وسط تراجع واسع لقطاع الصحافة.. ارتفاع أرباح الراديو الوطني العام الأميركي

3.4% تراجع نسبة مشاهدة الشبكات التلفزيونية والصحف 5% والمجلات 9%

ارتفاع أرباح الراديو الوطني مخالفا باقي قطاعات الصحافة الأميركية («نيويورك تايمز»)
TT

تترقب الأوساط الصحافية في الولايات المتحدة إصدار مؤسسة «بيو بروجكت فور إكسلنس»، تقريرها السنوي حول حالة الإعلام، وقد لا يثير الأمر دهشة لديك إذا علمت أن الصحافة لا تزال تشهد تراجعا واسعا.

لا تزال الأخبار تتوالى، فللمرة الأولى على الإطلاق يزيد عدد قراء الصحف على الإنترنت عنهم في الصحف الورقية. سيكون ذلك مفيدا لك إن كنت تسعى لإنتاج تطبيق أحدث يساعد على مزيد من القراءة على الإنترنت، لكن الإفادة لن تكون مماثلة إن كنت صاحب واحدة من المؤسسات الإعلامية التي تناضل للحصول على مكانة لها. وعلى صعيد متابعة الشبكات الإخبارية، تراجعت نسبة الإقبال على مشاهدة الشبكات التلفزيونية بنسبة 3.4 في المائة، أما الصحف فقد تراجعت نسبة الإقبال عليها بواقع 5 في المائة، والراديو بنسبة 6 في المائة، فيما انخفض الإقبال على المجلات بنسبة قاربت الـ9 في المائة.

وسط كل الدمار الخلاق، لم تفلت سوى مؤسسة إخبارية تقليدية واحدة هي التي زادت أعداد متابعيها وقرائها ومراسليها والأبرز في ذلك كانت عائداتها أيضا.

وأوضح تقرير حالة الإعلام الذي تصدره «بيو بروجكت»، أن نسبة متابعي الراديو الوطني العام ارتفعت 3 في المائة عام 2010، لتصل إلى 27.2 مليون متابع لها أسبوعيا، وما يمثل ارتفاعا بنسبة تصل إلى 58 في المائة عن الرقم الذي كانت عليه عام 2000. من ناحية أخرى ارتفع عدد العاملين فيها بنسبة 8 في المائة، ويجتذب موقعها على الإنترنت «npr.org» 15.7 مليون زائر شهريا، بزيادة تتجاوز 5 ملايين زائر، وفي الوقت ذاته لا تزال مكاتبها وبصمتها العالمية في ازدياد في الوقت الذي يتضاءل فيه حجم القنوات الإذاعية الأخرى في الولايات المتحدة.

ورغم تلقي الراديو الوطني العام قسما صغيرا من ميزانية تشغيله من الأموال الحكومية، فإن ملايين الأفراد يعتقدون أيضا أن ما يقدمه الراديو من مضمون إخباري جدير بما يتلقاه من الأموال التي تجمع عبر التبرعات، وهي الصفة التي عجزت وسائل الإعلام الأخرى عن أن تتسم بها.

المشكلة هي أن الراديو الوطني العام بات مؤخرا مصدرا للأنباء العاجلة منه كشبكة إخبارية، عندما بدأت مشكلاته قبل 5 أشهر مع الإقالة السريعة للمحلل السياسي جوان ويليامز عقب إساءته للمسلمين على «فوكس» عندما أشار إلى أنه بات يخشى من الدخول إلى المطارات، تبعه في يناير (كانون الثاني) استقالة إيلين ويس نائب رئيس قطاع الأخبار في المحطة بعد تقرير لمجلس الإدارة وجد فيه أن إدارتها للقطاع لا تتسم بالكفاءة.

كما شهد الثلاثاء الماضي انتشار مقطع للفيديو على الإنترنت ظهر فيه رونالد تشيلر، المدير التنفيذي لجمع التبرعات للراديو الوطني العام، الذي تم تصويره خلال اجتماع على مائدة الغداء مع أفراد ادعوا أنهم مسلمون (ما هي العلاقة بين المسلمين والراديو الوطني العام على أية حال؟) حيث تحدث تشيلر بعبارات نابية عن حركة حزب الشاي، وهو الأمر الذي اضطر تشيلر، الذي كان يخطط لمغادرة الراديو بالفعل إلى الاستقالة قبيل موعده.

كما شهد اليوم التالي لتلك الواقعة، استقالة فيفيان تشيلر، المديرة التنفيذية للراديو الوطني العام في أعقاب لقائها مع مجلس الإدارة. ويوم الخميس تم سماع أحد جامعي التبرعات للمحطة في تسجيل سري يتحدث إلى نفس المتبرعين الوهميين، مشيرا إلى أن تقديم التبرعات دون الإفصاح عن أسماء مانحيها سيبعد المراقبين الفيدراليين، وتقول إنها في إجازة.

وقد حاول مجلس إدارة الراديو إقالة هؤلاء الأفراد المثيرين للجدل لتخفيف الضغوط التي يمارسها الجمهوريون في مجلس النواب والساعون إلى حجب الأموال المقدمة إلى الإذاعة العامة، لكن يبدو أن ذلك لا يجدي نفعا.

لكن حتى وإن لم يتعلق الأمر بكل الأخطاء التي ربما يكون الراديو قد ارتكبها، سيضطر الراديو الوطني العام إلى الحذر في الفترة المقبلة، فالعجز الذي تشهده الميزانية يجد الكثير من الأفراد في الحكومة يتبعون نهجا غاية في التشدد في محاولة لتقليص النفقات الحكومية، وسيكون من الصعب الاحتجاج بأن تقديم الأموال من أجل الأخبار والخدمات المعلوماتية يدخل ضمن صميم ما ينبغي على الحكومة القيام به.

ويقول ديمنت، النائب الجمهوري عن ولاية كارولينا الشمالية: «القضية بشأن استخدام أموال دافعي الضرائب في تمويل إذاعة عامة لا تتعلق بمن يستحق الحصول على العمل ومن يطرد، إنما هي مسألة بشأن حقيقتين بسيطتين: لا يمكننا توفير ذلك، وهم ليسوا بحاجة لذلك».

وقد أثارت هذه القضية - استخدام أموال دافعي الضرائب في تمويل الإذاعات العامة - نقاشا واسعا لا في الولايات المتحدة الأميركية فقط، بل في أوروبا أيضا، التي عرفت على مدار التاريخ بأنها ملجأ للمؤسسات الإعلامية الممولة من قبل الدولة، ففي عام 2009، فيما يعرف الآن باسم الخطاب سيئ السمعة، أدان روبرت ميردوخ، صاحب مؤسسة «نيوز كوربوريشن» إجباره على المنافسة مع إذاعة «بي بي سي» الممولة من قبل الدولة، مشيرا إلى أن مدى نشاطاتها وطموحاتها يتوسع بصورة كبيرة، وأن القطاع الخاص قادر بشكل تام على القيام بذلك الدور.

وأشار في خطابه أيضا إلى أن «الضمان الوحيد الدائم والموثوق به للاستقلال هو تحقيق الأرباح».

سأحاول التغاضي عن المزحة التي أطلقها رئيس «نيوز كوربوريشن» بشأن الاستقلال الصحافي، وأشير إلى أن المنفعة الذاتية لا تكمن في إرسال الكثير من المراسلين إلى أماكن الصراعات البعيدة لتغطية الأحداث الساخنة. فلن تتمكن قناة معينة من توفير الأموال اللازمة لتغطية الحرب التي دارت أحداثها في العراق على مدار ما يزيد على العقد، لكن «بي بي سي» والراديو الوطني العام تمكنا من الوجود هناك طوال تلك الفترة. وقد تولدت لدى بعض القنوات الكابلية وبعض المحطات التلفزيونية الرغبة في تغطية الأحداث الجارية في ليبيا، لكن عددا بسيطا من المحطات استطاع مواصلة التغطية التي قامت بها الشبكتان الأكثر انتشارا في العالم. وقد دفعت «بي بي سي» ثمنا عزيزا في الأسبوع الماضي عندما اعتقل 3 من صحافييها وتم الاعتداء عليهم جسديا خلال محاولتهم تغطية قصة صحافية.

وكان الكثير من قادة الكونغرس، ومن بينهم ديمنت، قد أكدوا أن خدمة الأخبار في الراديو الوطني العام تقدم كمكملات لوجبة دسمة تحوي قدرا كبيرا من الآيديولوجيا الليبرالية. وهذا صحيح إلى حد ما. فقد كان الراديو الوطني العام أكثر اعتدالا منه تطرفا، ولكن ليس كما يبدو وكأن لديه أجندة سياسية واضحة. العمل في الإذاعة العامة ربما يوجب عليك اللجوء إلى أنواع معينة من المساعدات الحكومية، كالإذاعة العامة على سبيل المثال.

ففي التسجيل الذي حمل تصريحات تشيلر السرية، تبدو أنها تتفق وتوفر الكثير من الذخيرة لمنتقدي الراديو الوطني العام، حتى مع الاقتراحات بأنه ربما يكون من الأفضل أن يستغني عن المال العام على المدى الطويل. ولم تقتصر تصريحات تشيلر على أعضاء حركة حزب الشاي من العنصريين، ولكنه أتبعها بمحاضرة مسهبة عن المشروبات الكحولية - التي لا تشكل موضوعا مثيرا للاهتمام لدى الحديث إلى مسلمين ملتزمين حتى وإن كانوا مدعين - ومن ثم عزز الشائعات التي تثار عن معلقي الراديو العام الوطني بأنهم مجموعة من مدمني الخمور الذين يمقتون المحافظين، لكن المناقشات المتحيزة تتجاوز الهدف منها. والحقيقة أن إذاعة الراديو الوطني العام، ليست على موقع «دوت كوم» الشهير، بل هي على موقع «دوت أورغ»، ولذا فهناك الكثير الذي يمكن أن يقال عن نجاح هذه المحطة في كونها استطاعت الوصول إلى هذه الجماهيرية. ففي المدن المنتشرة في أنحاء الولايات المتحدة تجبر الصحف والمحطات الإذاعية التجارية، في كثير من الحالات على التخلي عن طموحاتها في تقديم التقارير، حتى إن الصحف الأكبر والأبرز لا تستطيع تحمل تكلفة تغطية أخبار العالم، أو حتى دولة واحدة على نطاق واسع ومن هنا يأتي تميز الراديو الوطني العام.

وقد واصل بيل كلينغ، أحد أعضاء مجلس الإدارة المؤسسين لراديو مينيسوتا الوطني ومقدم برامج، تقديم برنامج ضخم هو «أميركان بابليك ميديا». وأكد أن النسخة الحالية من الراديو الوطني العام كانت قطارا ضخما عظيما يتحرك هبوطا على مسارات قديمة متهالكة.

وقال كلينغ: «كان الراديو الوطني ضحية لنجاحه، فلم ينضج في جانب الإدارة بنفس السرعة التي تقدمت بها قدراته الإخبارية. ويسيطر على إدارة البرامج مجلس مؤلف من المحطات الأعضاء التي لا تزال تفكر في الأمر كمقدم برامج لمحطاتها لا كشركة إعلامية عملاقة كما هو الحال الآن».

وعلى الجانب الآخر، كان من بين العوامل التي أدت إلى تميز الراديو الوطني العام وارتفاع أسهمه، استخدام ذلك القدر الضئيل من التمويلات الحكومية في إنتاج سلسلة كبيرة من البرامج - مثل «الطبعة الصباحية» وبرنامج «كل ما يهمك» وبرامج أخرى - جذبت المستمعين النهمين للأخبار في جميع أنحاء البلاد.

لكن ذلك لا ينهي النقاش بشأن عملية التمويل، فالولايات المتحدة تمر بأزمة اقتصادية قاسية والأموال التي توجه إلى الراديو الوطني العام والتي توجه في مناخ يهاجم فيه الموظفون العامون بالتبديد وعدم الكفاءة، ستجعل من الصعب التأكد من قيام الراديو الوطني العام، على الرغم من كل الهزل الماجن الذي تشهده قاعة مجلس الإدارة، من القيام بهمته حيث ينبغي أن تكون.

* خدمة: «نيويورك تايمز»