جدل أميركي حول تحول الأنباء إلى سلعة مدرة للربح

الجهات الإعلانية تسعى لاجتذاب مشاهدين شباب وسط اعتقاد بأنهم غير مهتمين بالأخبار الجافة

TT

بدا قرار إيقاف كيث أولبرمان - أكثر مذيعي قناة «إم إس إن بي سي» ذوي الميول اليسارية إدرارا للمال وتشبثا برأيه - لفترة مؤقتة الأسبوع الماضي بسبب تقديمه تبرعات مالية لصالح مرشحين سياسيين ديمقراطيين، بمثابة عودة غريبة ومفاجئة لحقبة ولت على صعيد الصحافة التلفزيونية، عندما كانت الشبكات التلفزيونية تعتبر جمع ونشر أنباء حقيقية غير منحازة أمانة عامة موكلة إليها.

في ذلك الوقت، كانت ترمي السياسات الرافضة تقديم تبرعات سياسية لمنع أدنى احتمال للظهور بمظهر الميل لحزب سياسي معين. إلا أننا نجد اليوم أن أولبرمان يجتذب ببرنامجه أكثر من مليون مشاهد من أصحاب الفكر المشابه له تحديدا لكونه منحازا سياسيا على نحو قاطع وواضح من دون خجل. لذا، من غير الواضح ما الخطأ الذي انطوى عليه تقدمه بتبرعات سياسية. هل الخطأ أن هذا الإجراء جاء متوافقا مع النهج الذي يلتزم به في برنامجه؟

إننا نعيش الآن في عالم من قنوات الكابل الإخبارية التي تحتفي بآراء أولبرمان وراتشيل مادو ووكريس ماثيوز وسيان هانيتي وبيل أوريلي؛ وهم أفراد يحملون على عاتقهم مهمة تعزيز التوجهات الحزبية ويتلقون تشجيعا للمضي في ذلك من قبل المنظمات الأم المالكة للقنوات التي يعملون بها نظرا لما يحققونه من أرباح عبر أساليب التحليل والتعليق التي يتبعونها.

في الواقع، ينتابني الأسى حيال النجاح التجاري الذي تحققه «فوكس نيوز» و«إم إس إن بي سي»، ففي الوقت الذي يمكنني فيه تفهم المنطق المالي وراء السعي لاجتذاب المشاهدين عبر سيل من الآراء مصممة بهدف التأكيد على الآراء المتحيزة للمذيعين، فإن هذا التوجه لا يخدم الصالح العام. ومع ذلك، فإنه يشكل نتاجا طبيعيا لشعور متزايد بالأحقية الوطنية في ظل بيئة يجري خلالها إطلاق الآراء كما لو كانت حقائق على نحو يغيب عنه تماما تعليق دانييل باتريك موينيهان الذي يجري الاستشهاد به كثيرا: «من حق كل فرد أن يكون له رأيه الخاص، لكن ليس حقائقه الخاصة».

ويبدو كما لو أن أصحاب هذا النهج يتحركون انطلاقا من اعتقادهم بأن إحدى المزايا التي أرادها لنا الآباء المؤسسون التمتع بنشرات إخبارية من اختيارنا ووفق أهوائنا. كانت «فوكس نيوز» و«إم إس إن بي سي» قد بدأتا هذا النهج بالتأكيد على أن الحيادية المطلقة هدف يتعذر تحقيقه، لكنهما الآن لم تعودا تحاولان من الأساس الوصول إليه. وتسلط المحطتان الأضواء على العالم ليس كما هو، وإنما على النحو الذي يبغيه المشاهدون المخلصون لطرف سياسي ما. ويعد هذا النهج بالنسبة لعالم الصحافة تماما مثلما كان بيرني مادوف في عالم الاستثمار: لقد اعتاد أن يخبر عملاءه بما يودون سماعه، لكن بمرور الوقت اكتشفوا الحقيقية وأدركوا أن أموالهم ضاعت.

ويعد هذا النهج أيضا جزءا من القيم السائدة التي تنبذ الحقائق لصالح واقع مغطى بقشرة خارجية مثالية. والواضح أن صناعة الموضة تتبع هذه السياسة منذ سنوات، فعلى سبيل المثال، كشفت مجلة «إسكواير» مؤخرا أن سراويل «الجينز» الرجالي من إنتاج كثير من العلامات التجارية الشهيرة أكبر في حجمها عما تشير إليه البطاقة الملحقة بها. في المتوسط، جاء حجم الخصر الفعلي أكبر بما يتراوح بين ثلاث وست بوصات عما تشير إليه البطاقة.

المؤكد أنه عندما يخبرنا محاسبونا ومصرفيونا ومحامونا وأطباؤنا وسياسيونا فقط بما نأمل سماعه، على الرغم من وجود أدلة قوية تشير إلى النقيض، فإننا نتحرك نحو كارثة محققة. يكفي للتأكد من خطورة هذا الوضع النظر إلى صناعة الإسكان لدينا، والديون المرتبطة ببطاقات الاعتماد، وتكاليف حربين اعتمدتا على أموال مقترضة، وتفاقم العجز بالميزانية. ورغم أننا نعد الحقيقة فضيلة، فإن ذلك من الناحية التجريدية فقط. إن ما نحتاج إليه حقا في سعينا وراء الحقيقة سلعة اعتادت احتلال أهمية محورية في عالم الصحافة: الحقائق؛ بجانب الاستعداد لعرض هذه الحقائق من دون خوف أو ميل لصالح طرف ما.

منذ 40 عاما ماضية، سيطرت على المحطات الإخبارية مشاعر الخوف والبراءة، حيث خشي المسؤولون التنفيذيون بها من أن يسفر فشلهم في العمل على نحو يخدم «الصالح العام، وظروف المصلحة والضرورة»، حسب ما نص «قانون الراديو» الصادر عام 1927، عن إصدار «لجنة الاتصالات الفيدرالية» قرارا بتجميد أو حتى إلغاء تراخيصها. وأشارت المحطات الإذاعية الثلاث الكبرى إلى أقسامها الإخبارية (التي منيت بخسائر) كدليل على التزامها بتوجيهات «لجنة الاتصالات الفيدرالية». من منظور هذه المحطات، بدت القنوات الإخبارية أشبه بسلعة رخيصة سمحت لـ«إن بي سي» و«سي بي إس» و«إيه بي سي» بتبرير الأرباح الهائلة التي تجنيها من وراء أقسام البرامج الترفيهية.

أما في ما يتعلق بجانب البراءة، فإنه لم يخطر على بال كبار مسؤولي المحطات إمكانية استغلال البرامج الإخبارية في تحقيق أرباح.

وظل هذا الوضع قائما حتى كشفت قناة «سي بي إس نيوز» النقاب عن برنامج «60 دقيقة» عام 1968. عندما نجح البرنامج في تحقيق أرباح بعد قرابة ثلاث سنوات (الأمر الذي لم يحققه من قبل أي برنامج إخباري تلفزيوني)، بدأ النظر إلى الأقسام الإخبارية بالمحطات الثلاث الكبرى باعتبارها مراكز لتحقيق أرباح، بما يحمله ذلك من توقعات.

وأتذكر أنه أثناء اجتماع داخل واشنطن بعد عدة سنوات لاحقا تلقى خلاله مايكل إيسنر، الرئيس التنفيذي آنذاك لـ«ديزني»، الشركة الأم المالكة لـ«إيه بي سي»، أسئلة من مجموعة من مراسلي «إيه بي سي نيوز»، وقارن بين وضعنا داخل هيكل الشركة بوضع فناني «ديزني» الذين يبتكرون الشخصيات الكرتونية العالمية الشهيرة وتحمل اسم الشركة. (ويبدو أنه كان يهدف بصدق من وراء هذا التشبيه للثناء علينا). وأشار إيسنر إلى أنه عندما يتوقع من فناني الكارتون تخفيض ميزانياتهم، فإنه سيتعين علينا تنفيذ الأمر ذاته.

وقد طرحت كثيرا من الأسماء على إيسنر وسألته إن كان يعرف أيا منهم، لكنه أجاب بالنفي. وأوضحت له أن هؤلاء مراسلون لـ«إيه بي سي» ومصورون تعرضوا للقتل أو الإصابة أثناء العمل. ومع إعلاني كامل تقديري لفناني الكارتون لدى الشركة، أوضحت أن العمل مع طاقم عمل تلفزيوني في تغطية أنباء الحروب والثورات والكوارث الطبيعية أمر مختلف تماما عن فن الرسوم المتحركة. لكن قولي هذا لم يلق استجابة طيبة.

في نهاية الأمر، توصلت الشركات الأم للمحطات الثلاث إلى سبيل مشترك للتعامل مع المخاطر والنفقات المرتبطة ببناء مكاتب إخبارية بمختلف أرجاء العالم، وهو إغلاقها.

من ناحية أخرى، تأثرت أنا وبيتر جينينغز، وكنا قد انضممنا إلى «إيه بي سي نيوز» في غضون عام في مطلع ستينات القرن الماضي، بشدة بالفترة التي قضيناها في العمل كمراسلين بدول أجنبية. وعندما تحولنا إلى العمل كمذيعي ربط ومحررين إداريين للبرنامجين اللذين كنا نعمل فيهما، جاهدنا لضمان استمرار الأنباء الأجنبية كعنصر مهم.

ظهيرة أحد الأيام، اتصل بي بيتر في منتصف ثمانينات القرن المنصرم ليستفسر مني حول ما إذا كنا في برنامج «نايت لاين» نتلقى التساؤلات ذاتها التي يتلقاها هو والمنتجون ببرنامج «وورلد نيوز تونايت». وكنا بالفعل قد تلقينا اتصالات من محاسبين بالشركة ينصب اهتمامهم الأول على الكم، وليس الكيف، ليستفسروا منا حول عدد المرات التي استفدنا خلالها من مكتب خارجي ما خلال العام السابق. ومع حصولهم على البيانات اللازمة، توصل المحاسبون إلى معادلة بسيطة: تقسيم تكاليف تشغيل مكتب ما على عدد القطع التلفزيونية التي أنتجها. وبطبيعة الحال، كانت تبدو التكلفة باهظة للغاية على لا نحو لا يبرر ترك المكتب كما هو. وأدت إجراءات تقليص التكاليف إلى خفض بالغ في الميزانيات، ثم إغلاق مكاتب تماما في النهاية.

وتؤكد المحطات أنها لا تزال محتفظة بمكاتب لها في مختلف أرجاء العالم، لكن في الوقت الذي كنت فيه واحدا من بين قرابة 20 أو 30 مراسلا، في ستينات القرن السابق، يعملون بمكاتب تعمل بها فرق عمل كاملة في أكثر من 12 عاصمة كبرى، فإن لفظ «مكتب» حاليا بات يعني في الغالب شخصا محليا قادرا على حل المشكلات والحديث بالإنجليزية يساعد منتجا زائرا أو مراسلا. الملاحظ أن كثيرا من الأميركيين اعتادوا التجمع حول التلفزيون كل مساء أثناء عرض «والتر كرونكيت» و«تشيت هنتلي» و«ديفيد برينكلي» و«فرانك رينولدز» و«هيوارد كيه». لتحليلات إخبارية غير متحيزة نسبيا، ترى المؤسسات الإخبارية التي يعملون لديها أن الرأي العام بحاجة للاطلاع عليها. وسمح هذا الوضع، بل وربما شجع، على وجود وجهات نظر مشتركة، بل وإمكانية التوصل لحلول وسطى بين أصحاب الآراء المختلفة.

وبدت هذه الفترة أشبه بـ«جنة عدن» غير مثالية أو منظمة تماما، حيث سعى المراسلون وراء جمع حقائق حيال قضايا مهمة. ولم ندر حينها أن هذا الأمر قد يتحول إلى مصدر ربح. حينذاك، لم يكن أحدا قد تذوق التفاحة المحرمة بعد.

الواضح أن تحول الأنباء إلى سلعة مدرة للربح أمر من المتعذر وقفه، حيث تخوض فيالق الإعلام الجديد منافسة لا هوادة فيها. وتسعى الجهات الإعلانية بكل جد لاجتذاب مشاهدين شباب، في وقت يسود فيه اعتقاد بأن هذه الشريحة من المشاهدين غير مهتمة بالأخبار الجافة، خاصة تلك المرتبطة بالخارج. وجاء هذا الاعتقاد متوافقا مع هوى الشبكات الكبرى بالنظر إلى التكلفة الضخمة لتغطية أخبار دول أجنبية. في الوقت ذاته، ازداد بشدة الميل إلى إبداء التمسك بالآراء، حتى وإن كانت غير مدعومة بحقائق. وترى الشبكات أن مثل هذا الحديث لا يكلف كثيرا.

حاليا، تفوقت على المحطات الإخبارية عشرات الخيارات الإعلامية الأخرى، خاصة أن الحاجة إلى الصحافة الواضحة الموضوعية في عالم يعج بأصولية دينية واعتماد اقتصادي متبادل ومشكلات بيئية عالمية متفاقمة، أصبحت أكثر من أي وقت مضى. لكننا لم نعد جمهورا وطنيا يستقي الأنباء من بضعة مصادر موثوق بها، وإنما أصبحنا مجموعات مليونية من العملاء نحصل على المعلومات من جهات إمداد تتبع نهجا فكريا مشابها لنا.

وكما تعلمون، فقد عاد أولبرمان لبرنامجه في «إم إس إن بي سي» بعد إجباره على الغياب ليومين. (في ظل الوضع الإعلامي الراهن، قد يبدو اليومان وكأنهما وقف عن العمل لأجل غير مسمى). وفي تعليقه على الأمر، كان أولبرمان لبقا، حيث اعترف على الأقل بفائدة القاعدة التاريخية التي خرقها، قائلا: «إنها ليست قاعدة غبية، وإنما بحاجة لتعديلها كي تتناسب مع واقع صحافة القرن الـ21».

ويشير الواقع إلى أنه ليست هناك احتمالية لأن يحدث العكس وتعدل صحافة القرن الـ21 من نفسها للتوافق مع القواعد القديمة. إن التكنولوجيا والسوق تعرضان مجموعة واسعة من القنوات، كل منها مصمم لتناول فئة معينة من القضايا - رياضة أو طقس أو طهي أو دين - بجانب مجموعة متنوعة من القوات الإخبارية المستعدة لعكس وجهات نظرنا وميولنا.

* تيد كوبل عمل رئيس تحرير إداريا لبرنامج «نايت لاين» خلال الفترة من 1980 - 2005 ويعد من المحللين الذين يسهمون في «بي بي سي وورلد نيوز أميركا»

* خدمة «واشنطن بوست»

* خاص بـ«الشرق الأوسط»