المراسلون الأجانب في طرابلس يعيشون عالم «تلفزيون الواقع»

يستيقظ الصحافيون كل بضعة أيام ليكتشفوا أن عددهم تآكل بسبب الترحيل

لم تنجح محاولات النظام الليبي مع الإعلام الغربي في تجميل صورته («واشنطن بوست»)
TT

تبث السماعات المنتشرة في كل غرفة بالفندق الذي يقيم فيه الصحافيون الحياة وتتنبأ بالإعلان عن مؤتمر صحافي أو ربما رحلة بالحافلة إلى موقع قصف بسلاح الجو أو مدرسة تزخر بالطلبة الذين يرددون شعارات مؤيدة للقائد الليبي معمر القذافي.

يأتي الاستدعاء دون سابق إنذار في أكثر الأحوال؛ لذا يجلس الكثير من الصحافيين يحتسون القهوة في بهو الفندق الفخم ذي الأرضية المكسوة بالرخام حتى لا يفوتهم أي حدث. وبين الحين والآخر يشق صوت القذافي الذي لا تخطئه الأذن جزيئات الهواء بلا توتر وهو يصيح قائلا إن الثوار الذين يقاتلون في الشرق فئران وإنه سيصطادهم جميعا. لكنه هذه المرة رنين الهاتف الجوال لأحد الحراس التابعين للنظام، للخطاب الذي ألقاه القذافي في بداية الثورة. وانتشرت نغمة الرنين هذه بين مؤيديه هنا. وتمر الأيام في العالم الذي يشبه برنامج «تلفزيون الواقع» «بيغ براذر» (الأخ الأكبر) في فندق «ريكسوس» في طرابلس، حيث تجبر الحكومة الصحافيين الأجانب على الإقامة في ظروف أشبه ما تكون بظروف السجن الفخم، حيث توجد أحواض استحمام في كل غرفة، ومسبح فخم، وحرس مسلحون بأسلحة الكلاشنيكوف على البوابة. ومهمة الحرس واضحة، وهي عدم السماح للصحافيين بالخروج ولا للدخلاء بالدخول.

في أول أيام الصراع عندما دعا نظام القذافي 130 مراسلا صحافيا أجنبيا إلى زيارة طرابلس في لحظة نادرة من الانفتاح، كان هناك على الأقل تظاهر بالسماح للصحافيين بالقيام بمهمتهم بحرية، وعلى الرغم من أنه كان من المرجح أن يتعرض الصحافيون الذين يتسللون إلى المناطق الحساسة أو مناطق القتال إلى الاعتقال لساعات في أكثر الأحوال، فإنه كان يتم السماح بالدخول إلى وسط طرابلس. ومن هناك كان من الممكن التسلل إلى أحياء أخرى ومقابلة ليبيين عاديين والتعرف على أحوال المدينة. لكن منذ المعركة غير المبررة التي حدثت بالقرب من الفندق صباح يوم الجمعة، تم حظر خروج أي شخص دون حراسة. وكُلف حراس ليبيون مراقبة الصحافيين حتى أثناء ذهابهم إلى محل البقالة على الجانب المقابل من الشارع لشراء شوكولاته أو شامبو. ويقول مسؤولون في الحكومة إن هدف القيود المفروضة على الصحافيين حمايتهم. وأوضح موسى إبراهيم، كبير المتحدثين باسم الحكومة في مؤتمر صحافي مؤخرا قائلا: «إن الأسلحة في كل مكان لأننا نسلح الناس. إنهم يعتقدون أن الإعلام العالمي جزء من المؤامرة التي تحاك ضدنا. إن هذا خطر عليكم».

لكن أكثر الليبيين الذين تقابلهم مصادفة في الطريق ودودون، لكن التهديد الحقيقي يأتي من داخل العالم المغلق الذي تفرض عليه عقوبات. واقتحم مؤيدون غاضبون للقذافي الفندق مرتين لإدانة الصحافيين الغربيين وأخذوا يهتفون: «مراسل مراسل» على وزن «زنقة زنقة» التي أطلقها القذافي في خطابه الذي توعد فيه بمطاردة المعارضين.

مكالمات هاتفية بعد منتصف الليل يستيقظ الصحافيون كل بضعة أيام ليكتشفوا أن عددهم تآكل بسبب الترحيل. يوم الأحد الماضي دامين ماكلروي الصحافي في جريدة «ديلي تلغراف» في لندن، الذي تلقى مكالمة هاتفية بعد منتصف الليل تخبره أن سيارة ستكون في انتظاره في الصباح لتقله إلى الحدود التونسية، وقال الشخص المتصل قبل أن يغلق سماعة الهاتف: «إنك تعرف ما فعلته». وكان ماكلروي رابع صحافي يتم إعطاء أوامر بترحيله خلال أقل من 3 أسابيع بسبب جريرة لم يخبره أحد ما هي. وتم تحذير البعض الآخر من أنهم على قائمة المرحلين في المستقبل.

وحذر أحد المسؤولين الحكوميين صحافيا يعمل لدى مؤسسة إخبارية أميركية قائلا: «يظن الناس أنك قذر». بدا التهديد متمثلا في قوة أصوات الطلقات النارية التي يتردد صداها حول الفندق في قلب الليل. لكن حتى داخل ذلك القفص الذهبي من الممكن إدراك ما يجول في عقل نظام القذافي، أو على الأقل معرفة بعض أسباب ثورة المواطنين الذين أدركوا وجود عالم مغاير في السنوات الأخيرة من خلال شبكة الإنترنت والقنوات التلفزيونية الفضائية. وقال ماكلروي: «إن طريقة إدارتهم للإعلام لا تختلف عن طريقة إدارتهم للدولة. إن هذا يجعلنا نفهم شكل الدولة وحال المواطنين الليبيين العاديين».

واقع مواز إن رحلات الحافلات مرتبة ودائما ما تبدأ بمظاهرة عفوية لمؤيدي القذافي الذين يتصادف وجودهم أينما يظهر الصحافيون. لكن بعيدا عن أسماع الحكومة يتجه مواطنون ليبيون إلى صحافيين ويعبرون عن آراء معارضة للنظام وهو ما يشير إلى أن المدينة ما زالت تعج بالغضب المكبوت بعد 6 أسابيع من قمع الثورة.

تبدو المؤتمرات الصحافية في عوالم موازية؛ فقد بدأ أحد المتحدثين بتوبيخ صحافيين بسبب عدم إظهار الاحترام اللائق للقذافي. وقال العقيد ميلاد حسين، المتحدث باسم الجيش، بصرامة أمام مجموعة من الصحافيين: «الأخ القائد معمر القذافي لا ينتمي إلى الليبيين وحسب، بل إلى البشر جميعا بمن فيهم نحن».

وأعلن مسؤولون حكوميون وقف إطلاق النار، ثم وبخ آخر مراسلين صحافيين بسبب عدم توضيح أن الجيش الليبي يلتزم بوقف إطلاق النار. لكن حتى مع إعلان الحكومة وقف إطلاق النار، تورد شبكات تلفزيونية أخبارا عن قتال على الخطوط الأمامية. يبدو أن مسؤولين شعروا بالغضب من تشكك صحافيين من مزاعمهم بشأن المصابين من المدنيين في غارات قوات حلف شمال الأطلسي رغم عدم تقديمهم أدلة على وجود عدد كبير من المصابين.

يجد أكثر الليبيين أنفسهم داخل عالم مغلق أيضا. فقد تم قطع شبكة الإنترنت خلال الشهر الماضي، كذلك تم قطع بث القنوات التلفزيونية الفضائية. ووجد بعض الليبيين طريقة للتحايل على ذلك، لكن يظل التلفزيون الرسمي الذي يذيع الموسيقى العسكرية وصورا لمسيرات جنود وحشود تتغنى بفضائل القذافي، هو مصدر المعلومات الوحيد لكثيرين.

ولهذا السبب كان هياج إيمان العبيدي، التي تم طردها من الفندق وهي تصرخ بعد محاولتها أن تروي قصة اغتصابها على أيدي كتائب القذافي، أمرا فاضحا. ففي لحظة جسدت الواقع المرير الذي يعيشه الليبيون والذي يحاول النظام بكل ما في وسعه أن يمنع الصحافيين من رؤيته.

لقد وعد النظام أكثر من مرة بالسماح لبعض المراسلات بعمل مقابلة مع إيمان العبيدي، لكن قيل لهم يوم الأحد إن المقابلة لن تتم. وأخبرت محامية إيمان، كما قدمها مسؤولون في الحكومة، مراسلا بأن إيمان لا ترغب في التحدث إلى صحافيين لأن هدفها هو «الحصول على حقوقها وهو ما يحدث حاليا». في العالم الليبي الذي للكلام فيه أكثر من وجه، لا يمكن معرفة ما معنى هذا.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»