيع، نشرت الشخصيات الريادية في الصحافية الأميركية في مجلة «كولومبيا جورناليزم ريفيو» نقدا حادا لسوركين كتبه دين ستاركمان، الذي قال إن موضوع «أكبر من أن تنهار» على أحد الجانبين - الجانب الخاطئ - في «الصراع المصغر» بين «صحافة الصفقات وعمل الصحافيين المهتمين بالمساءلة».

وألقى هذا المقال الضوء على نحو ملائم على العمل الاستقصائي المهم الذي قام به الصحافيون مع «نهج أكثر مواجهة»، مثل غريتشن مورجينسون ودون فان ناتا الابن، وكلاهما من صحيفة «تايمز»، ومارك بيتمان من «بلومبيرغ نيوز»، الذي كتب سلسلة في عام 2007 تتنبأ بانهيار القطاع المصرفي. بيد أن الحقيقة الأكبر والأكثر تعقيدا بشأن الأزمة المالية هي أنها لم تحدث بسبب رجال الأعمال الفاسدين. والقصة الأكثر أهمية هي تلك التي ترتبط بالفشل النظامي، وليس الأخطاء الفردية. ولم يكن بيرناي مادوفس هو الذي أغرق العالم في براثن الكساد، بل كانت متطلبات رأس المال المنخفضة والقيود الضعيفة على الروافع المالية والمشتقات المالية التي يتم تداولها خارج المقصورة والقواعد المتساهلة بشأن إقراض الرهن العقاري والاختلالات المالية العالمية. وإذا تشتت انتباهك عندما تقرأ هذه القائمة من المصطلحات المجردة، فلست وحدك من يحدث له ذلك. توضح مجموعة متنامية من الأبحاث المعرفية شيئا عرفه المدرسون في المدارس والفنانون منذ وقت طويل: معظمنا يتجاوب مع القصص الشخصية على نحو أفضل من الأرقام والأفكار المبنية للمجهول. وهذا التحيز المعرفي واضح للغاية لدرجة أن ديبورا سمول، أستاذ التسويق في مدرسة وارتون، اكتشف أن العطاء الخيري ينخفض في الحقيقة إذا كان هناك الكثير من الإحصائيات في القصص الفردية للاحتياجات (وإذا حصلنا فقط على الإحصائيات ولم نعلم أي شيء بشأن القصص الشخصية، يكون العطاء أقل وأقل). في الواقع، تناسى أمر الحقائق تماما.

وبالنسبة إلى القراء، يعني نفس هذا التحيز أننا ننجذب إلى قصص حول الأفراد، وليس الأنظمة. وعندما يتعلق الأمر بالأزمة الاقتصادية، فإننا نريد أبطالا وأشرارا؛ نعد أقل تأثرا بالتقارير التحليلية للنظام المالي العالمي ودورة الازدهار والكساد. ووضعت مجلة «كولومبيا جورناليزم ريفيو» - وبلومكفيست - طرق صحافي «النفاذ» والصحافيين الاستقصائيين جنبا إلى جنب. لكن الانقسام الحقيقي قد يكون بين من يسردون القصص ومحللي الأنظمة. (وهذا واحد من الكثير من الأسباب في أن أي أحد مهتم بالأزمة المالية وأسبابها يجب أن يخوض أكثر في قائمة الصحف الأفضل مبيعا وأن ينغمس في دراسة «الأمر هذه المرة مختلف»، وهي دراسة واضحة وكثيفة على نحو غير مبرر لثمانية قرون من الأزمات المالية أعدها الخبراء الاقتصاديون كارمن إم رينهارت وكينيث إس روغوف.)

* تعمل كريستيا فريلاند، المحررة العالمية الحرة في «رويترز»، على تأليف كتاب حول النخبة الضخمة الدولية.

* خدمة «نيويورك تايمز»